كلمة د.مصطفى الحلوة في المهرجان السادس في جران (البترون) احتفاء بإطلاق ديوان الشاعر عبد الله أبي عبد الله “وداعًا أيُّها القلم”

Views: 4

عَبْرَ الصديقين الأديبين فيفيان وطوني سابا، وصلتني مجموعة من مؤلّفات الشاعر والكاتب والمؤرّخ عبد الله أبي عبد الله، هي خيرُ هديّة، ولو جارَ زمننا على الكتاب الورقي.

أنعمتُ فيها النظر، فارتسمت أمام ناظرَيَّ تلك العبارة المُشتهرة، التي اعتُمِدت، كمعيار للحُكم على الموسوعيين، من أدباء العصر العباسي، وهي:” الإلمام من كلّ علم بِطَرَف”!

هذه العبارة/المعيار تنطبق “حفرًا وتنزيلًا” على أديبنا، سليل الدوحة المعاديّة. فهو، وإن بلغ من العمر عتيًّا، لمّا يزلْ راسخًا كالطود، حاضرَ الذهن، متوقِّدَه. فقد أتحفنا، لهذا العام، بديوانه التاسع، “زاعمًا”، أنًه الشّعّةُ الأخيرة في قنديله، قبل خُبُوّ نوره وهمود ناره إلى الأبد!

مهلًا، أبا إبراهيم، ولا تعجَلْ علينا، ألَمْ يَجِئكَ قولُ الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام: “منهومان لا يشبعان: طالبُ علم وطالب مال”!؟

ولئن عزفتَ عن حُطام الدنيا ومتاع غرورها، فإنّك باقٍ ذلك النَهِمَ المتعطِّش إلى الكلمة، وما أدراكَ ما الكلمة: “وفي البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمةُ الله” (إنجيل يوحنا). أوَلَمْ يَدُرْ في خَلَدِك، أديبنا، أنّ المبدع، في هيكل الكلمة، كما المؤمن، لا راحة له إلّا بلقاء ربّه؟!

 

“وداعًا أيّها القلمُ”! لا، لا وداعَ ولا “استيداع”، فكلّ أديب مُبدع، مهما طال به عهد الكتابة، ثمّة كلمة لديه، لم يقُلْها بعد!

ومما يُطَمئننا، أبا إبراهيم، أنّ لديك سابقة “فاشلة”، بصدد عزوفك عن الكتابة. فعند بلوغك الثمانين حولًا، فكّرت في الاعتزال، إذْ لا بُدّ، بحسبِ زعمك، من راحة جسديّة وفكرية، لكنّك فوجئتَ بتمرُّد قلمك، فراح يُلحُّ عليك للتراجع عن هذا القرار، وكان أنْ رضختَ لمشيئته. هكذا هُزمت، وما أحلاها من هزيمة، فكان ديوانك السادس “باقة شعر”(2019)، وتلاه السابع “خواطر القلق في الليالي الطويلة”(2021)، والثامن “أضواء من الزمن البعيد” (2022). كما كان التاسع ‘وداعًا أيّها القلم”(2023)، ولعلّ العاشر يُبصر النور، في مقبل الشهور!

هيّا بنا إلى “حديقة الشعراء”، لنتدبّر أمر أديبنا، وما باح به قلمُه، وما فاض به الفكر، وما اعتُصِر من أعماق الفؤاد! هيّا إلى جنّة شاعرنا الغنّاء، وقد أرادها محضنًا للشعراء، وموئلًا للأدباء والفنّانين ومساحة ضوء، في مُدلهمّ ليلنا الطويل!..هيّا إلى “حديقة الشعراء”، فَ”هذي حديقتنا روضٌ وساحاتُ/طابت بها زمنًا في الشعر جلساتُ/بها غصونٌ سمت في الجوّ شامخةً/والزهر فيها طيبٌ وفوحاتُ/من زارها عاد في شوق يواصلها/يشدّه ولعٌ بالشعر يُرسله/عباقرٌ، وبه سحرٌ وآياتُ” (وداعًا أيّها القلم، ص 122).

لكِنْ مهلًا..كيف ندوسُ تُرابَ حديقتك، كما تراب الطريق إليها، وعند تخومها ترقُدُ أجداثُ القدّسَين رفقا ونعة الله الحرديني، والطوباوي الأح اسطفان نعمة؟! كيف السبيل إلى “حديقة الشعراء”، عبرَ أرض القداسة، وقد دوّى في مسمعي ما خاطبَ الله به كليمه موسى، إذْ وطئت قدماه الوادي المقدّس:”إنّي أنا ربُّك، فاخلعْ نعليك، إنّك بالوادي المقدّس طُوى” (طه:12)

من مسقطي طرابلس الفيحاء، جئناكم، أبا إبراهيم، كي نتملّى من حديقتكم ومن ديوانكم عبقَ فكر، ورفيعَ أدب، وقيمَ حقّ وخير وجمال! أتينا جران، إحدى البلدات الدُرر في بلاد البترون، لنتشارك وإيّاكم فرح الاحتفاء بمولودكم الجديد، ولِندعُوَكم إلى أن “تُعشّروا”، فتأتونا بديوان آخرَ، ينضمُّ إلى التسعة من الدواوين، التي تتربّع سعيدةً، في السُدرة من جنّتكم!

..وإذْ نُجيلُ النظر في ديوانكم، نُبدئه ثم نُعيده، ونُعمِل الفكر نرى أنّه لا يخرج عن سُكّة الدواوين، التي أتحَفْتَنا بها، على مدى عقود مديدة من الحراثة في حقول الإبداع! لقد جعلته على غرار سابقيه، من حيث أبوابُه: زجلًا، وكلامًا منثورًا وشعرًا فصيحًا.

أربعمائة واثنان وثلاثون نصًّا، بل أربعمائة واثنتان وثلاثون محطة/قضيّة/ رسالة حوتها الأبواب الثلاثة، استُقي معظمها من كتاب مجتمعك المحلي، ومن سِفر الوطن ومن سِفر الإنسانية! وقد شففتَ، من خلال الموضوعات التي طرقتها، عن أديب إنسان، عَرَكَته الحياةُ وعَرَكَها، عجنته وعَجَنَها، وأسفرتَ عن مبدع، أوتِيَ الحكمةَ وفَصْلَ الخطاب، ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أوتِيَ خيرًا كثيرًا!

وإذْ نستبينُ السِمات العامة لهذا الديوان، فقد خلصنا إلى النقاط الآتية:

* معظم النصوص/القضايا، من نثر ومن شعر بشقّيه: الزجل والفصيح، مكثّفة معنًى، وتترجّح حجمًا بين سطرين وبين عدة سطور، إلى قصائد مطوّلات، استُحضِر بعضُها من ديوانه “حصاد الموسم الأخير”. هذه الخاصيّة، في التكثيف، مع وضوح المعنى، تردّنا إلى أبي عثمان الجاحظ، إذْ سُئل عن البلاغة فأجاب: “خير الكلام ما كان قليله يُغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه”

* لم يكن عبد الله أبي عبد الله- فيما قرأنا له- محايدًا تُجاه قضايا شعبه ووطنه وأمّته. فقد شنّ حربًا، لا هوادة فيها، على منظومة الفساد والإفساد، التي أوصلت اللبنانيين إلى جهنّم وبئس المصير! وطفق يصبُّ جام غضبه على الحُكّام الطُغاة، الذين أنزلوا المحن بشعوبهم. كما كان صوتًا صارخًا في وجه الانحرافات الاجتماعية. وبالمقابل، كان داعية إلى الإصلاح السياسي، وإلى استقامة أوضاع البلاد، وله مقترحات ثاقبة، في هذا المجال.

* لقد أبلى أديبنا بلاء حسنًا في الدفاع عن اللغة العربية، معتزًّا بتاريخ العرب ومآثرهم، بُناة الحضارة في العصر العباسي والعصر الأندلسي، ومفاخرًا بعلمائهم ومفكريهم وفلاسفتهم الأفذاذ. وقد نعى على أدبائنا المعاصرين عدم عودتهم إلى الجذور، للإفادة مما خلّفه الأوائل في تينك العصرين، اللذين شكّلا ركيزة أساسية للنهضة الأوروبية.

* ثمة مسألةٌ لافتة، رصدناها، في شعره الفصيح بخاصة، وذلك بإفراده حيّزًا واسعًا للطبيعة. ولا عجب، فشاعرنا نزيل بقعة غنّاء، مسّتها يدُ الخالق، مخلّفةً فيها آياتٍ من الجمال مُبهرات!

* لقد حفل الديوان بألوان أدبيّة شتّى، لا سيما شعر الخواطر والتأملات في الحياة والموت والوجود، حيث يتخذ أديبنا دور المرشد والواعظ والمُبصّر بحقائق الأمور. ولعل هذا الدور يُعزى إلى كونه مارس التعليم والتربية، سحابة سنين متعدّدة. (thisnation) وإلى ذلك، فإنّ شعر الغزل يشغل مطارح كبيرة، أكثره من الغزل العفيف، مع الانزياح، بعض حين، إلى الإباحية، بمنسوب معتدل. ولقد لفتتنا، في الديوان قصيدتان غزليتان، أولاهما، بعنوان “شقراء” (صفحة 125)، فيها جنوحٌ إلى الاباحية غير الفاضحة. وعن القصيدة الثانية، فجاءت بعنوان “سمراء”(صفحة 131)، وهي من الغزل الراقي العفيف.

 

استكمالًا، لا يمكننا أن نضرب صفحًا عن شعر الرثاء، لدى شاعرنا، لا سيما ما اختُصّ بزوجته الراحلة، إذْ أُترعَ وجدانيةً وحميمية صادقة: “خمسون عامًا مضت في العشق/معًا، وقد غابت ولم تعُدِ”(ص 106)

 ومن موضع آخر: “زوجتي هالكِنْتْ حبّا وإعبدا/اغتالا القدر بكّير/والحلم انهدم”(ص 34)، ونُضيف: “ما عاد جسمي يحس عا شك الإبَرْ/عا قد ما عانيت من ظلم القدرْ/حرمني رفيقتي وضهري انكسرْ” (ص 18).

* وأما عن الأسلوب التعبيري، فقد انماز نتاج أديبنا، شعرًا ونثرًا وزجلًا، بسلامة اللغة، وقوة السبك، والبُعد عن وحشيّ الكلام. وبما يخصّ شعره الفصيح تحديدًا، فقد اتّسم بالانسيابية، واستطاع تطويع القوافي لمقتضيات النظم، حتى الصعبة منها! وكان خليليًّا بامتياز، لجهة التزامه البحور الشعرية التقليدية، مع تصرفّه بتفعيلانها، فيخرجها بحلّة جديدة. هكذا كان متشدّدًا، في “خليليّته”، رافضًا الشعر الحديث، من منطلق إيمانه بأن الموسيقى الشعرية والقوافي هما عماد الشعر. وقد أوضح هذه المسألة، في مقدّمة باكورة دواوينه “سُمّرة” (1981)، إذْ يُقرّر:”لا يمكن إعطاء الصفة الشعرية والقوافي للكلام، ما لم تتوافر فيه الموسيقى الشعرية ووحدة القوافي(..) “فالتجديد والتحديث لا يكونان بتهديم الأساس، الذي يقوم عليه البنيان الشعري”. ولا بدع في ما يذهب إليه، فهو شاعر كلاسيكي، ترسّم خطى الأقدمين من شعراء العربية.

…في “مهرجان حديقة الشعراء السادس”، في هذه التظاهرة الأدبية المتفرّدة، ببلاد البترون، جئنا لنشهد، أبا إبراهيم، لعلوّ كعبكم، في عالم الادب، زجلًا، وشعرًا وكلامًا منثورًا. ولقد جهدنا في ذلك ما وسعنا الجهد، وما قدر عليه القلم، وما اتّسع له هذا اللقاء. إنْ هي إلّا شهادةٌ، ستعقبها، من لدُننا، مراجعة نقديّة أكاديميّة، تزينُ واحدًا من مؤلفاتنا، في الآتي من الأيام.

دُمت، أديبَنا، ودام قلمُك، ودامت “حديقة الشعراء”، فهي أجملُ “إصداراتك”، وما أبدعت يداك!

***

*“حديقة الشعراء”- السبت 8 تموز 2023

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *