نقد فلسفة هيغل

Views: 494

وفيق غريزي

نخص بنقاد هيغل، تجمّع نقاد برلين منذ العام 1827، وهو تجمّع يضم تلاميذ هيغل واتباعه ومريديه، ولم ينته هذا التجمع بموت هيغل، بل استمرت لقاءاتهم عقب موت هيغل مباشرة. ولم يكن هدف التجمع في البداية هو النقد، بل تحليل المفاهيم المختلفة لفلسفة هيغل، وسبر اغوارها، وتلمّس معانيها الحقيقية على نحو ما اشار اليه هيغل نفسه، ولكن دوام الحال من المحال، والحال عرض للواقع، والواقع ضد الثبات والجمود، سمته هي التطور، والتغيّر، والتطور لا يأتي على بعد واحد، بل شامل لكل ابعاد الواقع السياسية والاجتماعية والفكرية، ولكن بتفاوت وقع التطور وسرعته بين بعد وآخر، تبعا لخصوصية كل واقع وظروفه المختلفة، وكان وقع تطور الفكر الالماني اسرع من وقع التطور السياسي والاجتماعي، وكانت بؤرة هذا التطور الفكري هي المدرسة الهيغلية ذاتها، ومن قلبها يثور بركان النقد منذ العام 1835، حينما نشر الفيلسوف ديفيد شتراوس كتابه ”حياة المسيح” به انتهت وحدة المدرسة الهيغلية. 

 

فلسفة هيغل في مرآة كيركغورد

يتجه كيركغورد بنقد هيغل لإدخاله الحركة الى المنطق، وهذا من وجهة نظر كيركغورد ليس إلّا تشويشا وخلطا في علم المنطق، لأن هيغل يجعل الحركة شيئا اساسيا في مجال المنطق ولكنه بالرغم من ذلك يقرّ مبدأ الرفع. الفلسفة الهيغلية حسب رأي الباحثة فريال حسن خليفة التي وضعت كتاب “نقد فلسفة هيغل” قامت على اساس مبدأ التناقض، ولكنها تجاوزته في الوحدة التركيبية، وفي هذا تقول الباحثة إنّه: “رفض لمبدأ التناقض، واجهاض الحركة، ويعزو كيركغورد هذا الاشكال لدى هيغل الى أن النزعة العقلية المنطقية المجردة الخالصة التي يتصف بها المنطق الهيغلي، والتي جعلت لا وجود لـ “أما – أو” في الجدل الهيغلي، لأن الاختيار أو التناقض أو الحركة تُلغى عند رفعها من مجال الوجود وتقحمها في ابدية الفكر المجرد”،

ولهذا يوجّه كيركغورد تساؤله الى هيغل: طالما أن الفكر المجرّد قد استبعد التناقض واقرّ الرفع، يجب أن يفسر هيغل والهيغليون ما يقصدونه من ادخالهم التناقض والحركة والتحوّل الى دائرة المنطق. إن ذلك بلا معنى في نظر كيركغورد ، لأن الحركة سمة الوجود، والوجدان هو دافع الفرد ومحركه.

وتقول الباحثة فريال خليفة:  “وان كان هيغل يرى أن المذهب يبدأ مع الوجود المباشر ثم يلحق به، ويحتويه بالفكر، فان البداية تبدأ بالمباشرة، يتمّ الوصول اليها من خلال عملية التفكير، وهنا تكون الصعوبة في الوصول الى نهاية المذهب. ووجه الصعوبة كما يحدده كيركغورد، هو أن التفكير عند هيغل هو حركة لامتناهية، فكيف نضع حدًا أو نهاية لعملية التفكير حتى نصل الى البداية، والقول إن البداية تبدأ بالعدم تعبير جديد فقط ولكنه لا يؤدي الى أية خطوة جديدة، فالقول إن البداية لا توجد، او أن البداية تبدأ من العدم قضيتان متطابقتان تماما، لا تجعلنا نتقدم خطوة واحدة، ولذلك يقول كيركغورد: ”من الغريب أن يكون التفكير هو الذي يضع نهاية لذاته، لأن التفكير لا يتوقف بقفزة”. وهنا يحيلنا كيركغورد الى مراحل الوجود، وينوّه الى التفكير حيث يرتبط بالمرحلة الحسية الاخلاقية، وما من شيء يضع حدا أو نهاية للتفكير سوى القفزة الوجدانية التي تغوص بالذات في الابدية العينية في داخلها، في وجدانها الأبدي. وفي مقابل الجدل الهيغلي، جدل الروح، جدل الرفع والاتصال الضروري، يطرح كيركغورد جدل الوجود، جدل الذاتية، جدل الكيف، جدل التناقض والانفصال. إن الجدل هو صيرورة وجود الفرد وحياته في تنوّع مراحلها الحسية والاخلاقية والدينية. إلا أن هدف كيركغورد هو كشف تناقض الوجود الانساني ولكن دون رفعه، ومن ثم فان مركب الجدل الهيغلي، او وحدة القضية والنقيض لا مجال له في الجدل الوجودي. ويأخذ كيركغورد على هيغل لأن فلسفته قد رفضت مبدأ التناقض في الوحدة بين القضية والنقيض، وكيف يمكن اذًا تصوّر العالم اذا استبعدنا التناقض منه؟ ويعترض كيركغورد على وحدة الفكر والوجود عند هيغل ويصفها بأنها وحدة الفكر مع نفسه، فالوجود ليس هو الوجود الخالص او المجرد، الذي يبدأ به هيغل، بل هو الوجود العيني الذي يتضمن الفردية والصيرورة، هو الوجود الذاتي المتزمّن بالزمان. 

وتشير الباحثة خليفة الى أن كيركغورد يفصل اللحظات المختلفة للوجود العيني (الحسية والاخلاقية والدينية) ويمسك بها منعزلة. ويؤكد كيركغورد أن هيغل اخطأ في فهم قضية الضرورة، كما اخطأ في فهم قضية الوجود، والتغير الحقيقي، والحركة الحقيقية. 

 

هيغل في مرآة فويرباخ

اما فويرباخ فيسمي فلسفة الانسان “الفلسفة الجديدة”، ليس لها لغة خاصة أو مبدأ خاص، عدا الانسان المفكر، الذي يعرف نفسه كماهية واعية بذاتها للطبيعة والتاريخ والدولة والدين. هكذا يجعل فويرباخ الانسان هو الاساس التي تقوم عليه وتستند اليه افكاره السياسية والتاريخ والدين، ومن ثم يستعصي نقده لهيغل وفهمه، بمعزل عن فهم فلسفته وجوهرها الحقيقي.

 ونقد العلاقة بين الفكر والوجود، هو نقد الفلسفة التأملية بشكل عام والفلسفة الهيغلية بشكل خاص، الفكر يصدر عن الوجود، ولكن الوجود لا يصدر عن الفكر، وتلك هي قضية فويرباخ الاساسية.

 تشير الباحثة خليفة الى أن الوجود كما يعبّر عنه المذهب عند هيغل، ليس هو العالم الخارجي، بل هو مجرد مفهوم او تصوّر، أن الوجود ليس مغايرًا للفكر بل مشتق من الفكر، لهذا يقول هيغل: ”الوجود الذي يبدأ به المنطق هو الوجود الخالص، لأنه من ناحية فكر خالص، ومن ناحية اخرى مباشر بسيط غير محدد”. اما فيورباخ فيقول: ”إن الوجود على هذا النحو هو الوجود بالمعنى الميتافيزيقي القديم، أي محمول على كل شيء من دون تمييز، بافتراض أن كل الاشياء مشاركة في الوجود، فالوجود غير المتباين، هو فقط فكرة مجردة او فكرة من دون واقع لأن الوجود الحقيقي هو وجود متباين بتباين الاشياء ذاتها … بينما الوجود في منطق هيغل هو الوجود الذي يعينه في كل مكان غير متباين لا مضمون له”. 

الوجود الحقيقي عند هيغل هو الفكرة وواقع الفكر هو واقع مفكر. إنه تجريد، والوجود المنطقي عند فويرباخ هو تسامح وتفضل من الفكرة المطلقة، ويجب بالتالي أن يثبت ذاته موجودا، وهذا معناه اننا ندخل الى المنطق كما ندخل الى الادراك الحسي من خلال فعل الارادة فقط، من خلال فعل التعالي، من خلال الانفصال المباشر عن الادراك الحسي.

 من جهتها تقول الباحثة: نقلا عن فويرباخ: ”أن تسامحنا مع فلسفة هيغل والتزامنا الصمت، نجد أن لدينا من الاساس ما يسمح بالانتقال من الفكر الى الوجود، من المنطق الى الطبيعة”. لقد رأينا في داخل المنطق الهيغلي تعينات بسيطة مثل الوجود والعدم والتناهي، الماهية والمظهر، غير أن التعينات ذاتها مجردة، فهي تعينات سلبية وحيدة الجانب، لهذا يقول فويرباخ: ”هل تستطيع الفكرة المطلقة بوصفها جملة كل شيء أن تتغلب على احادية الجانب، وهل يمكن للمنطق أن يحتوي داخل ذاته ما هو اكثر من المنطق أي الطبيعة؟”.

 وعلى خلاف هيغل يرى فويرباخ أن العلاقة الصحيحة للفكر والوجود هي فقط، أن يكون الوجود موضوعيا والفكر محمولا، الفكر يصدر عن الوجود وليس الوجود يصدر عن الفكر. كما يهاجم فويرباخ تصور هيغل للوجود الخالص، فيهاجم ايضا تصور العدم. وما هو العدم؟ يقول فويرباخ بالعودة الى ارسطو، العدم هو هذا الذي خال من الفكر أو العقل بشكل مطلق، والعدم لا يمكن أن يكون فكرًا على الاطلاق لان الفكر هو التحديد والتعيين كما يقول هيغل نفسه. فاذا كان العدم مدركا او متصورا، فانه سيكون محددا معينا وعندئذ لم يعد عدمًا.

 تؤكد الباحثة أن العدم إنما هو غياب اي تصور كما يقول هيغل، إن التفكير هو تحديد بينما العدم هو غياب كل تحديد، لذلك لا يمكن أن يكون فكرًا، ولهذا يقول فويرباخ: ”الوجود المطلق كما يرى هيغل انما هو فكر، ولا يمكن التفكير أن يتجاوز الوجود المطلق لأن الفكر لا يمكن أن يتجاوز ذاته”. العدم يمثل كل اعتزال للعقل، كما في فكرة تصوّر الخلق من العدم، وهذا التصور من وجهة نظر فويرباخ إنما يعبّر عن التعسف المطلق وانعدام الفكر يؤدي الى القول إننا لا نستطيع أن نتصور أي اساس آخر للعالم عدا أنه لا اساس له على الاطلاق عدا الفعل الأجوف للارادة.

 

هيغل في مرآة كارل ماركس 

في نقد فلسفة الحق عند هيغل، يعترض كارل ماركس على الجدل الهيغلي من حيث سمته الصوفية والروحية، فقد انطلق هيغل من الفكر المجرّد واعتبر ما هو عيني او واقعي تعينا للفكرة المطلقة وشكلها المتناهي، ومن ثم يبدو الواقع في تحليله النهائي معقولا، تقول الباحثة فريال خليفة: “مع تطور اعمال ماركس ومنجزاته الفكرية، نجد أن هذ المضمون النقدي الوارد في نقد فلسفة الحق، تزداد افكاره عمقا واصالة ونضجا فكريا، وفضلا عن نقد الطبيعة الصوفية الروحية للجدل واتخاذه الروح اساسا لكل ابعاد الحياة الثقافية والطبيعية”. ويناقش ماركس في مخطوطاته حركة الجدل الهيغلي في مضمونها، ليوضح أنها ليست سوى حركة الفكر الخالص، الفكر المغترب، كما يعرض للجوانب السلبية للجدل الهيغلي في مجال الاغتراب موضحا أن: ”الجدل عند هيغل جدل الفكر الخالص، والفكر لا يتخطى ذاته الافي الفكر”. وترى الباحثة أن نفي النفي في جدل الفكر الخالص هو تأكيد الماهية الزائفة. الماهية المغتربة عن ذاتها هو انكارها كوجود موضوعي يعيش خارج الذات وتحويلها الى الذات”. 

 

وفي الجوانب الايجابية يركّز ماركس على الالغاء، وهو حركة موضوعية لاسترجاع الاغتراب في الذات، ناقدا الالغاء المجرد التاريخ لهيغل، ويؤكد كارل ماركس ما انتهى اليه في نقد فلسفة الحق، أن العيني هو اساس كل ما هو فكري او سياسي لا تستطيع الاحوال القانونية أو السياسية أن تفسر نفسها بنفسها، ولا طريق ما يدعى التطور العام للعقل البشري، أن اساسها بالعكس هو ظروف الحياة الذاتية. وقد كان يزداد نقد ماركس وضوحا واصالة، ليصبح كل ما هو روحي عنده مصدره هو القوى الانتاجية القائمة في المجتمع وما يرتبط بها من علاقات اجتماعية. وتؤكد الباحثة أنّ ” ماركس قدر لهيغل اعتباره العمل فعل ولادة الانسان، ناقدا الحركة الجدلية في عملية ولادة الانسان لذاته، وما انتهت اليه هذه العملية هو الذات المطلقة أو الروح المطلق كذات تغترب عن ذاتها، وتعود في الاغتراب الى ذاتها واسترجاع الاغتراب في ذاتها”. كما أن ايجابيات هيغل في منطق النظري واعتباره المفهومات المحددة صور الفكر المثبتة الكلية لحظات مختلفة لعملية التجريد، الوجود المتجاوز يساوي الماهية، الماهية المتجاوزة تساوي الفهم، المفهوم المتجاوز يساوي الفكرة المطلقة …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *