ورشة تفكير ونقاش: “يوم الجامعة اللبنانية”

Views: 160

إعداد: د. مصطفى الحلوة 

انتصارًا للجامعة اللبنانية، جامعة الوطن، كان يومٌ مشهودٌ (14/ 10/ 2022)، في إطار ورشة تفكير ونقاش، دعا إليها “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” (جبيل- قاعة المحاضرات 1188)، تحت عنوان: “يوم الجامعة اللبنانية “، حيث تمرُّ بظروف بالغة الصعوبة، لم تشهدها منذ نشأتها في العام 1951، وهي من تداعيات الأزمة العامة، التي يعيشها لبنان راهنًا، على إيقاع انهيار مالي واقتصادي ومعيشي غير مسبوق، يُشارف حدّ الكارثة. وقد اتسمت الورشة بحضورٍ وازن، في عِداده عددٌ من عمداء الجامعة اللبنانية وأساتذتها وطلبتها، إلى ممثّلي فاعلياتٍ تربوية واجتماعية ومهتمّين. مهّد للجلسة الافتتاحية د. مصطفى الحلوة، وكانت كلمة لرئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، استهلّها مرحِّبًا بسعادة رئيس الجامعة اللبنانية، ومعالي د. عدنان السيد حسين ، الرئيس الأسبق للجامعة ، وبسائر أهل الجامعة ، أساتذةً وطلابًا ، كما بجميع الحضور الذين أتوا من مناطق مُتعدّدة ليعلنوا تضامنهم مع جامعتنا الوطنية . وقد توقّف د. العكره عند الأنشطة والفعاليات البحثية ، التي يقوم بها “مركز تموز” المتّسمة براهنيّتِها: موضوعاتٍ وإشكاليات ، بما يُحقّق ، نهاية المطاف ، العبور إلى دولة المواطن ، دولة الحق والقانون . وأعرب عن حملِ “المركز” قضية الجامعة اللبنانية والسير بها حتى خواتيمها ، لأن استمرارها من استمرار الوطن ، وانهيارها مؤّشرٌ على انهياره . 

أعقَبَ ذلك كلمة رئيس الجامعة اللبنانية البروفسور بسّام بدران، الذي توجَّه بالشكر إلى “مركز تموز”، لتنظيمه هذه الورشة وتضامنه مع الجامعة الوطنية . وإذ نوّه بما أنجزته الجامعة، بجهودِ رؤسائها السابقين، وبفضل أساتذتها وموظفيها وطلبتها ، قال إنّ قضايا الجامعة التاريخية (المزمنة) تتمحورُ حول قضية استقلاليتها المصادرة ، وملف تفريغ الأساتذة ، والمجمّعات الجامعية في المناطق ، ومراكز الأبحاث ، والأوضاع المالية والاجتماعية للأساتذة والموظفين ، والمنح الجامعية ، وهذه القضايا جميعها هي من مسؤولية الدولة أساسًا . وأضاف البروفسور بدران أن عمل رئاسة الجامعة ينصبُّ اليوم على الأمور التشغيلية ، كتأمين المازوت والمياه ، وما سوى ذلك ، مُتسائلاً : هل هذا هو الدور المنوط بالإدارة الجامعية ؟ وأشار إلى أن الجامعة لم تحصل إلاّ على النزر اليسير ، الذي يسمح بانطلاقة العام الجامعي “حضوريًّا ” ، وقد قبلنا بالمُستطاع ، كوننا نتفهّم العجز الكبير الذي تعاني منه الموازنة العامة ، رافضًا أن تبقى الجامعة اللبنانية أسيرة هذا الوضع القلق . وفي مواجهة هذا الواقع ، أعرب عن نيّتِه ، وبالتعاون مع المخلصين ، تحويل الجامعة إلى مؤسّسة علمية بحثيَّة مُنتجة ، من خلال إنشاء مصنع للأدوية ، وفي جعل الخدمات مدفوعة ، وهي الخدمات الصحية والهندسية والقانونية ، التي تُقدِّمها الجامعة للقطاع العام وللمؤسسات الخاصة ، مما يُسهم في تطورّها مستقبلاً . وأنهى البروفسور بدران قائلاً : إن مصير الوطن مرتبط بمصير الجامعة ، والعكس صحيح . 

ثم كانت كلمة منسِّق أعمال الورشة ، وعضو الهيئة الإدارية في “مركز تموز” عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية البروفسور كميل حبيب ، فاستهلّ بقوله إنَّ كل يوم يجب أن يكون يوم الجامعة الوطنية . ومما جاء في كلمتِهِ أنّ معاناة الجامعة هي اليوم من معاناة الوطن ، وكأنّ حبل السُرَّة هو ما يربُط بينهما . وأضاف أن الجامعة اللبنانية ، لئن أُهملت من قبل منظومة فاسدة ، وتَنكّر لها بعض أهلها ، فهي ستبقى وفية لرسالتها ، ومتمسِّكةً بإنجازاتها ، وستكمل مسيرتها بمن بقي من أهلها الذين ما زالوا على صمودهم ، بإزاء الحالة المتردِّية التي تعيشها الجامعة . وأنهى كلامه قائلاً : نحن نراهن على القُدُرات ، التي يتمتّع بها رئيسنا البروفسور بسام بدران ، فهو من القادة الذين يولدون من رَحِم الزمن الصعب . 

تلت الجلسة الافتتاحية جلستا عمل ، جاءت أولاهما بعنوان : ” الجامعة اللبنانية / قضايا عامة ” ، ترأستها د. سوزان مُنعم ، وتكلم فيها مُداخِلاً : د. أنطوان شربل (العمل النقابي في الجماعة ) / العميد البروفسور كميل حبيب (جامعة الدولة اللطيمة) / العميد د. جورج صدقه (الإعلام والجامعة : العلاقة الملتبسة ) . أما ثاني الجلستين ، فقد ترأسها د. أمين لبُّس ، وتكلم فيها كل من البروفسور نمر فريحة (تصوّر لتطوير الجامعة)/ العميد البروفسور محمد شيّا (الجامعة اللبنانية والبحث العلمي : الواقع والمرتجى والحوافز الضرورية ) / معالي البروفسور عدنان السيد حسين (رؤيتي لمستقبل الجامعة ) . 

 

وقد واكبَ الجلستين نقاشٌ معمَّق وحوارٌ تفاعلي بين المشاركين والمحاضرين ، ولتخلص أعمال الورشة إلى رؤى ومقترحات وتوصيات ، تضمّنها البيان الختامي ، على الوجه الآتي : 

أولاً : الجامعة اللبنانية / مسارًا مُضيئًا ومعوّقات

كون التعليم العالي أبعد من مسألة أكاديمية ، فإن الجامعة ، بقدرِ ما هي معنيَّةٌ بتوفير العلم وإنتاج المعرفة ، فهي معنيّةٌ – بما يخصُّ مجتمعها – بإدارة النموّ وتعزيز المشاركة والديمقراطية ، وفي صناعة السياسات العامة ، على المستويات كافة . 

– الجامعة ، بعامة ، هي المكان المؤتمن على اتصال المعارف والعلوم وإيصالها من جيل إلى جيل ، مع السعي للاستزادة ، في الصقل والتجديد والابتكار . من هنا أولت المجتمعات المتقدّمة ، باستمرار ، الجامعات عنايةً خاصة ، ووضعت بتصرفها الموارد المادية والبشرية التي تحتاجُها .

– “ليست الجامعة مدرسة للتعليم ، بل هي بيئة وطنية ، تجمع بين أبناء البلاد جميعًا ، كما سيجمع الجيش ، تحت لوائه ، أبناء البلاد جميعهم ” ، حسبما قال رئيس الحكومة الراحل رياض الصلح ، لدى إقرار المجلس النيابي إنشاء الجامعة اللبنانية . 

– وُلدت الجامعة اللبنانية في العام 1951 ، نتيجة نضالات طلبتها وأساتذتها ، إلى جهودٍ حثيثة ، قام بها رجالات ، بل قاماتُ دولة ، تحسّسوا حاجات الوطن ، من منطلق إيمانهم بالدور المنوط بها ، والذي تتنكبّه الأجيال الطالعة . 

– ما يُميِّز الجامعة اللبنانية عن سائر الجامعات والمعاهد الجامعية العاملة في لبنان ، أنها الأكبر من حيث عدد كلّياتها ، والاختصاصات ، وعدد أساتذتها والطلبة (حوالي 80 ألفًا راهنًا ) ، بما يجعلها الإطار الأوسع ديمقراطية  ، والمؤهّلة لتكون طليعة النضال المدني في لبنان . 

– من المسيرة المضيئة، في تاريخ الجامعة اللبنانية ، لا سيما البدايات ، أنّ طيلة العهد الشهابي ، عهد المؤسسات بحق ، كان يتمّ تعيين عمداء الكليات ، استنادًا إلى كفاءتهم وملاءتهم العلمية ، وبعيدًا من انتمائهم الطائفي والمذهبي .

– الجامعة اللبنانية ، بضمِّها مختلف الشرائح الطالبية ، استطاعت أن تردم الهوة الاجتماعية بين الريف والمدينة ، بين الغني والفقير ، مما كرّس ديمقراطية التعليم العالي ، ومخطئ من يرى أن الجامعة اللبنانية هي جامعة الفقراء ، بل هي جامعة الوطن ، من أقصاه إلى أقصاه . 

– في تحديد دور الجامعة اللبنانية : تعليمًا وبحثًا وقيمًا ، جاء في قانون إعادة تنظيمها ، رقم 75/67 (تاريخ 26/12/1967 ) أن ” الجامعة اللبنانية مؤسّسة عامة ، تقوم بمهام التعليم العالي الرسمي ، في مختلف فروعه ودرجاته ، ويكون فيها مركز للأبحاث العلمية والأدبية العالية ، متوخّيةً ، في كل ذلك ، تأصيل القيم الإنسانية في نفوس المواطنين ” . 

– استكمالاً لدور الجامعة اللبنانية ، على المستوى الوطني ، يُرى إليها جيش لبنان الثاني ، المدجَّج معرفةً ، فإن سقطت الجامعة ، سقط الهيكل على رؤوس الجميع . وإلى ذلك لا استقلال حقيقيًّا للبنان من دون تعليم وطني جامع ، تؤدِّيه جامعتنا الوطنية . 

– تعزيزًا للديمقراطية ، في هيكلية الجامعة اللبنانية ، فإن قانون تنظيم المجالس الأكاديمية رقم 66/2009 (29/2/2009) ، يُمثِّلُ قانون الإدارة الذاتية للجامعة . وخلافًا لكل إدارات الدولة ، فإن الجامعة هي التي تتولى انتخاب وتعيين جهازها الإداري ، باستثناء رئيس الجامعة والعمداء . 

– بالرغم من عدم خضوع الجامعة اللبنانية لمُوجب الاعتماد (القانون 285 تاريخ 3/4/2014 ) ، إلاّ أنها قرّرت القيام بذلك طواعيةً ، إثباتًا لجودة التعليم لديها ، وتطابقه مع مناهج التعليم العالي ومعاييره المعتمدة عالميًّا . 

– رُغم الظروف غير الملائمة ، المحيطة بالجامعة اللبنانية ، فهي لا تزال في الطليعة محليًّا ، لجهة بعض التخصصات فيها . فهي الأولى في اختصاصات الهندسة البترولية والصيدلة والفنون الجميلة والسياحة وإدارة الفنادق ، وهي الثانية في اختصاصات الطب والهندسة والكيمياء . وكذا الأمر بما خص كلية الحقوق ، ذلك أن العدد الأكبر من الناجحين في مباريات معهد الدروس القضائية والكُتّاب العدول هم من خريجي هذه الكلية . 

– أزمة الجامعة اللبنانية ليست بنت يومها ، وإنْ كانت تمرّ راهنًا بأصعب الفترات في تاريخها ، الذي يرقى إلى سبعة عقود . فهذه الأزمة هي بفعل منظومة، تفتئت على حقوقها ، وتسلبها استقلالها ، وتُحيلها بؤرةً للتجاذبات المذهبية.

– الجامعة اللبنانية ، خلال السنوات الثلاث الأخيرة العِجاف ، غدت جامعةً “لطيمة ” (أي فاقدة الأبوين ) . فهي فاقدةٌ دعم الأب (أي الحكومة ) ، وفاقدةٌ حنان الأم (أي بعض أهلها المتنكِّرين لها ). 

– تتعرّض الجامعة اللبنانية ، منذ تأسيسها ، لحملة ممنهجة ضدها ، على أيدي المنظومة الحاكمة ، وبتسهيل من بعض أهليها . وتزداد الحملة شراسةً ، ناهيك عن التدخُّل في شؤونها ، منذ العام 1990 . وتعليل هذه الحملة أن النظام الطائفي البغيض لا يستسيغ وجودَ جامعةٍ وطنية ، تُخرِّجُ طلابًا عابرين للطوائف والمذاهب . 

– لا يستكين أصحاب القرار من السياسيين – حكومةً وسُلطة وصاية – في الافتئات على حقوق الجامعة واستقلاليتها ، ضاربين عُرض الحائط بقانون تنظيم المجالس الأكاديمية (66/2009) . فالجامعة هي من تتولى تعيين جهازها الإداري، كما سبق القول . علمًا أن سلطة الوصاية على الجامعة ، من قبل وزير التربية والتعليم العالي ، هي في حدود ما ينصّ عليه القانون ، ولا يحقّ لهذه السلطة التدخُّل في عنصر  الملاءمة ، الذي يعودُ للإدارة الجامعية وحدها . 

– استكمالاً ، وفي مسلسل الافتئات على الجامعة اللبنانية والانتهاكات ، يتبدّى ذلك عبر ممارسات متعدِّدة أبرزها : تحويل جزء من الرسوم المستوفاة لصالح الجامعة إلى الموازنة العامة / قرار مجلس الوزراء ، سيّء الذكر ، الشهير بالقرار 42 تاريخ 19/3/1997 ، الذي جعل التعاقد للتدريس في الجامعة رهنًا بموافقة مجلس الوزراء / جعل عقود التدريس بالساعة  “عقود مصالحة” / حرمان الجامعة من إجراء مباراة لتعيين موظفيها  (قانون الموازنة للعام 2014- المادة 74 ) / التدخّل الفجّ في أعمال مجلس الجامعة واجتماعاته / تأخير البتّ بمعاملات الجامعة التي تحتاج توقيع وزير الوصاية إلخ … 

– المشكلة المالية في الجامعة اللبنانية (موازنة الجامعة) هي في رأس المشكلات المزمنة ، في السنوات الأخيرة . ولكن ما جرى خلال السنوات الثلاث الماضية (2020-2022) لا يمكن تصوّرُه ، فقد فقدت هذه الموازنة ما يقرب من 95 % من قيمتها ، بسبب انهيار العملة الوطنية ، وهذا التدنّي مرشَّحٌ إلى مزيد من الارتفاع المطّرِد للدولار في السوق السوداء . 

– في جملة المشكلات ، التي تُعاني منها بعض كليات الجامعة اللبنانية ومعاهدها ، وتحديدًا المختصة بالآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ، مشكلة التدريس ، بصيغتِهِ التلقينية ” المحاضراتية” ، وهذا ما يُفقد الدراسة الجامعية عملية التفاعل الأكاديمي والاجتماعي ، وما يُفسِّر ضآلة الحضور الطالبي (غير الالزامي) في هذه الكليات والمعاهد . 

 

الجامعة اللبنانية في خضمّ البحث العلمي / ما لها وما عليها؟ 

لما كان البحث العلمي هو الجسر الإلزامي لانتقال الجامعة ، كل جامعة ، من مجرّد مستورد للمعرفة وناقل لها ، إلى منتج لها ، فمن الأهمية بمكان تسليط الضوء على هذه المسألة في الجامعة اللبنانية ، لجهة تعاطيها ، ولنخلص إلى الآتي : 

– قبل الشروع في تبيُّن المسألة ، بأبعادها كافة ، لا بد من طرح الأسئلة الآتية : ما موقع البحث العلمي في جامعتنا الوطنية ، وكيف مارسته وتمارسه ؟ ما المعوّقات التي حالت وتحولُ راهنًا دون إطلاق سياق بحثي جامعي لبناني أصيل معترف به ؟ وأخيرًا ما هي التعديلات الهيكلية والمحفِّزات المطلوبة لتنشيط السياق البحثي في جامعتنا وتطويره ؟ 

–  إلحاقًا بالأسئلة أعلاه ، ثمة أسئلة أخرى لا تقل أهميةً ، هي الآتية : هل تقييم الأبحاث في جامعتنا يفتقدُ الضبط العلمي ؟ أيةُ أبحاث يجب أن تُقدّم للتقييم أصلاً ؟ لمن يجب أن يُرسل البحث للتقويم ؟ وهل تُستوفى حقًّا معايير التقييم العلمي والشفافية ؟ وهل يستوفي المُقيِّم شروط الاختصاص الدقيق ؟ 

– في مقاربتنا المسألة – أي بما يخص قضية البحث العلمي لدينا – نذهب إلى أن ما أنجزتهُ الجامعة اللبنانية ، منذ انطلاقتها ، كان عاليًا ، لجهة الحجم والمستوى . وقد استأثرت بثلث الأبحاث المُنتجة ، في كل الجامعات العاملة في لبنان . وعليه يجب عدم جلد جامعتنا ، في تناولنا الموضوع . 

– إن المسح الأوَّلي لواقع البحث ، في كليات الجامعة اللبنانية ، يُؤشِّرُ على عناصر قوة واضحة ، وعناصر تباطؤ في بعض الأمكنة، واضحة كذلك . فعناصر القوة تتمثّل في التشريعات التي توفّر ورشة البحث في كل كلية ومعهد ، إلى مستوى معظم أساتذة الجامعة اللبنانية ، إلى نصوص على مراكز أبحاث ومنشورات ، وإمكانية نصاب جزئي للأساتذة في مراكز الأبحاث ، وسنة سابعة مخصّصة لإنجاز بحث علمي، عدا عن إمكانية تبادل الباحثين والأساتذة مع غير جامعة عربية وأوروبية ، وغيرها الكثير . علمًا أن عددًا من مسؤولي مرافق الجامعة لم يُفيدوا من هذه الإمكانيات المُتاحة ، لذا تفاوتت النجاحات بين كلية وأخرى. 

– إن تراجع البحث العلمي ، في السنوات الثلاث الأخيرة ، لا تقع المسؤولية فيه على الجامعة اللبنانية، بل على عاتق السلطة الفاشلة ، أولاًّ وأخيرًا، التي أدخلت البلاد في مأزق مالي ، جعل الدولة في حالة إفلاس ، مما انعكس إفلاسًا في مالية الجامعة . كما يعود ذلك إلى المجتمع اللبناني الذي تخلّى عن الجامعة اللبنانية بحدود واسعة ، مُطمئنًّا أكثر لجامعاتِهِ الأهلية ،  من جامعات طائفية ومذهبية من جهة ، وجامعات تجارية من جهة أخرى . 

– إن عدم وضوح التركيز على البحث العلمي ، إضافة إلى مختلف المعوّقات المالية واللوجستية ، وربّما النفسية ، التي أحاطت بعمل الجامعة اللبنانية، في السنتين الماضيتين ، قلّص ، إلى حد كبير ، الإنتاجية العلمية لمراكز الأبحاث في الجامعة ، كما المنشورات العلمية للأساتذة والباحثين ، بعدما كانت الجامعة اللبنانية طليعة الجامعات اللبنانية ، في عملية البحث والنشر العلميين . وهذا ما جعل ترتيب الجامعة اللبنانية ، يتراجع بحثيًّا ، وفق مؤشّرات موثوقة ، من المركز الأول أو الثاني (بالتناوب مع الجامعة الأمريكية ) إلى المركز الرابع . 

– رغم محدودية التمويل وصعوبات إدارية شتّى، لعبت مراكز أبحاث كليات الجامعة اللبنانية أدوارًا ملحوظة ، في أنشطة بحثية عدّة : عقد المؤتمرات والتبادل العلمي وسوى ذلك من فعاليات . لكن النشاط هبط كثيرًا بعد العام 2019. وقد قُدِّر لأساتذة باحثين ، من الجامعة اللبنانية ، وضع مناهج كليات كثيرة في العالم العربي . 

– من السرديّات الناجحة ، التي يُعتدُّ بها ، في الجامعة اللبنانية “المركز الوطني لسلامة الدواء والغذاء والماء ” ( كلية الصيدلة) ، متوقّفين عند انجازاته الكثيرة ، لا سيما في السنتين الأخيرتين ، إذْ تحوّل إلى محطة رئيسة للتعامل السريع والكفؤ مع جائحة كوفيد 19 ، فتولّى أطباء “المركز” وباحثوه التعامل العلمي والعملي ، ليل نهار ، مع الوباء . وقد تحوّل “المركز” إلى خلية نحل واسعة لفحوصات PCR  للعائدين وللمغادرين في مطار رفيق الحريري الدولي (مطار بيروت ) ، فيما كانت الأكثرية الساحقة من  الجامعات الخاصة خارج ما يجري كلّيًا ، وطنيًّا وعلميًّا . 

– في آخر إنجازات الجامعة اللبنانية البحثية ، قبل أسابيع معدودة ، توصَّل فريق بحثي من  الجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية ، بإدارة الباحث ، في جامعتنا الوطنية ، كلود أبي عسّاف ، إلى تطوير تقنيّة جديدة لتطهير الحليب من الفيروسات ، وجرى تسجيلها كبراءة اختراع . 

– إذا كان من حسنةٍ تُسجِّل لجامعتنا اللبنانية ، ولبلدنا لبنان أساسًا ، فهي الحرية التي يتمتع بها الأستاذ الجامعي واستقلالية الباحث في عمله . وقد جرى تكريس الحرية الأكاديمية والاستقلال الوظيفي في جامعتنا بنصوص قانونية ، تحمي استقلالية الجامعة وحريّة العاملين فيها ، وبخاصة حرية البحث العلمي . 

 

ثانيًا – في المقترحات والتوصيات 

1- عدم جلد الجامعة اللبنانية ، إذْ المطلوب مُكاشفة صريحة ، من موقع الإخلاص لا العداء لهذا الصرح التربوي الوطني الجامع ، فالتراجعات المفهومةُ ظروفُها ، يجب أن لا تحجب نجاحات لها مُتعدّدة ، تحقّقت في عدة مجالات ، مما وفّر لجامعتنا السُمعة الطيّبة . 

2- من الظلم مقارنة الأداء البحثي للجامعات العريقة بأداء جامعتنا ، في السنوات الثلاث العِجاف الأخيرة . فمن إضرابات الأساتذة المتعاقبة ، إلى جائحة كوفيد 19 ، وما فرضت من حجر للبلد وتعطيل الحياة العامة ، إلى عاصفة الإفلاس السياسي والاقتصادي والمالي ، التي ضربت البلاد والشعب…كلها معوِّقات أصابت الجامعة اللبنانية ، في كلّ ما يوفِّر لها عملها اليومي (تأكُّل رواتب الأساتذة والموظفين ، والتجهيز اللوجستي ، والبنى التحتية المطلوبة ، إلى إنهيار موازنة الجامعة الخ .. ) . 

3- آخر ما تحتاجه الجامعة اللبنانية اليوم هو التراشق ، عبر وسائل الإعلام . فرغم كل الثغرات التي تشوبها ، فهي ما زالت تحتلّ موقعًا لها بين أفضل 500 جامعة عالمية ، من أصل 5000 جامعة ، وفق تضيف QS . بل هي بين أفضل 25 جامعة عربية. وهي ، لبنانيًّا ، في المركز الثاني بين أكثر من ثلاثين جامعة عاملة في لبنان ، لجهة جودة التعليم . 

4- العمل على جعل الجامعة اللبنانية قضية رأي عام ، والتركيز على دورها الوطني والعلمي والأكاديمي ، عبر مُختلف الوسائل المُتاحة . 

5- إنشاء مجموعة دعم ، تحت مُسمَّى ” أصدقاء الجامعة اللبنانية ” ، من مُقيمين ومغتربين ، للعمل على مساندة الجامعة ، عل جميع الصُعُد . 

6 – إنشاء صندوق مالي خاص بالجامعة اللبنانية ، يتغذّى من مساهمة الحكومة ، ومن رسوم تسجيل الطلبة ، ومن الهبات ، لا سيما من قبل خرِّيجيها ، وما يُسهم به أفراد ومجموعات ، من مؤسسات القطاع الخاص ، وما تقدّمه دول ومؤسسات أجنبية مانحة ، إضافةً إلى ما يدخل من مشاريع ، ينفّذها الأساتذة والطلاّب لصالح المؤسسات الحكومية والخاصة ، والشركات المحلية والأجنبية . 

7- مع الحفاظ على “مجلس الجامعة ” ، من المُفيد إنشاء “مجلس أمناء ” (Board of trustees ) ، يتشكّل من مفكّرين ورجال أعمال ، ذي هيكلية يتمّ استلهامها من بعض الجامعات العريقة ، يتمحور دوره ، أكثر ما يتمحور ، حول الارتقاء بالمستوى الأكاديمي للجامعة ، وتوفير تمويل ، يسهم في حلّ جانب من أزمتها المالية . 

8 – من منطلق الاعتراف بتقصير الجامعة اللبنانية إعلاميًا ، ينبغي وضع استراتيجية إعلامية ، مع استحداث دائرة إعلامية في كل كلية ومعهد ، تتلقّف المبادرة لإبراز صورتها ، ودحض حملات الافتراء على الجامعة وتشويه سُمعتها، لا سيما من قبل ” الجامعات ” و “المعاهد ” الدكاكين ، بهدف كسب بعض الزبائن ! علمًا أن حملات التشويه الممنهجة تنطلق ، في شهر حزيران من كل عام . إشارةٌ، في هذا المجال ، إلى أن الجامعة اللبنانية ليست منزّهة بالمطلق عن بعض الانتهاكات التي تحصل فيها ، والتي يجب متابعتها من قبل إدارة الجامعة . 

9- تعزيز حضور الجامعة إعلاميًّا ، عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي ، التي باتت اليوم واسعة الانتشار ، وعلى تماسٍ يومي مع مختلف الشرائح المجتمعية . 

10- إسقاط مقولة أن الجامعة هي مجرّد مكان توظيف وتأمين المعاش والخدمات ، على خلافها ، والتقاعد لأفراد غير منتجين . بل ينبغي ، على غرار جامعات العالم الحقّة ، إعمال التنبيه الآتي ، بإزاء أساتذتها (Publish or perish) ، أي أنشُر أو تُطرد ! فهذا التنبيه محقٌّ ، وإن بدا قاسيًا . 

11- فكّ الاشتباك بين ما هو سياسي / طائفي وما هو تعليمي جامعي ، وترجمة ذلك تحييد الجامعة اللبنانية عن المصالح السياسية والطائفية ، التي تؤدي إلى انهيارها . 

12- إذا كانت التعيينات الإدارية في الجامعة (العمداء ومدراء الفروع) تخضع ، بحكم الأمر الواقع الطائفي ، لمعايير طائفية ومذهبية ، لا يد للجامعة فيها ، فمن الأجدى اختيار الأكثر كفاءة ونزاهةً ، وليس المستزلم عند الزعيم أو المقرّب من مرجعيته الدينية . 

13 – العمل على أن تكون الجامعة اللبنانية جامعة مُنتجة ، وليست مُستهلكة بالكامل ، وبذا تسدّ جانبًا كبيرًا من العجز المالي لديها . 

14- من منطلق الإيمان بقدرة الجامعة اللبنانية على النهوض بدور إيجابي، في تطوير المجتمع اللبناني، يجب أن تتوفّر لها الاعتمادات المالية اللازمة من قبل الحكومة ، واحتضانها من قبل مجتمعها . 

15 – العمل على إلغاء قرار مجلس الوزراء 42/ 97 ، الذي يتناقض مع قانون تنظيم الجامعة اللبنانية ، كمؤسسة عامة مستقلّة. ومن المفارقات ، بل الهرطقات، تعطيل هذا القانون بقرار . علمًا أن هذا القرار يُمكن الرجوع عنه بقرار ، فهل تبادر الحكومة إلى ذلك ، فتفكّ أسر الجامعة الوطنية؟! 

16- تحقيق استقلالية الجامعة اللبنانية وإبعادُها عن التجاذبات السياسية ، والمسارعة إلى تشكيل “مجلس الجامعة ” ، وتعيين العمداء ، بعد مُضيّ أكثر من أربع سنوات على انتهاء ولاية بعضهم أو أكثرهم . 

17 – تعزيز دور المجمّعات الجامعية القائمة ، لعدم القدرة راهنًا على بناء مجمّعات جديدة ، مع توفير السكن للطلبة (Foyer) ووسائل النقل وخدمات الإنترنت . 

18 – المباشرة بالتدريس، حضوريًا، للعام الجامعي الحالي 2022 – 2023، رغم إدراك مصاعب تنقّل الطلبة . علمًا أن الإبقاء على  التدريس من بُعد لا يؤدّي إلى النتيجة المتوخّاة . إضافة إلى أن الكليات التطبيقية تفرض حضور الطالب (المختبرات ، الأعمال التطبيقية إلخ .. ) . 

19 – رفع ميزانية الجامعة اللبنانية لكي تستطيع القيام بالمهمات الملقاة على عاتقها. علمًا أن هذه الميزانية التي تدنت إلى حدود دنيا ، تكاد لا تكفي للخدمات التشغيلية .

وفي هذا الإطار ينبغي العمل على استعادة أموال الـ pcr  البالغة  52 مليون دولار ، لمصلحة الجامعة اللبنانية . 

20 – زيادة رسوم التسجيل ، وعدم إعارة أهمية للمزايدات الشعبوية . ويبقى السؤال : هل من المعقول أن يكون رسم تسجيل الطالب في الجامعة اللبنانية مع كل التقديمات التي توفّرها  الجامعة ، موازيًا لرسم التسجيل في التعليم الثانوي الرسمي.

21- تحسين وتحصين الوضع المادي للأساتذة ، من خلال توفير التقديمات المالية والصحية والاستشفائية ، مع الحفاظ على خصوصية الأستاذ الجامعي ، في القوانين والمراسيم التي يتمّ إصدارُها . 

22 – تفريغ الأساتذة المتعاقدين بالساعة ، بعد مضيّ ثماني سنوات على آخر عملية تفريغ (2014) قامت بها الجامعة . 

23 – إدخال الأساتذة المتفرغين بالتعاقد إلى ملاك الجامعة اللبنانية . علمًا أن ذلك لا يرتّب أية أعباء مالية على موازنة الجامعة . 

24 – إنهاء صيغة “عقود المصالحة” ، التي تحرم الأستاذ المتعاقد من استيفاء مستحقاته المالية في فترة معقولة ، فتتأكّل هذه المستحقات على  إيقاع تدهور العملة الوطنية المتمادي . 

25- حماية ودعم صندوق التعاضد لأساتذة الجامعة اللبنانية ورفع ميزانيته ، فهو يعتبر الإنجاز الأكبر ، الذي تحقّق عبر نضال الأداة النقابية “رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانية ” . 

26 – إعادة الديمقراطية إلى القطاع الطالبي الجامعي ، عبر الانتخابات الطالبية ، فالاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية ، حقّق بنضاله ، إنجازات جمّة، في مسار جامعتنا الوطنية . 

 27- في مجال التدريس ، يجب عزوف الجامعة اللبنانية ، في بعض كلياتها، لا سيما فروع الآداب والإنسانيات وعلم الاجتماع ، عن المحاضرات التلقينية ، إذْ ينبغي التركيز على التعليم التفاعلي ، حيث للفكر النقدي مجالٌ واسع، مع اعتماد الأبحاث والمشاريع الخلاقة والمُنتجة ، فيكون الطالب مشاركًا ، بل العنصر الأساسي في تنفيذها . 

28- في إطار تعزيز دور الجامعة اللبنانية ، يجب على الحكومة جعل باحثيها جزءًا حيويًّا من خططها التنموية والإعمارية والتشغيلية، وعدم استسهال استيراد الخطط الإنمائية والحلول لمشكلاتها جاهزة من الخارج . 

29 – على الجامعة اللبنانية ، بكل كلياتها ومعاهدها ، بناء قاعدة معلومات صلبة (Data) ، تُحدَّث شهريًّا ، مُتاحة للجميع ، بحيث يمكن لباحثي الجامعة العودة إليها والإفادة منها . 

30 – ينبغي توحيد متابعة حاجات الأنشطة البحثية ومشكلاتها ، في هيئة مركزية واحدة ، وليس ما يمنع وجود نائب رئيس للبحث العلمي ، لا عمل له إلاّ رعاية البحث العلمي . وعلى أن يُعتمد تنظيم مختلف كلّيًا لتقييم الأبحاث، إذْ أنّ صيغة دائرة الأبحاث القائمة حاليًّا يعتريها الكثير من الثغرات، ويمكن الإفادة من تجارب جامعات عريقة، في هذا المجال. 

31 – بهدف تعزيز البحث العلمي، لا بدَّ من اعتماد اللغة الإنجليزية، بحثًا ونشرًا. فهذه اللغة بات لها موقع الصدارة عالميًا، لا سيما في عالم البحث والأعمال.

32 – اعتماد الجامعة اللبنانية مركزا أساسيا لداتا البيانات الوطنية وبخاصة التعليمية، وكذلك اعتمادها مقرّا إداريا للأكاديمية الرقمية وتتولى رئاسة الهيئة الوطنية الأكاديمية في الخطة. 

 

خاتمة

بعد هذا الاستعراض الواسع للإمكانيات والقُدُرات العلمية والأكاديمية، التي تمتلكها الجامعة اللبنانية، نجدُنا نتشارك وسعادة رئيس الجامعة اللبنانية البروفسور بسام بدران، في الصرخة التي أطلقها مدويَّةً بإزاء المسؤولين، في الوقفة التضامنية مع الجامعة (4 نيسان 2022 )، فنردّد معه: 

– الجامعة اللبنانية تختنق.. أفرجوا عنها، عن ملفاتها، لتعودَ إليها المُناخات الطبيعية وتتنفّس من جديد! 

– الجامعة اللبنانية في حالة أسر، منذ العام 1997، فأطلقوا سراحها! 

– المسؤولون، بمواقفهم غير المبالية، يعتدون على حق الطالب في التعليم الجامعي، فهم يُحاصرونها، من خلال موازنتها ووظيفيًا، بمنعها من تلبية حاجاتها، في حدودها الدُنيا. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *