في قراءة النصّ الدينيّ

Views: 118

د. عبد الحسين شعبان*

لا دين من دون نصوصٍ دينيّة، ولا مُمارسة دينيّة من دون نصوص أو تعاليم. وقد وُلد النصّ الدينيّ في البداية بسيطاً سمحاً متجرّداً من التكليفات، وحتّى خالياً من الشعائر، وبعيداً عن الطقوس، وهذه جاءت في مرحلةٍ لاحقة بعيدة زمنيّاً أحياناً عن تاريخ النصوص الدينيّة، وربّما غير مُطابِقة بمعانيها أحياناً أخرى.

في مكّة قدَّم الرسول محمّد (ص) دعوته البكر لدينٍ جديد تقوم على ركنيْن أساسيَّيْن: أوّلهما التوحيد، وثانيهما الأخلاق؛ والتوحيد والأخلاق لا يتطلّبان من المؤمِن الذي سيَدخل الدّين الجديد سوى الإيمان والبرّ والإحسان والعدل والرحمة والمروءة، وهذه كلّها يُمكن أن تندرج تحت منظومةٍ إنسانيّة، تلك التي تحمل جوهر الدعوة المُحمديّة المعطّرة. وهذه تُمثِّل قيَماً تاريخيّة خالدة، وهي قيَم إنسانيّة مستمرّة وصالحة، تعكس المحتوى الإنساني للدّين وللانتظام الاجتماعي بأطواره المُختلفة وتعدّديّته وتنوّعه.

أمّا ما زاد عليها فإنّه يندرج ضمن ما نُطلق عليه “التديُّن”، الذي هو مُمارَسة بشريّة، أي طريقة التعبير عن الدّين وفقاً لآراء فقهاء، وهي آراء متغيّرة بعضها يندرج في تفاصيل عفا عليها الزمن وتغيّرت الأحوال إلى الضدّ منها أحياناً، سلباً أو إيجاباً، وإن ظلَّ العديد من أصول الدّين وفروعه يحتاج إلى تفسيراتٍ وتأويلاتٍ تنسجم مع زمانها وعصرها.

لقد قدّم الإسلام المكّي حزمةً من التنظيرات والدعوات والتبشيرات بالعدل والخير، ولم يكُن في برنامج الدعوة المُحمديّة الشعائر العباديّة أو الواجبات الدينيّة التي على المُسلِم القيام بها، ولم تذكُر السورُ والآياتُ القرآنيّة أيّة تكليفاتٍ أو واجبات باستثناء القيَم الإنسانيّة العامّة التي بشَّر بها الرسول “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“، وكما جاء في القرآن الكريم “إنّما أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيرا” ( سورة الفتح، الآية 8).

كان المُسلمون الأوائل الذين آمنوا برسالة محمّد واقتنعوا بأنّه نبيّهم الذي يأتيه الوحي من الله، يُمارسون الدّين بعفويّة وروحانيّة طُهريّة استناداً إلى مبدأ التوحيد، ولم تكُن الصلاة أو الصوم أو الحجّ أو الزكاة أو الخُمس ضمن الواجبات المطلوبة من المُسلم، بل حتّى الجهاد لم يَندرج ضمن واجباته، وكان ذلك قد أتى في فترةٍ لاحقة حين اقتربَ الإسلام من أن يُصبح “سلطة” في يثرب “المدينة المنوّرة” بعد الهجرة الرسوليّة، أي بعد نحو 10 سنوات من بدء الدعوة الإسلاميّة، يُضاف إلى ذلك إصدار الرسول “صحيفة المدينة” التي مثّلت لُبنةً أولى لفكرة المُواطنة القائمة على المُساواة والشراكة والمُشاركة وأساسها الاعتراف بالآخر والإقرار بحقوقه.

والنصوص التي نزلت على الرسول محمّد في مكّة أكثر من النصوص التي نزلت عليه في المدينة، فهي تُمثّل ثلاثة أرباع الآيات والسور القرآنيّة. وقد أَمر الله المُسلمين بالصلاة قبل عامٍ ونصف العام تقريباً من الهجرة، وذلك عقب “الإسراء والمعراج“، حيث ابتدأ المُسلمون بالصلاة، ثمّ شُرّعت الزكاة. وامتازت الدعوة الإسلاميّة بأنّها دعوة هدىً صالحة للقيَم الإنسانيّة، وتلك شكَّلت المرجعيّة الفكريّة والمُنطلقات النظريّة للدين الحنيف.

أمّا العبادات فإنّها بدأت لاحقاً، وقسمٌ منها واصله الرسول استمراراً أو تعديلاً، لِما وجده صالحاً من الشعوب والديانات الأخرى، وكان بعضها جواباً عن أسئلة من المُسلمين (“ويسألونك” التي وردت 24 مرّة في القرآن) أو أحداث أو محطّات أعطى فيها الرسول عبر الوحي “رأياً”، وخصوصاً حين نزل في سورةٍ أو جاء في آية، فاتّبعه المُسلمون، وشكّلت هذه منظومة تشريعيّة على صعيد الإنسان الفرد أو الجماعة تُمثِّل الجزءَ البشري من الإسلام، أي مجموعة المُمارسات البشريّة في الإسلام أو الدّين الاجتماعي.

ولَعِبَ الفقهُ دَوراً كبيراً، سلباً وإيجاباً في توجيهها، فحين يكون سَمِحاً يسيراً يطغى الجانب الإيجابي عليها ويطبعها بطابعه إيجابيّاً، وحين يكون متشدّداً عسيراً يسود الجانب السلبي عليها الذي هو أمْيَل إلى التأدلُج والتعصُّب، ويبقى ذلك اجتهاداً بشريّاً يُخطئ ويصيب، ويُمكن أن يكون متجاوباً مع روح عصره ومع تطوّر مُجتمعه أو حين يكون في تعارُضٍ معه، بزعم تمسّكه بالأصول، فينتمي إلى الماضي.

وقد توسَّع الجزءُ البشريُّ من الإسلام، بل في الأديان جميعها، على حساب القيَم الإسلاميّة والدينيّة، بما فيه ما نُسِبَ إلى الرسول من قَولٍ وفعْلٍ وإلى الصحابة من بعده، ولاسيّما الخلفاء الراشدين، واعتُمدت مصادر أساسيّة للشريعة بعد القرآن تلك التي تقوم على السنّة والإجماع والقياس ويضاف إليها الاجتهاد “العقل”، ولا دين إلّا بالعقل، والفقه، وإن كان يقوم على الواقع، إلّا أنّه يستند إلى العقل، وأحياناً فإنّ جوانب من الفقه في قراءات خاطئة أو إغراضيّة أو مُبتسَرة تعطّل الجانب العقلي – القيَمي من الدّين لحساب الجانب البشري الاجتهادي (آراء الفقهاء) خارج دائرة الإيمان والسموّ الأخلاقي والرفعة الإنسانيّة.

إنّ قراءة النصّ الديني بما فيه القرآن والأحاديث النبويّة الصحيحة تحتاج إلى عقلٍ مفتوح، يأخذ بنَظَرِ الاعتبار التطوّرَ التاريخي ويستجيب لروح العصر والتقدُّم ومقاصد الإسلام وروحه وجوهره الإنساني.

أمّا النصوص الفقهيّة الأخرى، فهي مجرّد آراء قال بها فقهاء قابلة للنقد، وهي خارج دائرة المقدَّس، ويحتاج بعضها إلى استبداله وتغييره، إذْ لا عصمة لأيّ نصٍّ أو لأيّ رأي، فما بالك، وبعضها تجاوزه الزمن وأصبح بقراءاته التفسيريّة والتأويليّة والمصلحيّة يتعارض مع جوهر الإسلام ومنظومته الأخلاقيّة – الإنسانيّة.

يحتوي القرآنُ الكريم على معانٍ إنسانيّة مُحكمة الدقّة في وصْفِ الطبيعة البشريّة للإنسان، بما فيه من خَيرٍ وشرّ في آن، فجاء على الأولى بالتمجيد والإعزاز والرفعة، وتناولَ الثانية بالتنديد والازدراء والضِعَة؛ ومن القيَم الإنسانيّة الخيّرة والنبيلة التي أعلى من شأنها، الرأفة والرّحمة والعفّة والمَغفرة والصبر والعدل والعِلم والكرامة، أمّا منظومة الشرّ التي ازدراها فهي: الحَسَد والظلم والفساد والعدوان والانتقام والفتنة والكذب والخداع والفجور والضلالة والكفر والاستكبار والطغيان والكيد والمكر والحقد والنّفاق والافتراء والاعتزاز بالإثم، وهي سلوكيّات مُستهجَنة إنسانيّاً.

هكذا وَضَعَ اللهُ الحكمةَ والفضيلةَ مقابل السفه والرذيلة، ومن خلال جوار الأضدادّ في النصّ الديني يُمكن أن تنبجس الحقيقةُ الإنسانيّة والقيَمُ الإنسانيّة الخالدة للخير والعدل والجمال مقابل الشرّ والظلم والقُبح.

إن الله لا يحبّ مَن كان مختالاً فخورا” (سورة لقمان، الآية 118)، وقد حذَّر الله أولئك الذين يُظهرون عكس ما يبطنون بقوله “أولئك الذين يَعلم الله ما في قلوبهم” (سورة النساء، الآية 63)، ويقول في (سورة المائدة، الآية 41) “الذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم“.

أمّا بشأن الظلم، فيحذِّر الله مَن يُمارسه باسم الله كما تفعل اليوم المجموعاتُ التكفيريّة الإرهابيّة مثل داعش وأخواتها بقوله “إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون” (سورة يونس، الآية 44).

ولعلّ الكثير من هذه القيَم الإنسانيّة تُمثِّل قاسماً مُشتركاً بين الأديان، بل إنّها تُمثّل قيَماً إنسانيّة خالدة عبر التاريخ البشري، الأمر الذي يستوجب الحوار بين أتباعها لِما فيه خَير الإنسان، وهو ما يتطلّب إعادة قراءة النصّ الديني بعقلٍ منفتح وعلى أساس التواصُل والتفاعُل والتكامُل الإنساني المُفعَم بروح الأخاء والمُساواة التي خلق اللهُ البشرَ فيها على صورته.

والحديث عن الحوار لا يستقيم ولا يُصبح مُمكناً أصلاً، إلّا إذا تعيَّنت أُسسٌ مُشترَكة بين الأديان بغضّ النَّظر عن اختلافاتها، وأوّل هذه الأُسس هي الطبيعة الإنسانيّة المُشترَكة، فالمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي وغير المؤمن، هو إنسان مثل أيّ إنسانٍ آخر، بغضّ النَّظر عن دينه أو عرقه أو جنسه أو لغته أو جنسيّته أو أصله الاجتماعي.

ولم يُخاطب القرآن المسلمين وحدهم، بل إنّ رسالته تُخاطِب الإنسانَ والإنسانيّة بشكلٍ عامّ، ولذلك يُصبح لزاماً على كلّ مؤمن ومحبٍّ للحقيقة وساعٍ للوصول إليها، بغضّ النّظر عن دينه، طلبُ السلام والتفاهُم بينه وبين غيره شعوباً وأُمماً، وهو ما يُمكن استخلاصه من التراث الإيجابي للأديان بشواهده المُختلفة.

وعلى هذا الأساس يُبنى الحوار المُستمرّ البنّاء بين أتباع الأديان وفقاً للمُشترَك الإنساني في النَّظر إلى الإنسان كمعطىً، وعلى أساسه ينهض أيُّ تفاهُمٍ وتعاوُنٍ وأيُّ تقدُّمٍ وتطوّر، من أكثر القضايا العقائديّة تعقيداً وأشدّها حساسيّة إلى أبسط الأمور اليوميّة في التعامُل المباشر.

لقد اجتمعَ في التراث الإسلامي المُسلمون وغير المسلمين، وذلك استناداً إلى قراءةٍ وفهْمٍ صحيحَيْن للنصّ الإسلامي في صلب عقيدته الإسلاميّة، وأهمّها الكيانيّة الإسلاميّة ذات الأبعاد الشموليّة في الإسلام، أي في المُشترَك الإنساني بما فيه من اختلافات، وهو ما يعزِّز جسور التفاهم في العقول أوّلاً، وفي العقول تُبنى حصون التسامُحوالسلام والعدل أيضاً، وهي جسور للمشاركة والشراكة والمُساواة، وهذه لعمري أركانٌ أساسيّة للمُواطَنة العصريّة اليوم، بإضافة الحريّة كقيمةٍ عليا، بعيداً عن التمييز لأسبابٍ تتعلّق تتعلّق بـ “الأغلبيّة” أو “الأقليّة” والزَّعْم بامتلاك الحقيقة والأفضليّة لأسبابٍ دينيّة أو عرقيّة أو سلاليّة أو لغويّة أو غيرها.

لا يُفترض في أيّ نصٍ ديني أن يُعتبر وحياً إلهيّاً، فالنصوص التي جاءت بعد الرسول، إنّما هي اجتهادات تُقرأ تساوقاً مع زمانها ويُفترض فيها أن تَستنبط روحَ النصّ القرآني وتُقرأ تفسيراً وتأويلاً وفق ذلك، وهذه أُسس منطقيّة من خصائص العقل، مثلها مثل مهمّة النقد والمقارَنة والتفكّر، فتلك خصّيصة عقليّة تتّصل بالمُفكّر والفيلسوف واللّاهوتي والفقيه الذي يأخذ النصّ الأصلي بالتأمُّل والتمحُّص انسجاماً مع المقاصد الإنسانيّة بجوانبها كافّة.

إنّ ديمومة أيّ نصّ وخلوده، فإنّما لعلاقته بالحكمة الإنسانيّة وروح الدّين وجوهره ومقاصده، وهذه كلّها روافد تتفاعل فيها ثقافاتُ الشعوب والأُمم والأديان الأخرى، وبقدر استقلاليّة بعض النصوص الدينيّة تمايُزاً عن نصوصٍ دينيّة أخرى، فإنّها متأثِّرة ومُنفعِلة بكيانيّاتٍ ونصوصٍ أخرى، وتلك قضايا ذات بُعدٍ شمولي وكَوني متواصل مع ما سبقته من كيانيّات دينيّة.

ولا بدّ من استجلاء الصلة بين تعاليم القرآن وبين تطبيقاته الملموسة إنسانيّاً من ضمن ما يُسمّى أحكام الشريعة، بحيث يحدث التوازُن والتوافُق بين النصّ ومستلزماته الإنسانيّة. وبقدر ما يُعتبر القرآن كتاباً دينيّاً مقدَّساً ومُنزلاً، فهو كِتابٌ في كشف الطبيعة الإنسانيّة على نحوٍ جليّ وواضح، وعلى الباحث والمختصّ والفقيه استخراج المفاهيم الإنسانيّة وحبْكها في نظامٍ ورؤيةٍ جديدة تنسجم مع العقل وتستجيب للتطوّر الإنساني، والهدف هو نشدان الحقّ، وهكذا فالمسألة لا تخصّ الإسلام وحده، بل تنطبق على جميع الأديان، لأنّها تتّصل بصميم نظرة الأديان إلى الحياة بشكلٍ عامّ والإنسان الفرد وما يجمعه مع غيره من سائر البشر.

***

كاتب وباحث من العراق

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *