أحمد الصّافي النّجفي وصُوَرٌ من الذّاكرة

Views: 455

د. محمد نعيم بربر

 حِوَارٌ أجْرَاه الصّحافي حَاتِم صَادِق، مع الشّاعراللّبناني محمّد نعيم بَرْبَرْ في مدينة جدّة بالمملكة العربيّة السّعوديّة، ونَشَرَتْهُ جريدة الشّرق الأوسط في العدد رقم 3687 بتاريخ يوم الأحد 1/1/ 1989م، الموافق 23جمادى الأولى 1409 هـ.

 نُثَبِّتُ الحِوار كَمَا نَشَرتْه جريدة الشّرق الأوسط، مع الإشارة إلى أنّ تَشْكِيْل نَصّ الحِوار قد تمّ حديثًا ( عام 2022م )، من قِبَلِ الشّاعر محمّد نعيم بَرْبَرْ، بَعْدَ إعَادةِ طِبَاعتِه وِفْقَ النّسْخة المُرْفَقة، وذلك لمناسبة ذكرى مرور خَمْسٍ وأربَعينَ سنة على رحيل الشّاعر الكبير).

 

 

الشاعر بربر مع الشاعر النجفي

 

 * جدّة ـ مكتب ” الشّرق الأوسط ” ـ حَاتِم صَادِق: 

قرأتُ مَرَّةً في أوْرَاقِ الصّديق الأديب اللّبناني محمّد نعيم بَرْبَرْ، هذه الأبيات للشّاعر العربيّ الرّاحل أحمد الصّافي النّجفي، بِخَطِّ يَدِهِ:

أطُوفُ في الكَونِ حُرًّا لا أرُومُ سِوَى/

كَشْفٍ أُغَذِّي بِهِ عَقْلِي وإِحْسَاسِــــــي/

لَمْ أمْتَلِكْ أيَّ شَيءٍ كَـــيْ يُقَيِّدَنِـــــــي/

لَمْ أمْتَلِكْ غَيْرَ فِكْـــــــرِي وَهْوَ لِلنَّاسِ/

   ****

أُجَاهِدُ كَيْ أُبْقِي لِيَ النَّفْسَ حُــــــرَّةً/

وأَشْقَى ولَكِنَّ الكَرَامَةَ لا تَشْقَــــــــى

              ****

فأخَذتْني رَغبةٌ قديمةٌ، في قراءة بعض الصّفحات من كتاب حياة هذا الشّاعر الكبير، لم يقرأها أحدٌ من قبْل، لأنَّ الشّريك فيها الأديب بَرْبَرْ الذي كانت تربطه بالشّاعر النّجفي، علاقة مميّزة ظلَّ ضنينًا بها طَوالَ هذه السّنوات، حتّى بعد وفاة الشّاعر الكبير.

الشاعر النجفي مع والد الشاعر بربر وأخويه عدنان وأكرم

 

*سَألْتُه أنْ يُحَدّثَني عن علاقته بالشّاعر أحمد الصّافي النّجفي، فقال:

-بدأتْ علاقتي بالشّاعر النّجفي عام 1964م على يِدِ والدي ـ رحمه الله ـ الذي كانتْ له علاقاتٌ مميّزة مع عدد من الأدباء والشّعراء العرب. وكان يُقَدِّمُنِي إليهم بعد أنْ اسْتشفَّ مَا بِي من مَيْلٍ إلى الأدب، ونَظْمِي للشّعر مُبْكِرًا، مع اسْتِفَادَتي الكاملة من مكتبتي العامرة بروائع المؤلفات ودواوين الشّعر. وكانتْ علاقتي بالنّجفي، علاقة بُنوّة وتَلْمَذة في الأدب والشّعر والحياة. وأَوّل زيارة للشّاعر كانتْ في فُنْدُق ” رُومَانُوس “، القريب من قلعة صيدا البحريّة التي كان الشّاعر يَعْتبرها صَوْمَعَتَهُ، كما كان البَحْرُ عَالَمَهُ الخَاصّ الذي يقول فيه:

أُحِبُّ انْتِحارًا فيكَ يَا أيَّها البَحْر/

فَحَسْبِي بِفَهْمِ السِّر أنْ ضَمَّنِي السِّرُ

في ذلك اللّقاء، اكتشفتُ بساطته وسِرّ قلّة ابتساماته، ذلك أنّه كان دائم التفرّس في وجوه زائريه ومَنْ حوله كأنَّه يبحث فيها عن شيءٍ ما، فاستمعت إليه وهو ينشد شِعره بِذَوْبِ السِّحر والشّجن لأروي ظَمأً كان بداخل نفسي. ثم كان اللّقاء الثّاني عندما جاء لزيارتنا في بيتنا في بلدة “جون” (الشُّوف)، وأقام عندنا لمدة يومين، كنّا خلالهما جميعًا مَشْدُودِين إليه نستمع إلى شِعره والمساء يلفّنا كأجمل ما يكون الشِّعر وأرقّ ما يكون الفنّ. وكان النّجفي يسمعنا مَزيجًا من التّألقّ والفكاهة والنّكتة والطّرفة والحزن والدّهشة والغرابة، ممّا يؤكد عبقرية هذا الشّاعر. وفي تلك الزّيارة حدّثني عن شِعره ونَفْسه وغُربَته بِقلبٍ شَجيّ، وعرفت أنّه أعطَى كلّ وقته للشِّعر والفنّ والأدب، ومتابعة طَبْع ونَشْر دواوينه.

الشاعر بربر مع الشاعر النجفي

 

ثَرْوَة من الشِّعر

النّجفي كان كثير التّنقّل ما بين صيدا وبيروت وسوريا، ومن خلال زياراتي المُتتابعة له عرفتُ أماكن تَواجُدِه وهي: قلعة صيدا البحريّة، مَقْهَى البَحْرَين، مَقْهَى فلسطين في وسط العاصمة بيروت، وغيرها من أماكن السّكن والإقامة. وحين سألتُه مَرَّةً عن السّبب في أنّه خَصَّنِي بِزِياراتِه، قال: “إنَّ فِيْكَ حِسَّ أحمد الصّافي وبَعْضًا من رُوْحِه “. فَتَتَلْمَذتُ على يَدِهِ في الأدب والشِّعر والحياة. وكان يعيشُ دائمًا بِشِعرِهِ وفنِّه داخِلَ نَفْسِي. وجَاءَ مَرَضُ والدي، ومَوتُهُ بَعْدَ ذلك، فأحْسَستُ بِفَراغٍ دَفَعَني لِلبَحْث عن أَبِي الرُّوحِي الشَّاعر أحمد الصّافي النّجفي، فعَرفتُ أنَّه قد غيّر مكان إقامته إلى إحدى ضواحي بيروت، بعد أنْ أدْمَت الحَربُ اللّبنانية قلبَه وَوِجْدانَه، ثمّ جَسَده حين أصَابتْهُ رَصَاصَات القَنْصِ ذَاتَ مَرّةٍ، فَقَاومَ المَوْتَ لِإيمانِه بِقُوّةِ الحياةِ، وغَادَرَ لبْنَانَ بَعْدَ اغْترابٍ طَويلٍ ولَوْعَةٍ إلى وطَنِهِ العراق في شَهْر شباط من عام 1976م، مُخَلِّفًا ورَاءَه تاريخًا حافلاً وأرْوعَ القصائد الّتي نَظَمَها في جميع المَوضُوعاتِ الإنسانيّة. ولم يبقَ لديَّ إلّا أسرار نفسه الّتي حدّثني فيها عن حياته وغُربته وعِشقه وهُمومه بكُلِّ ما فيها من دقائق وخصوصيّات. وتلك الثّرْوة هيَ من أخْصَب وأجَمْل وأعَمْق أشعاره الّتي نظَمها في تلك الفترة، وبعضها ما زال بِخَطِّ يَدِهِ ولم يُنشرْ بعد. هذه القصائد التي كان يُعدّها للنّشر في ديوانٍ إحْتَار في تسْميتِه بين ” شَبَاب السَّبعين “، أوْ ” ديوان المَشِيْب “. وكنتُ قد سمعت منذ مدّة أنّ لَدَى الأديب خليل البرهومي، قصائد للشّاعر أحمد الصّافي، لمْ تُنْشرْ، فَلعَلِّي ألتقي به وننسّق العمل لتقديم ما لدينا إلى القُرّاء العرب.

صورة للشاعر النجفي في الطبيعة

 

 أعْظَمُ الحُّب 

*وسألته أنْ يرسمَ لنا صورة للنَّجفي، برُؤيته فقال:

 -ليس من السّهل أنْ نرسمَ صورة لشاعر مِثْل أحمد الصّافي، لِأنَّها ستكون صورة لِعِدّة أشْخاصٍ في رَسْمٍ وَاحِدٍ، تتمثّل فيها عظمةُ الشِّعر والفِكْر والفنّ، وتبدو فيها تلك الرُّوح المُثقلة بالجِراحِ والمُتألِّمة للتَّوحّد في هذا العالم، بكلِّ ما فيه من خير وشرّ وتناقض، تَمْتزِجُ فيها ألوانُ الفرَحِ بوشاح الحُزْن الدَّفين وألوان التَّشرّد والتَّمرّد على كُلِّ شيْءٍ، وألوان البساطة والفقر، وتَجْمَعُ بين الشّهرة والوَحْدة لتأتي أُسْطورةً في الفنّ والإبداع والتَّجدّد، لا توجدُ إلّا عند كبار المُبدعين في العالم، تزهو بهُزَالِ جسده وبساطة زَيِّهِ البَدويّ الذي لمْ يتخلّ عنه أبدًا. ورُبَّما كان يعرف أنَّ أحدًا لَنْ يسْتطيعَ رَسْمَهُ، فقال:

حَسِبُوا اليومَ أنَّهم أَبْصَرونِي/

أَبْصَرُوا مَظْهَرِي ولمْ يُبْصِرُونِي 

وحياةُ الصّافي تَجْسيدٌ لِحُبّهِ الكبير للإنسان المُعذّب على الأرض، وفِكْرُهُ عُصَارَةُ تَجَارِبَ قَاسِية تتحدّى الأقْوِيَاء حِينًا، وتَمْسحُ غَشَاوةَ الظّلم عن قلوب الضّعفاء حِينًا آخر، لتنقلَهم إلى عالمٍ بهيٍّ يغمرهم بالضّياء والسّعادة، فيبدو مدى ارْتِبَاطِه الرُّوحيّ بجميع الكائنات الّتي تُشَاركُه الحياة رغْم التّناقضات الواقعيّة بيْنه وبيْنهم.

صورة عن المقالة المنشورة في جريدة الشرق الأوسط

 

بَدويّ خارج السّرب 

*كيف تُحدّثنا عن الأمور المختلفة في حياة أحمد الصّافي؟ 

-الأمورُ المُختلفةُ تتجلَّى في حياة الشّاعر وشِعره. ففي مظْهره كان آتيًا من الصحراء بزيّه وعباءته وخفّيه، وبقناعته وتزهّده وفقره. وفي روحه كانت تكْمنُ أسرارُ التفرّد والتّمرّد والرّفعة. حدّثني أنّه منذ صغره، كان ينزع إلى الوحدة والتّأمّل خَارِجَ سِربِه وبعيدًا عن أترابه، كان يعايشهم لأنّهم بَنُو جنسه، ويتشرّد عنهم لأنَّ في نفسه موهبةً دفينةً وحِسًّا مرهفًا لم يجدْه عندهم.

كانت نشأته في دار علم وثقافة ومركز للوطنيّين. ورُغْم ثقافته في الأدب والفقْه والفكر كان يعيش حالة قلقٍ مع نفسه، لأنّه يُحسّ بِطَاقَةٍ جبّارة في ذاته.. هِيَ موهبته الشِّعرية الّتي نادتْ بالخروج على كُلِّ شَيءٍ.

كان أخوه السّيد محمد رِضَا الصّافي يُهيِّئه، نَظَرًا لنباهته وذكائه الفِطريّ، ليكون صاحبَ مركزٍ إجتماعيّ، قاضِيًا أوعالِمًا مثلاً، بينما هو يبحث عن التَّحرر من قيود الوظيفة والمظاهر، ويقف موقفًا صادقًا مع نفسه، وهو أول بدايات تمرّده لأنه يدرك مدى قَسْوة تحكّم الأقوى بالأضْعف، ويفهم جيّداً ما في نفسه من زَخْمٍ وانفعالات. ورُغْم ولاءِ الشّاعر لِأهله وعشيرته بالحبّ الكبير، إلّا أنَّ حُبَّه لِطموحه وتحرّره وتمرّده كان أقوى حتّى من نفْسِه.

صورة إهداء أحد كتبه لي بخط يده

 

غُرْبَةٌ وغُرْبَةٌ 

لقد ظَلّتْ علاقة الشّاعر بأخيه محمد رضَا، تتسّم بالتباين والإضطراب، حتّى لَمَعَ اسْمُ أحمد الصّافي، في عالم الشِّعر والأدب، فصار الأخ يَخْطبُ وُدّ أخيه ويُشِيدُ بشخصيّته.. لكن َّ المُعاناةَ كانتْ قد تركتْ في نفْس الشّاعر جُرحًا عميقًا، وألمًا دَفِينًا.

بَعْدَ ثورة العراق الأولى، لَجَأ الشّاعر إلى طَهْران، وأقامَ فيها ثَمَانِي سنوات، حيث بدأتْ غُربتُه الفعليّة الّتي استمرّتْ بَعْدَها في لبنان وسوريا، وزادها قَسْوةً، اعتلالُ صحّته ونُحول جسْمِه الذي رافقه منذ صغره. وفي رحلته مع الغُربة والألم والمرض والسّجن نَظَمَ

أشْعارًا كلاسيكيّة تُعتبرُ من أجْمَل وأرَقّ وأعْمَق الشِّعر المُعَاصِر، في الحبّ والوطنيّة والغُربة والوجود وشتّى المُوضُوعات الإنسانيّة المَليئة بالشّفافية والصّفاء.

وفي حياته ومعيشته الّتي اتّسمَتْ بالبساطة والعفويّة والزُّهد، تحرّر من كُلِّ قَيْدٍ حتّى من القيود الرّسميّة، فكنتُ أراه يَفْترِشُ الأرضَ في قلعة صيدا البحريّة، مُتّكِئًا على صُحُفٍ ومَجَلّات مَعَهُ، وكثيرًا ما كان ينطلق إلى أحْضَان الطّبيعة ليقضي وَقْتَه وَسْطَ الخُضْرة وبَينَ الأشجار والزُّهور مَاشِيًا أو جَالِسًا مُسْتسلمًا للإحساس بالطّبيعة الخَلّابة من حَوْلِه. وكانت غُرفتُه صُورةً حيّة لِغربته، فسريره متواضع وأشياؤه مبعثرة وسِراجُه يَكادُ يَنْطَفِىء، ولكنْ رُغْم ذلك كانت نفْسُه غنيّةً وحِسُّه مُرْهفًا وخَيالُه واسعًا ومُبدعًا.

 

المَصَادرُ المُؤْلِمَة 

*من أين كان يستمدُّ مادة شعره؟ وكيف يختارها؟

كُلُّ شيءٍ في هذا العالم كان مَبْعثَ إلهامٍ للشّاعر، ابْتِداءً من الطبيعة والناس والحيوان والجماد ، مرورًا بالسّجن والهواجِس والنّفْس والغُربة والوحدة، حتّى لَيَبْدو لنا أنّنا أمام مجموعة شعراء في رَجُلٍ واحد، لِمَا حَوتْه قصائده من التّنوع في موضوعاتها. ولعلّ المدهش أنّه نظم أجمل القصائد في البَحر والبَدر والضّباب والزُّهور والقُطّ والكلب والبعوض والضَّفْدع والطّيور. 

 لا يُقَلّد أحَدًا  

*تَرْجَمتُهُ لرُباعيّات الخيّام، بماذا تميّزتْ عن التّرجمات الأخرى؟

-لنْ نَجِدَ رَدًا أفضل على هذا السّؤال من قراءة ما كتَبَهُ الشّاعر في مقدّمته للرّباعيّات، وما جاء من آراء لبعض الدّارسين للتّرجمات المُختلفة لرُبَاعيّات الخيّام حَوْلَ ذلك. وعندما سُئِلَ النّجفي عن سبب تفوّقه لترجمة رُباعيّات الخيّام، كان رَدُّهُ: ” أنا أمينٌ في تَرْجَمتي وفي شِعري، ففي تَرْجَمتي لمْ أُدْخِلْ شيْئًا من فِكْري، وفي شِعْري لمْ أُدْخِلْ شيْئًا من فِكْرِ النّاس”. ويُؤكّد ذلك قولُه في قصيدة: 

حَمَانِـي مِنَ التّقْليدِ مَا عِشْتُ أنَّنِي/

إذا رُمْتُ أمـــــــرًا لمْ أجِدْ ما أقَلِّدُ/

وكَمْ رُمْتُ أقْفُو الآخَرِينَ فَلَمْ أُطِقْ/

وأدركنـــــــــي لما اقتفيت التَّجَمُّدُ.

***

*جميع الصور في منزل المرحوم  والدي أبي محمد نعيم بربر في بلدة جون ، عام ١٩٦٤م .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *