الأنوثة في فكر ابن عربي

Views: 254

وفيق غريزي

تشكّل الأنوثة، بالنسبة الى الفيلسوف الصوفي ابن عربي، احد الاركان المحورية في فكره، بل اعتبر أن خطابه، في عمقه وشموليته، يعكس خطاب الأنوثة، وهي قضية يشهد عليها النص الاكبر في اتساعه وتشعّبه، ويؤيدها اصرار ابن عربي على ادراج الحديث عن الأنوثة في سياق مركزي، ضمن ديباجة مؤلفه الشامخ (الفتوحات المكية). 

إن حضور الأنوثة في خطاب ابن عربي يخترق تصوّره للوجود والكون والانسان واللغة والسلوك والخيال. ويتقاطع عبرها النسائي الانساني بالوجودي. ومتى تعلّق الحديث بالأنوثة فانه يعلن الحضور الضمني او الصريح للذكور نظرا الى قيام الفكر الأكبر على قطبية وجودية تتشابك من خلالها الأنوثة والذكورة. هذه المسألة تناولتها الباحثة “نزهة براضة” في كتابها المعنون “الأنوثة في فكر ابن عربي”. 

 

رمزية الأنوثة والذكورة 

إن ارتكاز فكر ابن عربي على مبدأ الأنوثة ساهم، مع عوامل أخرى، في فتح افاق لإعادة تأسيس المفاهيم والمبادىء والتصورات، على اساس نظرة متميزة للانفعال والأنوثة مما يضعنا امام السؤال عن مفهوم الأنوثة والذكورة عند ابن عربي، وترى الباحثة أن: ” طريقة التكتم المعرفي تتعمق اكثر متى تعلق الأمر بالأنوثة والمرأة وسط بنية اجتماعية ومعرفية تحكمها السلطة الذكورية، مما دفع اكثر الى اخفاء المعنى وراء رمزية الخطاب”. يحدث الربط بين الأنوثة والمرأة وبين الذكورة والرجل، فذلك يعني الحاق هذا الزوج من الصفات بالاختلاف الطبيعي والجنسي بين الانثى والذكر، هو اختلاف يتلاقى فيه الحيوان والانسان، مما يعبر عن وجود تداخل بل خلط بين البشري والحيواني على مستوى التمثل، وقد يفسر هذا الخلط بتنوع مرجعيات هذا الزوج من المقولات.

وتوضح الباحثة أن “التطابق بين الطبيعي وصفتي الأنوثة والذكورة يتوارى الى حد ما، في الفكر الفلسفي، فقد استخدمت الفلسفة الأنوثة والذكورة في بعدهما الصفاتي، وجردتهما من الوجود الطبيعي للأنثى والذكر”. وازاء ذلك صاغت الفلسفة هاتين الصفتين في قوالب نظرية، مقولاتية، اصبحت معها الأنوثة دالة على الانفعال والامكان والتنوع، والذكورة معبر عن الفاعلية والضرورة والثبات، وتقترن هذه الصفات بعالم المادة لأنه يخضع للتوالد الطبيعي حيث لا تبزغ الحياة الا باجتماع انثى وذكر، فقيس عالم المادة بمعايير الامكان والانفعال والقبول. والصقت بالأنوثة. هذا، وينفي ابن عربي عن الاختلاف الجنسي بين المرأة والرجل أي تأثير في انسانيتهما، وينزع عن هذا الاختلاف الحق في التمييز بين المرأة والرجل لأن جوهر انسانيتهما يكمن في تجاوزهما للحيواني وليس الخضوع لاحكامه. المعنى المزدوج الأنوثة والذكورة، والذي يقتضي التمييز بين الحيواني والرمزي يقوم على الفصل بين الحاجة الغريزية والرغبة، ورغم أن ابن عربي لا يستخدم صيغ اللغة العلمية المعاصرة، التي تتداول عبارة الرغبة بشكل دقيق، الا أن نصوصه تزخر بمعان تحيل عليها، ولا تنجح ثيولوجية اللغة في اخفاء تأكيد أن “الرغبة انسانية والحاجة حيوانية”. ويقول ابن عربي: “الوصل بين المرأة والرجل لمجرد قضاء حاجة

 الغريزة يقتل في الانسان روحه او حقيقته الانسانية، لأن الوصل الذي تحركه الحاجة يقف حجابا امام معرفة الانسان معنى وروح المسألة، فلو علمها لعلم بمن التذ ومن التذ وكان كاملا”. 

 

الفاعل والمنفعل

استقى ابن عربي زوج المفاهيم “فاعل – منفعل” من الفكر الفلسفي حيث تم تداول هذا الزوج بشكل واسع، وقد صيغت علاقة الفاعل بالمنفعل في الفلسفة على اساس الفصل بين طرف يملك القدرة، على الفعل والتأثير وطرف يغلب عليه الامكان والانفعال. وتعتبر الباحثة أن “علاقة الفاعل بالمنفعل تؤطر نظريا للتمييز بين الأنوثة والذكورة على المستوى 

الصفاتي وكذا على المستوى البشري”.

 ويكسر ابن عربي هذه القاعدة عندما يفصح عن ارتباط زوج الفاعل – المنفعل بالأنوثة والذكورة، ويذكر وهو يتعرض لمنزل ثلاثة اسرار مكتتمة “وفيه علم الحاق الاناث بالذكور وهو الحاق المنفعل بالفاعل وينطوي الالحاق على معنى التقابل بين الفعل والمنفعل”.

وتعتقد الباحثة أن الانفعال يعبر عن ذاته من خلال صفات اللين والرأفة والمحبة والرحمة، وهي صفات اقترنت بالأنوثة، وتدل وجوديا على الامكان والقابلية والاستعداد، وقد تجلّت هذه الصفات مع الاعيان الثابتة، ومنها يسري الانفعال في كل الموجودات، ويصير خاصية جوهرية فيها، لذلك يقول ابن عربي إن: “كل منفعل مرتبته رتبة الأنثى وما تم الا منفعل”.  مما يعني أن الأنوثة لا تقتصر على النساء بل تشمل الوجود والموجودات، وتتجسد في النساء لأن الأنوثة سارية في العالم وكانت في النساء اظهر، يشترك الانسان مع سائر الموجودات في الانفعال لقبوله التأثير الالهي وسمعه الأمر التكويني “كن” فتتخلل الأنوثة كيانه، غير أن سمة الانفعال تغلب على النساء وعلى الطبيعة، وهذا ما يجعل ابن عربي يربط بينهما عبر نصوص كثيرة مبرزا كيف ” اشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلا للانفعال فيها وليس الرجل كذلك، فان الرجل يلقى الماء في الرحم لا غير. والرحم محل التكوين والخلق، فيظهر اعيان ذلك النوع في الانثى لقبولها التكوين والانتقالات في الاطوار الخلقية خلقا من بعد خلق. الى أن يخرج بشرا سويا “. تشبيه المرأة بالطبيعة يرتكز على اشتراكهما في الاستعداد للتكوين نظرا لقدرتهما على الولادة، وقبولهما اثر الغير وتأثيره، وكل كائن يتمتع بخاصية القابلية يعتبر، في الفكر الأكبر منفعلا ومحلا ومرأة وانوثة. 

تؤكد الباحثة أن ارتكاز التصور الاكبر على حضور الأنوثة والذكورة استدعى التخلي الدلالي (وليس اللفظي) عن مفاهيم تحمل معنى الفعل الواحدي كالتأمل والخلق من عدم والاعتماد بدلا من ذلك على اخرى تتلاءم مع معنى تعدد اطراف الفعل كعبارات الايجاد والصدور والظهور والتكوّن.

 

كمال الانسانية – المرأة والرجل

ترى الباحثة أن مفهوم الانسان في فكر ابن عربي، يتعدى الاختلاف الطبيعي، وحتى الرمزي بين الذكورة والأنوثة، كي تطفو وحدة لا تفاضل يمسها في جوهرها واصلها. وتصب هذه النظرة في تصور يعتبر الانسانية، كقيم ومعايير وقواعد سلوكية وروحية، لا تزيد ولا تقل من انسان الى آخر، مما يزيح الفرق بين المرأة والرجل وبين الأسود والأبيض والغني والفقير، من منطلق أن كل فرد من البشرية يكافىء، من حيث ما يحمله من انسانية، باقي البشر ويساويهم، أن الله لا يفصل بين المرأة والرجل، وفي هذا المجال يقول ابن عربي: ” وإن اختصت المرأة بحكم لا يكون للرجل، فقد يختص الرجل بحكم لا يكون للمرأة “. وذلك لأن المقصود بالتكليف والفعل والمسؤولية هنا المرأة والرجل كوجهين لوحدة اسمها الانسان، وهذا يسمح بالقول أن الانسان ليس ذكرا ولا انثى بل هو نفس لا تمييز فيها. ينطوي الانسان على كل الحقائق لأنه يحضن صور العالم السفلي في حسيته وصورة العالم العلوي في روحانيته.

وتقول الباحثة نزهة براضة: “تمتد جدلية الرؤية لدى البشر حيث يعي الرجل أن ذكوريته وفاعليته بحضور المرأة، وتمنح المرأة الرجل ما ينقصه (الفاعلية) كي يتميز منها وتكتمل البشرية بينهما”. إن حواء اصل ادم بما أن المرأة اصل في ظهور الانسان لما تتمتع به من قدرة على الولادة، فتعود اليها الفاعلية بحلم صدور الكائنات البشرية عنها، بمعنى المماثلة بين حواء وآدم وانعدام الفرق بينهما، وتغلب هذه الفكرة ضمن نص ابن عربي، متى تعلّق الأمر بالانسان بغض النظر عن ذكورته أو انوثته. إن حواء نفس آدم وذاته للتشابه الدلالي بين عين ونفس. (https://allmovieshub.zone/) وإذا كان القصد من عبارة “حواء عين آدم” انها نفسه، فذلك يعني أنها انوثته، لأن النفس عند ابن عربي وغيره، معنى الأنوثة في كل انسان. وتؤكد الباحثة” أن الأنوثة تشكل باختلافها، عينا أو مرآة ينظر فيها الرجل الى ذاته ويشاهد تميزه ويعي ذكورته. وبذلك تكون المرأة – حواء هي آدم في صورة مغايرة، وآدم هو حواء في رتبة مختلفة، لا يعي الانسان ذاته وتميزه الا بحضور الآخر. 

 

 المرأة والآخر

من وجهة نظر الباحثة أن الأنوثة تسري، كتعبير عن الوجه الامكاني للوجود المطلق، في الكون والكائنات. لكنها، إن كانت واحدة في دلالتها على الانفعال فهي متعددة، مختلفة، في مستويات تجليها في الوجود، مما يتطلب التمييز، ضمن الخطاب الأكبر، بين انوثة اصيلة تظل في عالم الغيب، وتدل على الامكان الكامن في الاعيان الثابتة، وانوثة كونية تظهر باشكال مختلفة. إن الرجال الذين فسروا الخطاب الالهي، من موقع مركزية الذكورة وسلطتها، نظروا الى جسد المرأة على انه عورة ويجب تغطيته كي لا يفتن الرجال في حالة انشغالهم بمصالحهم العامة، وبأن يفتنهم بالمقدار الذي يلائم رغبتهم، لذا فرض النقاب والخمار والحجاب على النساء خوفا على الرجال من فتنة غير منظمة. وحسب اعتقاد الباحثة، لا يشكل الحجاب اصلا من اصول الدين، ولا يستجيب لخاصية خفية أو ظاهرة في المرأة بل املته شروط بشرية متغيرة. غالبا ما تقاس قوة الانسان بصلابة بنيته الجسدية وشدة عضلاته وعنف قبضته، لتحسب القوة للرجل ويلصق الضعف بالمرأة، وهو منظور ينغلق وسط فهم حسي للكائن البشري معطلا قدرته على التسامي نحو الكلي والرمزي، تساميا يدفعه الى ادراك سر الحياة ومكمن قوتها. 

 

يقول ابن عربي :وليس في العالم المخلوق اعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه الا من عرف لما وجد العالم وباي حركة اوجده الحق تعالى “. وبما أن المرأة تجسد على المستوى البشري، القابلية والانفعال فانها تتمتع بقوة خاصة تستقيها مما تحمله من قدرة على الخلق والجود. وتشير الباحثة الى أن المرأة تتمتع حسب منظور ابن عربي، بقوة فذة نظرا لروائع التكوين، ولأنها اصل لحفظ الحياة البشرية والروحية، ولكون حضورها يفتق الاختلاف والمعرفة بالذات وبالاخر، فالمرأة توقظ في الرجل الانجذاب اليها وهو يخال نفسه القوي الشديد، ويدفعه عشقه لها للانحناء امامها، وفي ذلك قوتها التي لا تقارع. إن المرأة تصون نفسها ما لم تتغرب عن موطن الأنوثة. ومن تغرب عن موطن الأنوثة من تشبهها بالرجل فان ذلك يقدح في انوثتها محاكاة الرجل. تقول الباحثة: “تعتبر قدحا في انوثة المرأة اما تشبه الرجل بالمرأة متى تخلق بصفات اللطف والرحمة والمحبة؛ فيشكل تحقيقا لإنسانيته ومعرفة بأصله الباطن فيه والظاهر في المرأة، وذلك للسر الذي وضعه الله فيها “.

 هذه الاشكالية المزمنة دفعت الباحثة الى خوض المغامرة، خاصة أن مفهوم الأنوثة لم يلق الاهتمام المناسب لموقعه في فكر ابن عربي، ويبدو أن طريقة التكتم المعرفي تتعمق اكثر متى تعلّق الأمر بالأنوثة والمرأة وسط بنية اجتماعية ومعرفية تحكمها السلطة الذكورية …..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *