فيليب تقلا… أول حاكم لمصرف لبنان‎‎

Views: 231

المحامي معوض رياض الحجل

في ظل الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الحالي المتردي تصدرُ أصوات من هنا وهناك تترحم على زمنٍ ما سُمي بالـــ “الزمن الجميل” أو “زمن البحبوحة” وأطلقَ على بلدنا الحبيب لبنان حينها لقب “سويسرا الشرق”. هذه الأصوات أقول ربما قد فاتها القراءة المُعمقة لتاريخ لبنان الحديث وفاتها ما شهدتهُ الساحة اللبنانية من تحديات وأحداث لا تعد ولا تحصى. مصدر معلوماتهم قد يكون فيلم وثائقي قصير أو مقالة صغيرة في صحيفة ما بتاريخ ما. 

ربما لو رَكزَ الشعب اللبناني قبل اندلاع الأحداث الدموية على قراءة وتحليل ودراسة المحاضرة التي القاها الوزير الراحل فيليب تقلا في عهد الندوة اللبنانية لكان تفادى لبنان وقوع العديد من الأزمات البنيوية التي مزقتهُ وحولته الى جزر وكنتونات طائفية ومذهبية هدمت مع الوقت هيكل الدولة وحولتهُ إلى جثةٍ هامدة.  

محاضرة الوزير الراحل تقلا لم تلق في العام 1980 أو 1970 أو 1990 وفي العام 2000. القيت في 16 كانون الثاني من العام 1956 أي قبل هبوب العواصف الداخلية والإقليمية والدولية وما حملتهُ من ثورات واغتيالات وانقلابات وتغييرات في أرجاء الوطن العربي وحول العالم. تُلفت هذه المحاضرة تحت عنوان “مقومات السياسة الداخلية اللبنانية” أن الوزير الراحل كان صاحب رؤيا سياسية واجتماعية وإدارية ثاقبة وبعيدة المدى صالحة لكل زمان ولكل حقبة. 

ما يُمكن إدراكه من خلال دراسة نص هذه المحاضرة أننا ومنذ فجر الاستقلال في العام 1943 نعيشُ بحالةِ وهمٍ أو سراب أعمى عيون الجميع صغاراً وكباراً من دون استثناء. لم يستفق الشعب اللبناني من هذا الوهم إلا عند سماعهِ صوت الرصاص والقذائف: المرة الأولى في صيف العام 1958 والثانية في ربيع العام 1975.

قد لا تنتهي لائحة الأحداث التي شهدها “الزمن الجميل” من أكبر عملية تزوير للانتخابات النيابية التي جرت في 25 أيار 1947، إلى خرق الدستور اللبناني من خلال التجديد للرئيس الراحل الشيخ بشارة الخوري، إلى ثورة 1958 الدموية وغيرها وغيرها من الأحداث. اليكم أبرز ما جاءَ في المحاضرة التي القاها الوزير الراحل فيليب تقلا (1915-2006) والتي تعد بمثابة خريطة طريق للشعب اللبناني لكي يبني مستقبل أفضل وزاهر مبني على أسس قوية: 

الوضع اللبناني في محنة

“أود أن أنبه، في مطلع هذا الحديث، إلى أن الوضع اللبناني، في شتى نواحيه، واقع في محنة، وان العمل على تجنيب بلادنا كوارث ودواهي يقضي على الجميع، كباراً وصغاراً، أن يسموا بتفكيرهم وأعمالهم فوق الأهواء وأن يوسعوا أفاق أبصارهم وبصائرهم إلى حد تغور عنده كوامن النفوس، فنعتمد كلنا بعد الآن الجد والتعمق في الأمور ونعالج مشاكلنا الداخلية برحابة صدر وتسامح ونكران ذات.

المحنة الواقع فيها لبنان حلقة في سلسلة محن واقع فيها لبنان منذ أن كان. فظروف بلادنا الطبيعية وأحوالها البشرية حتمت على القاطنين هذه الديار أن يظلوا، جيلاً بعد جيل، في صراع لا هدنة فيه ولا هوادة. وهذا تاريخنا: سجل حافل بالحوادث الجسام، بالخطوب، بالآلام، بالوثبة حينا وبالكبوة أحياناً. وكل هذا كان في سبيل تحقيق غايتين: توحيد البلاد وأخذ استقلالها”.

 

على الأمة اللبنانية إدراك موجبات السيادة 

ونحن، أحفاد أولئك الجدود المُناضلين، تسنى لنا أن نحيا في زمن تحققت فيه الغايتان وعرفت فيه بلادنا أصفى الأوضاع السياسية التي مرت عليها في تاريخها الطويل: فلبنان اليوم وحدة متماسكة الحلقات – ولو في الظاهر – وهو دولة مستقلة حقوقياً وعمليا وذات سيادة مطلقة، تامة.

بيد أني من الذين يعتقدون أن وضعنا مهما صفا واستقلالنا مهما ثبت، لا يجوز اعتبارهما خاتمة المطاف في جهادنا، بل أنهما فاتحة جهاد جديد، قد يكون أقسى وأشد الحاقاً، غايته الحفاظ عليهما. فلا يجوز أن نستلقي في فيء الاستقلال والسيادة وننام، بل علينا أن نقدم برهان في كل يوم على أننا أمة جديرة بالاستقلال ودولة تدرك موجبات السيادة وتعمل بها. 

قلنا إن لبنان واقع دوماً وأبداً في محنة، فما يكاد يخرج من أزمة حتى يلج باب أزمة أخرى. ناضلَ أهله ثلاثة قرون حتى خلقوا ذاتية خاصة بهم في الإمبراطورية العثمانية، وما ان خلقوها حتى مزقتهم المطامع الأجنبية فاصطبغت صخورهم بالدماء واكتست قلوبهم برداء الضغائن القاتم.

الحكم الصالح يرسم الغد

” فالوقت يضيع علينا وضياعه يزيد في صعوبة تقويم المعوج. وعجلة الزمان تجري مسرعة وقد تمر علينا وتسحقنا ونحن عنها غافلون، نلهو بما بين أيدينا من توافه الحياة ونقنع من يومنا بانقضائه بسلام. غير أن السياسة الواعية لا تقنع بالحاضر مهما كان بهرجه، والحكم المدرك مسؤولياته يعمل دوما ً، عبر حاضره، على استقراء المستقبل وعلى التخطيط والتصميم لتأمين غد أرحب وأغنى. بل أن في رأس واجبات الحكم الصالح أن يرسم الغد على لوحة الحاضر فيضع مرافق البلاد ومعنويات الأمة في حالة تعبئة دائمة لتجابه كل طارئ، فينام الراعي وتنام الرعية وكلاهما مطمئن إلى أنهُ لن يستفيق مذعوراً على طرق الحوادث. 

قلنا، اذن، كانسان الإنجيل، لا يحيا بالخبز وحده. وقلنا سياسة البقاء تفرض عليه أن ينهج نهجاً يوحي الثقة والمحبة للعالم ويقوي في نفوس بنيه عاطفة التعلق به”.

 

على اللبنانيين واجب توحيد القلوب والجهود

” المسؤولية، في كل هذا، موزعة طبعاً بين الشعب والدولة. لكن الشعب والدولة، في الديموقراطيات البرلمانية، متداخلان في بعضهما، متشابكان، لدرجة يصعب معها توزيع المسؤولية بينهما. فكيف وعندنا والديموقراطية البرلمانية ممسوخة فلسفتها وضائعة موازينها. لذلك كان لا بد من توجيه كلامنا الى الحاكمين والمحكومين معاً لنقول لهم: أن على اللبنانيين واجباً أدعى من كل الموجبات، هو واجب توحيد القلوب والجهود وخلق شعور جماعي في ما بينهم لا يستقيم بدونه امر وطن. فان تم لهم ذاك استطاعوا أن ينتقلوا إلى الاضطلاع بالواجبات الأخرى الهادفة كلها الى جعل لبنان مرتعاً للفكر المشع وللعمل المجدي وآية في البهاء والتنظيم. 

تواضع الناس على المطالبة بما يسمونهُ ” الإصلاح الجذري”. ومتى ذكر الإصلاح انهمرت آراء ومشاريع لا عد لها، يستند أكثرها الى كون الإصلاح يجب أن يبدأ بتعديل الأنظمة والقوانين الأساسية.”

أزمة لبنان تتضمن أربعة فصول

” أما أنا فلست أرى من داعٍ للبحث في تعديل الأنظمة والقوانين، بل أعتقد مؤمنا، بأن الأزمة الداخلية التي يعانيها لبنان والتي لا يسعنا أن ننكر وجودها لا تمت بأية صلة إلى الدستور ولا الى التشريع ولا الى النظريات والمعتقدات. أنها أزمة مُتشعبة بل قصة متسلسلة سنحاول أن نحصر مشاهدها في فصول أربع:

  1. أزمة رجال مؤمنين، عارفين عازمين. 
  2. أزمة ثقة بين الحاكمين والمحكومين وهي نتيجة الأولى.
  3. أزمة تطبيق وتنفيذ، وهي وليدة الأولى والثانية معاً، 
  4. وأخيراً أزمة ناتجة من كون العالم يتطور بسرعة ونحن جامدون. 

فالأزمة الأولى، أزمة الرجال، أعني المستوى العام لأولئك الذين يقودون الراي في البلاد، أولئك الذين يصنعون التاريخ في حقبة من الزمن فيدخل صنيعهم في تراث أمجاد الأمة ويطول مفعوله فيمتد بعيداً ويبقى إلى ما بعد انقضاء الحقبة التي صنعوه فيها الى ما بعد خروجهم من الحلبة. وأعني أيضاً مجموعة المواطنين الذين يؤلفون النخبة في كل بلد والذين يتجسد مصير البلد في ما يعملون وما يتركون من أثر. 

أما الأزمة الثانية، وهي كما قلنا أزمة الثقة بين الحاكمين والمحكومين، فأنها تتفاقم عندنا يوماً بعد يوم. وقد يكون السبب المباشر في هذا أن المحكومين باتوا لا ينظرون إلى حاكميهم نظرة العامة الى النخبة. وقد يكون من أسباب هذا الفراق بين السلطة والشعب تنكر اللبنانيين الفطري لكل من يحكمهم، نظراً الى ما عانوه من تحكم الأجانب ههنا وتجبرهم طوال عشرات السنين، كما ان من بين أسبابها: الفردية والاثرة والأنانية التي يتميز بها المواطن اللبناني لضعف الروح الوطنية وانعدام التربية المدنية وفقدان الشعور بالواجب عند سواد الشعب. 

أما الأزمة الثالثة فهي أزمة جهاز الدولة بمجموعه وبمفرداته، من أشد الأخطار الداخلية التي تهدد لبنان على مر الأيام. فالحكم الذي يبغي، أول ما يبغي، حفظ الأمن وتوزيع العدل وتحقيق العمران وصيانة الأخلاق وتربية النشء ومكافحة الفقر والجهل والمرض، هذا الحكم يتوسل الى غاياته الة معقدة، لا يستطيع شيئاً من دونها، هي الإدارة. 

 

الأزمة الإدارية عندنا ذات وجهين: أزمة في أشخاص العمال وأزمة في أساليب العمل، وهما كائنان في جميع أجهزة الدولة من إدارة المدن والمناطق الى القضاء، ومن قوى الأمن الى المصالح الفنية.

ان انتظام الإدارة في لبنان والصرامة في قمع كل ما يخل بالأمن ووجود قضاء مثالي وحسن أداء الموظفين مهماتهم كافة – ان كل هذا شرط من شروط استمرار الدولة وتعلق المواطنين بها وإحراز ثقة العالم، وتالياً قاعدة أساسية من قواعد سياسة داخلية واعية.

بقي وجه أخير من وجوه الأزمة التي تجابه لبنان في حياته الاستقلالية، هو الذي أشرنا اليه بقولنا أن العالم يتطور بسرعة بينما نحن نمشي الهوينا. وفي الحقيقة، ان التطور الذي انطلق منذ نهاية الحرب الكونية الثانية والمستمر الآن هو من السعة وقوة الاندفاع بحيث لا تصمد أمامهُ غير الكيانات الجبارة بقواها المادية أو الجبارة بإيمانها وبخلق أصحابها وعزيمتهم وحاجة الغير اليهم.

أراد الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري أن يصف غموض القدر وما يخبيه فقال:” يلج الأنسان باب المستقبل مديراً لهُ ظهره “. فإلى الله نضرع أن يجعلنا، في لبنان، نلج باب المستقبل ونحن نعدو الى الأمام” .

 

نبذة عن حياة الوزير الراحل فيليب تقلا

تلقى علومه في مدرسة الفرير في جونيه، ثم في معهد عينطورة، وفي المرحلة الجامعة درس الحقوق في جامعة القديس يوسف التي تخرج منها في عام 1935، وبدأ بعدها بالعمل في مكتب المحامي الراحل كميل إده

بعدها دَخلَ الوزير الراحل فيليب تقلا (1915-2006) إلى عالم السياسة بعمر يناهز الــ 30 عاماً وذلك إثر وفاة أخيه النائب والوزير الراحل سليم تقلا.

بعد وفاة أخيه النائب والوزير سليم تقلا وخلو مقعده في المجلس النيابي عن دائرة جبل لبنان ترشح عن المقعد، وانتخب نائباً في آذار 1945، وأعيد انتخابه عن نفس الدائرة في دورة العام 1947، وانتخب عن مقعد الروم الكاثوليك في دائرة (الشوف – عاليه) في انتخابات عام 1951، وفي عام 1957  انتخب نائباً عن دائرة (بعلبك الهرمل). ودخوله النيابة فتح الباب أمام دخوله الوزارة، فتولى العديد من المهام الوزارية طوال حياته وأبرزها وزارة الخارجية والمغتربين والعدل بالإضافة إلى تعيينه كأول حاكم لمصرف لبنان المركزي في نيسان من العام 1964.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *