“شيفرة لعوالم أخرى” لزاهر العريضي… شعر من جرح الكلمات

Views: 376

زياد كاج

الجملة الأولى من مجموعة الشاعر زاهر العريضي “شيفرة لعوالم أخرى” صادمة وغير متوقعة:”هذا الكتاب غير صالح للنشر..” صراحة لم نعهدها من قبل! بلغة شفافة وأسلوب مباشر وبروح مقاومة عنيدة رغم جروح التجارب، خط الشاعر أفكاره وأحاسيسه في محاولة منه “للبوح في جرح الكلمات كنوع من العلاج..كي لا أموت وحيداً”. فبين الشاعر “البيصوري(من بيصور)” العابر غريباً في المدينة، وله مع “الأشياء سوء تفاهم دائم” حيث يمر نهاره “كالمحكوم بالأشغال الشاقة”.

نحن أمام شاعر لا يتبنى لعبة التخفي واللعب على العبارات المنمقة لكسب تصفيق ورضى جمهور القراء.

“شيفرة لعوالم أخرى”، ( دار نلسن 2023، 142 صفحة، لوحة الغلاف للفنان إيهاب أحمد)،  ليس الكتاب الأول للشاعر العامل في الصحافة المكتوبة والمرئية (قناة الميادين)، فقد سبق وصدر له “رحيل في جسد” 2008، “مأدبة ربيع الشعراء” (كتاب مشترك لمجموعة شعراء ضمن فعاليات بيروت عاصمة عالمية للكتاب، 2009)، “أنا الغريب هناك-نصوص تجريبية”-دار الفارابي 2019، وغيرها.

تحت عنوان “يوميات شاعر سابق” يدخلنا زاهر في عالمه بسهولة بفضل تشابيه واستعارات جميلة ساحرة راكمها في ذاكرته الشعرية من طبيعة القرية وجار المدينة- البحر. “أن أعطي البحر فرصة أخيرة للنجاة من الغرق، كما للأشجار فرصة للمشي، كأنني أعطي نفسي فرصة أخيرة..” وحين يخاطب حبيبته يحلق عالياً في التعبير عن مشاعره العاطفية: “أما أنت، في كل الأحيان، ابتسامة لا يتسع لها وجهي..”

يتعثّر العريضي في عالم المدينة (بيروت) المتناقض والمتقلب، وهو الهابط من فوق؛ من الجبل الأخضر، من السماء الصافية، حيث العلاقات بين الناس أكثر وضوحاً وأقل تعقيداً. “ما زالت العلاقة الملتبسة ، مع هذه المدينة، عشق وخيانة، عتمة ونور، وحب من جديد”. وهو الشاعر المتألم الذي يتوق الى أن يكون كما يريد لا كما يُراد له أن يكون. “ما زلت أتعجب! كل هذه الأشياء في داخلي..كيف تسعها روح واحدة”. فهو-كحالنا جميعاً—بحاجة ماسة للهرب. “إن الواقع من دون حلم، هو الجحيم..”

تحت عنوان “فواصل” يعلن الشاعر أن “البداية حين ينتهي كل شيء” وأن “الحياة ليست بهذه الجدية، فلماذا كل العمر بهذه القسوة؟” في مكاشفة فلسفية لمفهومه عن الوجود وحياة الإنسان الذي لا يخلو من القساوة والتشاؤم “العالم، هذا العالم لا عدالة فيه إلا في الموت.. وحاجة الإنسان-وربما خلاصه-..الحب، الصداقة، الموقف، التعزية، التقدير، وربما إلى شيء آخر…”

يدعونا الشاعر إلى العودة إلى ذواتنا “هناك حلقة صغيرة، هي أنت، ومهما اختبرت الحلقات الكبرى فسوف تعود إلى ذاتك”.

تحت عنوان “سرديّات مُختصرة جداً” يكشف العريضي مذهبه الصوفي الفلسفي: “السؤال الذي ما زال يحيرني، هو كلمتان: من أنا؟”، ويظهر كعاشق متواضع ومتآخ مع الطبيعة وهو ابنها الشرعي: “كيف أعتذر لامرأة، ظنت بأني فارس أحلامها..إنني أقرب الى الأشجار، وقد أكون حبة مطر، وفي أكثر الأحيان غيمة عابرة..كنت أقرب إلى البخور، وأقرب إلى الشمس، أخرج من الينابيع وأتدفق..”

زاهر شاعر بارع في أنسنة عناصر الطبيعة (شأنه شأن معظم الشعراء المعروفين).

“البحر يبتلع الصيادين، والزيتون ينتظر المطر”. حتى المدينة (بيروت)..دخلت العناية الفائقة، على صوت موسيقى الذاكرة، تسمع قصص حفار القبور. الأحلام التي تعفنت قبل الأجساد..هلوسات من البحر الأبيض المتوسط، إلى جبال لبنان الشامخة، من مدن كنعان، وكل الذين رفعوا راياتهم، خلف الأسوار (موت الإديولوجيا).

يريد الشاعر، صاحب العمق الفلسفي، دراسةً وفكراً،  أن يبتعد وينعزل كي يكتشف نفسه “أني حين أكون وحيداً، لا أشعر بالوحدة، بل أصبح أكثر حضوراً، أعمق حباً، وأقرب شوقاً. حين أكون وحيداً، تتسع نافذتي، ويتلون بيتي..تراني أنجب نفسي، بعد كل انطواء”.

يختم بسؤال مباشر للقارئ: “هل تعلم ما الذي يجعلني أكتب؟ الحزن ليس أمراً عابراً، وحالة سلبية. الحزن، كما الفرح، كما الجوع..فيه سر يرحل معنا”.

عادةً قليلاً ما أقرأ الشعر لميلي لسماعه. يستدعي الكتاب مراجعة أكثر عمقاً. قرأت “شيفرة لعوالم أخرى” واستمتعت.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *