سليمى ذود… ساحرة اللون والريشة الإبداعية 

Views: 1179

المحامي معوض رياض الحجل


الرّيشة الفنية التشكيليّة النسائيّة اللبنانية، حرية بالاهتمام، بحثاً درساً وتحليلاً، ليس بهدف المقارنة بينها وبين الرّيشة الفنية الذّكوريّة، إنّما تكريماً لها في مسالكها الفنّيّة التّشكيليّة، المرأة التي ابتغت من دون تردد أن تحمل ريشتها وأدواتها وألوانها وخاماتها، لتُغني المجتمع الشرقي المعاصر بمعالم من لمساتها الفنّيّة التّشكيليّة والإبداعيّة المميزة، إلى جانب مشاركتها في صنع الحياة البشرية، وتنشئة أبناء الحياة، بالتّعاون والتنسيق والتمازج والتكامل مع شريك عمرها أي الرجل، لتبقى وتستمرّ بهما ومعهما هذه الحياة…

يتصاعد عدد الفنانات التشكيليّات في لبنان يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام بشكلٍ عظيم وملفت، في حين لم نشهد مع بدايات القرن العشرين سوى مساهمة مجموعة قليلة في انطلاقة النهضة الفنية التّشكيليّة. وقد بَرزَ منهنّ مع توالي المراحل الكثيرات، اللواتي تركن بصمتهنّ ولمساتهنّ الفنّيّة التّشكيليّة، وازدانت بأعمالهنّ ونتاجاتهنّ جدران وقاعات وصالات كثيرة في بيروت وأهم عواصم العالم …

 

نذكرُ من الفنّانات التّشكيليّات اللبنانيات اللواتي بدأن مع بدايات الفنّ التّشكيلي اللبناني: 

ماري حدّاد، أولغا ليمانسكي، معزّز روضة، صوفي يراميان، سلوى روضة شقير، هيلين الخال، سيسي سرسق، إيفيت أشقر، هوغيت كالان، جيزيل رحيّم، جوليانا ساروفيم، لور غريّب، لوسي توتونجيان، نزيهة حمزة كنيعو، روزفرت سيسيريان، ناديا صيقلي، هدى النّعماني، مهى بيرق دار الخال، صولانج طرزي، ميراي غوغيكيان، إتيل عدنان، سيمون فتّال، ساميا الحلبي، مرام حرب، لوتي عضيمي، سيتّا مانوكيان، نيكول ملحمة حرفوش، ساميا بصبوص فتّوح، ساميا عسيران جنبلاط، منى باسيلي صحناوي، أسمهان بغدادي بيضون، مريام غالي، ليديا ليان شارلجيان، آسيا حبيقة مسابكي، وسليمى ذود…

الصدفة الصغيرة ولعبة اللون

من بين هذهِ الأسماء الأنثوية الطليعية في عالم الفن التشكيلي الإبداعي أخترنا الحديث عن الفنانة التشكيلية اللبنانية الرائدة “سليمى ذود” التي أغنت وما زالت تغني المكتبة الفنية التشكيلية الوطنية بمئات ومئات من اللوحات الفنية التشكيلية المميزة…فلا بد من الإضاءة على كيفية انطلاقة مسيرتها الإبداعية مع الألوان:

بالصدفة سحرتها لعبة اللون (تاريخ الفن التشكيلي في العالم، حافل بغير رائد من الذين – عن غير تصميم مسبق – كما مانيه وبيسارو وسيسلي وفان غوخ وغوغان، أخذتهم لعبة اللون) وحملتها ذات يوم إلى عالمٍ جديد من التعبير لم تكن تحلم ذات يوم أنها مهيأة لدخولهِ من الباب الواسع.

 

حكاية عشقها لعبة الألوان، بدأت هواية عفوية من امتشاق الريشة. لم تكن تقصدُ يوماً أو تتطلع أن تطالع أسمها على ملصق كبير لمعرض رسومها الفنية التشكيلية. البدايات كانت عفوية بلوحات زيتية ومائية وبالحبر الصيني. بدأت بالرسم ولا دراسة. الكتب المُتخصصة بالشؤون الفنية كانت دراستها الأولى ومرشدتها ما أمكن.

وذات نهار من العام 1971، دخلت المحل في بيروت الذي ألفت تشتري منه الوانها الزيتية. وجدت جنب الألوان مادة مستحدثة لم تألفها من قبل. وأثار فضولها جواب البائع: “هذه ألوان لا تصلح إلا على الزجاج”. فسبقها حماسها إلى الانفعال فقالت لهُ من دون تردد: “أعطني منها لو سمحت”.

وراحت أناملها الرقيقة تحكي على الزجاج والبلكسيغلاس، خطوطاً وأشكالاً تزيينية زخرفية، ذات طابع تجاري، صالحة لزجاجيات الديكور في المنازل والواجهات.

 

وذات مرة، غلطة صغيرة، صدفة صغيرة، انحراف جديد في الخط والشكل واللون…فخرجت زجاجيتها عن لمسة الديكور التزييني الزخرفي، إلى لمسة… لوحة فنية.

بالصدفة كل ذلك كان، محض بالصدفة.

ومضت تُكمل الإبحار والغوص أكثر فأكثر في هذا العالم الفني الجديد. فكانت لوحات أولى تروي طبيعة هادئة، ومشاهدة بحرية وقوارب.

مع مرور الوقت تطورت عندها ركائز اللعبة الفنية المستحدثة. فأمست تضع، مُسبقاً، للوحاتها، تصميماً بالخطوط الأولى، بعدما يتكون في بالها سلفاً عالم اللوحة.

لعبتها مع اللون، لا تخلو من التحدي والتعقيد. فهي ترسم على الوجه الآخر من البلكسيغلاس. أي أنها لا ترى اللوحة الفنية وهي تتكون أمامها. ولا تستطيع أن تقوم بأي رتوش وهي ترسم. الخط، يجب أن يكون متيناً من ضربتهِ الأولى حتى الأخيرة، بلا توقف. الغلطة لا إلى تصحيح. والا لجأت إلى محو كل شيء رسمته والبداية من جديد. إذن عليها أن تُدرك سلفاً أين تبدأ الخط، وإلى أين سينتهي به.

معرضها الأول والثورة الابداعية

بهذا، استشعرت أنها خرجت تماماً عن المعهود… فخرجت لوحاتها الساحرة إلى العلانية، فدشنت معرضها الفني الأول (27 نيسان 1978- 10 أيار 1978) في غاليري ” دامو” – أنطلياس.

وعلى لوحاتها التي عُرضت حينها (26 من مختلف القياسات)، مسحة تظنها واحدة، في الشكل والأبعاد: فالوجه بلا معالم تفصيلية. وحركة الجسم تروي حركة الوجه مغمورة في سكونٍ كبير. 

وفي لوحاتها، لباساً، تأثير عربي من الجاهلية، في منطق (ترسمهُ لترفضهُ) بين عادات وتقاليد ما زالت حتى اليوم متغلغلة في مجتمعنا المعاصر، وبين تعبير عن نفسية لدى الرسامة تحسها أو تستشعرها لدى غيرها. وفي كلتا الحالتين، عودة إلى شرقية تعبيرية، في مسحة اسلامية روحانية (نفحة الدراويش وحلقات الذكر) مع محافظة على الطابع الشرقي الذي في عمق أصالتنا. 

 

ويبقى التعبير أحساساً داخلياً، تلمحهُ في ثنيات الثوب. ولا هم أن يكون لامرأة أو رجل. المهم عندها الإنسان في انحناءاتهِ أو لباسه.

وعن خطوطها (قالها حينها الأب الراحل يوحنا صادر والرسام بول غيراغوسيان خطوطاً جديدة) يخرج نفس ديني ذو انحناءات شاعرية، يطل فيها لبنان من خلال شرقيته المتميزة. ولا أثر فيها للحرب، لان الرسامة رفضتها كي لا تعيش في الخوف والقلق، وفضلت عليها الرجوع إلى الله، إلى الذات النقية…أنها، في لوحاتها، تصلي.

وتباينت الآراء حينها حول هذا المعرض الفني وكثرت الملاحظات والتحليلات. هل هو لعبة فنية مستوفية لشروطها أم مجرد صرعة ستمضي بعد حين؟ كانت مواضيعها يومها الأنسان الشرقي بقامتهِ وحضورهِ وبخشوعهِ. كانت التقنية الفنية مخالفة تماماً لكل أعراف اللعبة الفنية المتواجدة هنا أو هناك في العالم. وكانت مواد اللعبة وأسلوب التعامل مع مساحة ” البلاكسي” وهو المادة الزجاجية اللينة الصلابة والمستخرجة من البترول. وكان تزاوج مادة الرسم التي هي أيضاً مادة بترولية بالمساحة المرسومة عكسياً. تخرج اللوحة بعد تثبيتها بورق الذهب والفضة أيقونة هويتها الشرق. 

إذن كل ما في اللعبة الفنية حديث كلياً حتى كيفية إبراز الشكل وإعطائه امتداداً ذات بعدٍ داخلي وروحانية فرحة مبسطة تزهو بألوان الأزرق والبرتقالي.

ليست الفنانة التشكيلية سليمى ذود لا الأولى ولا الوحيدة في عالم الفن. لقد سبقها فنانون عرب كثيرون في النضال والمثابرة من أجل تثبيت وتطوير الهوية الفنية. إن ثورة الفنانة سليمى ذود الإبداعية التي امتدت لعقود وعقود تضاف إلى تجارب الفنانين اللبنانيين والعرب الأصيلين وهي مسيرة حافلة تجعلنا مستحقين لذاتنا قبل كل شيء. فلا نبقى قيمة غير مستغلة تذبل ولا تضئ.

أعمال الفنانة سليمى ذود تشكل روائع فنية خالدة مثل أرز لبنان تستحق الدراسة وقد اشتركت لعقود في العديد من المعارض في لبنان، باريس، البحرين، حلب، دمشق، المملكة المتحدة، واشنطن…

 

من أجمل ما قيل عن ابداعها:

كلمة المطران جورج خضر

“قفزات سليمى ذود أسلوباً وصناعة ولغة فنية لا تخرجها عن أمانتها للتراث الشرقي الذي تجيء منه وتلازمه على تعابير حرة جداً. بخطوط قليلة تحكي جسداً مصلياً هو أكثر من الأيقونة إيغالاً في التجريد ولكنه مثلها يحمل الدعاء بوضوح. الجسد يلاصق القناطر، يعانقها أو يشكلها، اليست العمارة جسداً؟ أو ليس الجسد بناء؟

وأنت تبقى في الخشوع إذ لا مهرب لك من الكنائس أو المساجد. لا شيء هنا يدل على هوية المعبد. نحن في عالم كل هويته المشرق. أنهُ ذلك المشرق الذي حركته في هدوئه لان الحركة من الداخل تكون. والتأملية هنا ليست عقلية. سليمى ذود تضطرك على اللصوق بأعمالها من بساطة جذورك. هي لا تأتي من الأنسان الغربي ولا من أمراضه. تنقل اليك عافية الأصالة التي عاشت على ترابنا ويحملها كل منا إن لم يتذاك. الفن هنا جسرك الى الروح. ومن الجسور ما يأخذك الى اللامنتهى. أنت أمام مساحات لا أفق لها. أنها جزء من لغة التصاعد التي تقولها هذه اللوحات. 

مغائر ومعابر والوان مطروحة بسخاء وغنى لا تقدر: كل هذا أعماق تتفجر وتأخذك اليها. وللمرة الأولى في فن سليمى ذود حيث لم يكن من جنس ترى الأمومة وتنتقل من البشرية بعامة الى المرأة ووليدها. ولكن يبقى هم سليمى ذود الطاغي الأنسان- لا الذكر والأنثى- الأنسان المتحد بالكون المعمر والشاخص إلى الله في آن وذلك كله في رقة خفرة وديعة. الكون، مهما عظم هنا وتأجج، يقول لك الأنسان الحلو.” 

 

كلمة سعيد عقل

“لمن الله كان عم يخلق هالكون، بيتهيئلي مرق ببالو تنين، الخصر وريشة سليمى”

(سعيد عقل 1978).

 

كلمة نزار قباني

“تجمع بين وبين سليمى: نقط فاجأتني. تلك النقطة هي الأنوثة. واعتبار المرأة هي البدء والنهاية.

في خطوطها وألوانها، كما في شعري، رحيل لا يتعب حول المرأة…ونحو المرأة…وفي المرأة.

المرأة في عشقها، والمرأة في نقائها، والمرأة في شهوتها، والمرأة في سقوطها، والمرأة في ارتفاعها.

كل هذا العالم المعجون بالماء والنار يخرج لك من تحت سطح الزجاج…ليقنعك انه في البدء كانت المرأة.

إنني سعيد جداً بهذه الريشة التي تعبر بطفولة مدهشة عن أفكاري عن الشعر…والحياة.

ولهذا أحببت سليمى. 

(نزار قباني – 2 أيار 1978)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *