“الأصابع كلها مشتاقة لك”.. لماذا؟

Views: 738

د. بسام بلاّن

استيقظت وأنا أدندن أغنية الفنان محمد عبدو “الأماكن كلها مشتاقة لك” مع تحريف كلمة واحدة.. “الأصابع كلها مشتاقة لك”.

في البداية لم أنتبه؛ فاللحن والمقام والوزن مناسبة، لا نشاز ولا كسر أو خلع. ولكن غفلتي لم تطل كثيراً، وعندها رحت أسأل نفسي: ما الذي أتى بسيرة الأصابع، وكيف ولماذا.. قبل ان يتحول السؤال الى حالة تأمل بهذه الأعضاء من جملة ما يحتويه جسد الانسان.

تذكرت على الفور تهديد أمي لي عندما كنت صغيراً. كانت دائما تخيفني من إصبع “السبابة” عندي، وتؤكد لي بأن هذه الاصبع وكانت تسميها “الشاهد”، ستشهد عليّ يوم القيامة، وستقول كل شيء عملته في حياتي من خير أو شر، لدرجة أنني كنت إذا ما أردت القيام بأي عمل أحاول وضع كفيّ خلف ظهري كي لا يراني “الشاهد”، ولكن من دون جدوى، لأنني لا أستطيع القيام بشيء من دون استخدام يديّ الاثنتين أو يد واحدة على الأقل، والمصيبة أن “الشاهد” في كلتاهما؛ فأين المفر؟.

لا مفر سوى الاحجام والتوقف عن “الأذية”. وبذلك تردعني اصبع السبابة عن الخطأ و مخالفة التعليمات.

كنت أكره هذه الإصبع في غالبية الأحيان، وكم تمنيت لو أنها لم تكن موجودة أصلاً. وأكثر من ذلك كنت عندما أنظر إليها بحنق، يُخيّل إليّ أن لها فم ولسان تمده لي إمعاناً في إغاظتي أكثر وأكثر.. وفي المقابل لا أستطيع أن أفعل شيئاً لها. فهل أضربها.. هل أحرقها.. هل أقطعها؟.

في احدى المرات زارنا شخص من أقرباء جدتي، كانت كفه اليمنى بإصبعين فقط، هما “الخنصر والبنصر”. قلت لأمي حينها هذا الرجل محظوظ، لأن كفه بلا “شاهد” ويستطيع عمل أي شيء يريده دون أن يوشي به أحد يوم القيامة. ضحكت أمي كثيراً من فكرتي، وردت قائلة: ولكن يده الثانية فيها “شاهد”. قلت لها بسيطة، عندما يريد القيام بشيء يضع يده الثانية خلف ظهره فلا يراه “الشاهد”. فضحكت أكثر وأكثر.. وسألتني: هل تحب ان تكون كفك بلا “شاهد”؟. جفلت.. وتأملت كفي ملياً وقلت لها: لا. قالت إذاً الأمر بسيط لا تقم بأي عمل سيء. فانصرفتُ وتركتها تضحك.

والسبابة هي شارةُ التوحيد، التي يُشار بها في التَّشهّدِ بكل صلاة أكثر من قِبل مليار مسلم على هذه البسيطة خمس مرات في اليوم. ويروى أنه بعد الحكم بالإعدام على سيد قطب، قال له أحد زملائه، لماذا لا تكتب رسالة تسترحم بها المحكمة؟ فرد قائلاً: “إنّ إصْبعَ السّبّابةِ التي تشهدُ لله بالوحدانيةِ في اليومِ خمسَ مراتٍ لترفضُ أن تكتبَ حرفاً تُقرُّ فيه حُكمَ طاغيةٍ”.

والسبابة أيضاً، مثلما يتم استخدامها للتشهد، قال لنا معلم الصف ذات مرة أنها سميّت بالسبابة لأن ضم الأصابع من حولها ورفعها عالياً في وجه من تحدثه تعني الحزم والقدرة على تنفيذ الوعيد مهما كلفك ذلك، فضلاً عن أنها تستفزه أيما استفزاز.

وبواسطة إصبع السبابة كنا نتذوق اللبن والمربى وأحياناً رب البندورة خلسة، عندما كانت تصنعه أمهاتنا وتضعه في أوانيه.

تذكرت كل ذلك، وأنا لا أزال أدندن أغنية “الأصابع كلها مشتاقة لك”.

وكشفت أبحاث العلماء أن إصبع البُنصر هي التي تكتمل أولاً، تليها الوسطى، فالسبابة فالخنصر، وأخيراً الإبهام. ولكن بالتأكيد ليس هذا هو السبب الرئيس لقصر طول الابهام عن بقية الأصابع. فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك كما هو مفهوم.

إذاً؛ الأصابع هي تأكيد لشخصية الانسان. ومفردات لقراءة أحاسيسه وانفعالاته. تماماً مثلما هي واحدة من مقاييس الجمال، عالاقل بالنسبة لي.

كثيراً ما يُطلب منا ترك “بصمة” في الحياة، أو العمل أو الحضور أو الغياب. لماذا نقول “بصمة”؟

مؤكد أن البشر قد يتشابهون بكل شيء؛ إلاّ بصمة الإصبع، فهي التي تؤكد أن فلاناً هو فعلاَ فلان، وذلك قبل اكتشاف تقنية D N A، مع العلم أن معرفة بصمة الإصبع أو وجودها أو تسجيلها، تُغني عن الـ  D N Aتماماً. فطول القامة أو قصرها ولون البشرة وشكل الأنف والأذنين والشعر وكل شيء في الانسان، قد تجد له شبيهاَ عند شخص آخر أو ثالث وعاشر لحد التطابق، سواء أكان التشابه مفرداً أو جمعاً.. (يخلق من الشبه أربعين)، إلاّ بصمة الإصبع فلا تتطابق بين شخص وآخر حتى لو أصبح عدد سكان الأرض 70 ملياراً.

الأصابع تتقن لغات العالم كلها. بما في ذلك الموسيقا. فلو كان الضرب على الأوتار بغير الأصابع لكانت الموسيقا لغة محلية، فلغة الأصابع الكونية هي التي جعلت الموسيقا لغة كونية ايضاً.

وإيماءات الأصابع لغة يفهمها العالم كله، ويستخدمها البشر بنفس الإسلوب، مع الاعتراف ببعض الفوارق البسيطة وغير الجوهرية في هذا المجال. فالإبهام المرفوعة فوق الأصابع المضمومة على الكف تعني أن كل شيء تمام، أو “أوكيه” كما يحلو للبعض. والسبابة استفضت ببعض مفردات لغتها سابقاً. والإصبع الوسطى منحنية باستقامة مُشكلة زاوية قائمة مع الكف يعرف جميع الناس معناها. ورفع السبابة والوسطى أعلى مع ضم بقية الأصابع تعني شارة النصر، وضم السبابة نحو الإبهام على شكل دائرة ورفع الأصابع الوسطى والبنصر والخنصر للأعلى، تعني الوعيد والتهديد والكل يفهمها. وأكثر من ذلك، فقد اعتمد بعض المنظمات إشارة لها بالأصابع للدلالة ان مستخدمها ينتمي إليها.

وبين الرجل والمرأة لغة أصابع متبادلة غاية في الدلالة والتأثير. و أول ما يحاول الشاب فعله هو لمس أصبع من يحبها بإصبعه، وردة الفعل هنا لها دلالاتها أيضاً. أما عندما تشتبك أيديهما معاً، فللأصابع مفرداتها المشتركة التي تتغلغل في عمق الأعماق، وتُراقص المشاعر والجسد وتتحكم بدرجة الزلزال الذي يصيب باقي اعضائه، ليس على مقياس “ريختر” وإنما على مقاييس أخرى.

والقبلة بين حبيبين لا تُحدث أثرها الكامل، إن لم تقم الأصابع بواجبها ضماً أو ملامسة أو رحلة في تضاريس الرأس.

الأصابع أيضاً سر تفوقنا في الصنعة التي نمارسها وبها نعطي لمسة تترجم فكرة في الرأس أو “شطحة” في الخيال.

ما نقوله بالأصابع دليل إثبات علينا.. ويصل الى أضعاف أضعاف البشر فيما لو كنا نقوله بألسنتنا. أما أثر الأصابع الخمس على الوجه إثر صفعة، فهي دليل إثبات لأشياء وأشياء؛ لا يعرفها ارتداداتها الأولى والأخيرة إلاّ من جربها أو اعتادها.

ربما لكل ما تقدم : “الأصابع كلها مشتاقة لك”.

 1- 5- 2015

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *