أُمَّاه!

Views: 115

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

(مَرَّ زَمَنٌ طَوِيلٌ يا أُمَّاه…

وهانِي أَستَذكِرُكِ بِما قُلتُ، يَومَها، في ذِكراكِ الأَربَعِين، ودَمعَةٌ تَبرُقُ في العَينِ مع الحَنِين)

 

جَلَوْتُ، حِينَ دَعانِي نَوْحُ مَأواها،           وَوَحْشَةُ الفَقْدِ، والرُّجْعَى لِذِكراها

صَحائِفَ العُمْرِ، عَلِّي إِذ أُقَلِّبُها،           يُعاوِدُ الدِّفْءُ رُوحِي، عِندَ مَرآها

وَجَدتُها كَزُهُورِ الفُلِّ، وادِعَةً،           بَينَ السُّطُورِ يُحَيِّينِي مُحَيَّاها

مِلءَ الدَّقائِقِ كانَت، إِذ تُداهِمُنِي           عَواصِفُ الدَّهرِ، تَحمِينِي جَناحاها

أُمَّاه… بَعدَكِ هل إِغماضَةٌ حَمَلَت،           إِلَّاكِ، لِلعَينِ، طَيفًا زادَ نَجْواها؟!

 ***

أُمَّاه… جارَ عَلَيكِ الدَّهرُ، فَانتَثَرَت           وُرُودُ خَدِّكِ، إِذ بانَتْ حُمَيَّاها

وغابَ مَن كانَ رُكْنَ البَيتِ، وانقَضَّتْ    ــــــــــ     صَواعِقٌ، باتَ أُسُّ الدَّارِ مَرماها

فَما وَهَنتِ، وَذَلَّلتِ الصِّعابَ، وما           تَعَثَّرَ الرَّكْبُ، والرَّاياتِ أَعلاها

وظَلَّتِ الوَردَةُ البَيضاءُ ناصِعَةً،           وفي الأَزاهِرِ، أَحلاها، وأَبهاها!

***

أُمَّاه… كم كُنتُ أَخشَى ساعَةً، بَرَزَت،        هُناكَ في الأُفْقِ، قد خَفَّت مَطاياها

دَنَت… فَصارَعتُ كَي تَنأَى بِحَومَتِها،           وتَسلَمِينَ وجازَ القَلبُ بَلْواها

أَتَتْ… وكُلُّ مَعادٍ لَيسَ تَمنَعُهُ، نَفسٌ،     ــــــــــ     وإِنْ طالَ في الأَيَّامِ مَسراها

أُمَّاه… كُلُّ رَبِيعٍ، بَعدَ نَضْرَتِهِ،           أَتَى الخَرِيفُ مَجانِيهِ فَواراها

***

أُمَّاه… كم عُدْتُ مَلهُوفًا لِدارَتِنا،           دارٍ حَبَبْتِ وكم أَهْناكِ مَغْناها

أُلَملِمُ العُمرَ أَشواقًا مُبَعثَرَةً،           بَينَ المَتاعِ، ودِفئًا في زَواياها

وأَرتَمِي في حِماها، ذاكِرًا صُوَرًا،           وقَهوَةً، ما تَلاقَينا، حَسَوناها

أَلفَيتُها ويَلُفُّ الصَّمتُ وحشَتَها،           وخِلتُ تَشكُو النَّوَى، لو أُوْتِيَتْ فاها

رَبَّاه… إِنِّي أَراها حَيثُما خَطَرَتْ،           وأَشتَهِي الأَرَجَ الزَّاكِي بِأَشياها

وصِرْتُ أَلمَحُ، يا أُمَّاهُ، بَعدَكِ، في           أَرِيكَةِ الدَّارِ، طَيفًا باتَ يَرعاها

أَحَلتِهِ الرَّبْعَ قَفْرًا، مُذ رَحَلتِ، وما           قَسَوتِ يَومًا على حالٍ أَلِفناها

يا باقَةً مِنْ حَنانٍ كُنتِها، أَسَفًا           أَن تَنتَهِي، ويَقُضَّ المَوتُ مَلقاها!

***

وشَدَّنِي الشَّوقُ، يَكوِينِي، لِمَن حَضَنَتْ           طُفُولَتِي، وحَبَتنِي النُّوْرَ عَيناها

ولم تَضُنَّ بِحَبَّاتِ الفُؤَادِ، وَإِنْ           أَصَبتُ نُعْمَى، لَكانَت مِنْ عَطاياها

أَتَيتُ حَيثُ تَوارَت فَوقَ رابِيَةٍ،           وخَيَّمَ الحُزنُ مُرًّا، حَولَ مَثْواها

والرِّيحُ تَصفُرُ، فَوقَ التَّلِّ، نَائِحَةً،           هل مَنْ سَفَحْتُ عَلَيهِ الدَّمعَ أَبكاها؟!

والسَّرْوُ يَعلُو، وقاماتٌ لَهُ شَمَخَت،           تُراهُ زادَ شُمُوخًا مِنْ بَقاياها؟!

دَعَوتُها، وجِدارٌ بَينَنا جَثَمَتْ حِجارُهُ     ــــــــــ     فَوقَ صَدرِي مُذْ تَغَشَّاها

أُمَّاه… لَيتَ نَذِيرَ الدَّهْرِ أَخطَأَ في           أَوانِهِ وجَلا عَن حَلقِنا الآهَا

أُمَّاه… لو لِي لما أَمسَكْتُ عن نُذُرٍ،           ولو سَفَحتُ مِنَ الأَيَّامِ أَغلاها

وكُنتُ أَنقَذتُ مَنْ كانَ السَّخاءُ، لها،           إِلْفًا، وكانَ التَّفانِي مِنْ مَزاياها

مَنْ إِنْ تَجُدْ جَهَلَتْ، لِلحالِ، ما نَفَحَت،           بِغَيرِ مَنٍّ، وبِالإِغداقِ، يُمناها

هَيهاتَ… والرِّيحُ إِمَّا ثارَ ثائِرُها،           تَناثَرَت ورَقاتُ الدَّوْحِ جَرَّاها

دُنيا… ونَزهُو إِذا ما أَقبَلَت، فَإِذا           آنَ المَعادُ كَما جِئْنا تَرَكناها

***

أُمَّاه… لَيتَ تُرابَ القَبْرِ كان نَدًى،           ومِنْ زُهُورِ رَوابِينا أُحَيْلاها

أُمَّاه… إِنَّا نَراكِ كُلَّما خَفَقَت           خَواطِرُ البالِ، أَشجاها وأَنقاها

مَعَ الرَّبِيعِ نَراكِ، في أَكِمَّتِهِ،           في سَرْحَةِ الفِكرِ، في أَحلَى الرُّؤَى تَاهَا

لم تَترُكِي الأَرضَ، يا أُمَّاه… إِنَّ بِها،           بَينَ الأَقاحِ، وُرُودًا أَنتِ رَيَّاها!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *