في الذّكرىَ الثامنة لرحيل الأورُوغوائيّ إدْوَارْدُو غاليَانُو: أحد أقطاب رُموز اليَسَار في أمريكا اللاّتينيّة ومن أجرأ كتّابها

Views: 363

د.محمّد محمّد خطّابي *

في الثالث عشر من شهرأبريل الجاري 2023  حلّت الذكرى الثامنة لرحيل الكاتب الأوروغوائيّ الكبير إدواردو غاليانو،الذي رحل عن عالمنا في التاريخ المذكور من عام 2015 ،غاليانو صاحب أشهر كتاب وُضع حول معاناة السكّان الأصلييّن  في القارة الأمريكية الذين يُطلق عليهم الكاتب «سكّان الشقّ الجنوبي السُّفليِ من القارّة » ، مقابل «سكّان الشِقّ الشّمالي العُلْويِ من القارّة» !، وهو كتابه الشهير «أوردة أمريكا اللاّتينية المفتوحة» ( Las Venas Abiertas de América Latina ) ، الذي قال ذات مرة عن كتابه :”على الرّغم من أنّ نسبة مبيعات هذا الكتاب قد قفزت في أحد مواقع البيع الأمريكية (أمازون) من رتبة 60.280 إلى المرتبة العاشرة في يوم واحد، إلاّ انّه على يقين  أنّ لا أُوغُو تشَافيِز(الرئيس الفنزويلي الأسبق الراحل) ، ولا باراك أوباما(الرئيس الأمريكي السابق) اللذيّن أهدي لهما هذا الكتاب قد فَهِما فهماً جيّداً، واستوعبا استيعاباً حقيقيا محتواه »، الكتاب الذي نحن بصدده كان محظوراً في كلٍّ من بلده الأوروغواي، وتشيلي، والأرجنتين. يضافُ إلى هذا الكتاب الآنف الذّكر  مؤلَّفه الآخر الذي يحمل عنوان «مذكّرات النار» الذي يقع في (ثلاثة أجزاء)، والذي أفردتُ له فصلاً قائمَ الذات تحت عنوان (إعمالُ النّظر) في كتابي الكبير عن أمريكا الجنوبية : «ذاكرة الحُلْم والوَشْم» (أضواء مثيرة على ماضي وحاضر العالم الجديد) الصّادر عن دار النشر «أياديف» الرباط عام 2005.

قبل أن يتعاطى إدواردو غاليانو الكتابة، وقبل أن يصبح كاتباً كبيراً، ومثقّفاً مرموقاً في أمريكا اللاّتينية، ومثلما كان القاصّ المكسيكي الشهير خوان رولفو عاملاً في أحد مصانع العجلات المطاطية في المكسيك، فقد اشتغل غاليانو هو الآخر عاملاً في أحد المصانع، كما عمل كساعي البريد، وفي الطباعة، وموظفاً بسيطاً في أحد المصارف البنكية، وفي سواها من الأعمال الأخرى المتواضعة التي ليس لها أي صلة باختياراته، وطموحاته الحقيقية في الحياة، حيث أصبح في ما بعد من أكبر الكتّاب وواحداً من أبرز أقطاب رُموز مثقفي اليَسَار في أمريكا اللاّتينيّة ومن أجرأ كتّابها ، فى القارة الأمريكية، والعالم الناطق بلغة سيرفانتيس، وأن تترجم كتبه إلى ما ينيف على عشرين لغة عالمية حيّة بما فيها اللغة العربية .

 

“كِتَابُ ” أمريكا اللّاتينيّة

 ومثلما قال الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس عن رواية ( مئة سنة من العزلة) لغابرييل غارسيا مركير أنه (كتاب أمريكا اللاتينية)  كذلك ذهب بعض المثقفين الى القول أن كتاب( أوردة أمريكا اللاّتينة المفتوحة) جدير بأن يسمّى بنفس النعت الذي أعطاه فوينتيس لرواية مركيز، ومثلما نشر الكاتب البريطاني المعروف ” كولن ويلسون” كتابه في الثلاثين من عمره  فقد وضع غاليانو كتابه هذا في نفس هذه السنّ المبكرة  وهو كتاب يعالج فيه بعمق كافة المشاكل والمعضلات ، السياسية و الثقافية، و التاريخية، و الاجتماعية، والإثنية ، و الإبداعية  وسواها التي كانت تتخبّط فيها القارة الأمريكية في شقّها الجنوبي في ذلك الإبّان.

إدواردو غاليانو يقوم في هذا الكتاب بتحليل ضاف ودقيق لتاريخ هذه القارة البِكر مسلّطاً الأضواء بشكل خاص على  قضايا التصفية العِرقية، والاستغلال الاقتصادي، والهيمنة السياسية التي تعرّضت لها  هذه القارة بشكل رهيب منذ الاستعمار الأوروبي في القرن الخامس عشر، إلى فترة السبعينيات من القرن الفارط .  كتاب إدواردو غاليانو المثير لقي  ترحيباً واسعاً وقبولاً كبيراً لدى الأيديولوجيات الثورية واليسارية، وبشكل خاص في بلدان مثل الأرجنتين وتشيلي، والبرازيل،وفنزويلا، والأوروغواي وسواها التي كانت ترزح تحت الهيمنة الدكتاتورية المتسلّطة، ونتيجة ذلك فقد زُجّ بإدواردو غاليانو في غياهب السّجون في بلاده الأوروغواي بعد الانقلاب الذي عرفه هذا البلد عام 1973، ثمّ أُرْغِم بعد ذلك على الهجرة القسْرية، والاغتراب القهري، ولجأ  إلى الأرجنتين ثم بعد ذلك إلى إسبانيا.

 

أبناء الأيّام

لإدواردو غاليانوكتابٍ آخر صدر له قبل رحيله بعنوان «أبناء الأيام» انه يقول عنه : ” يأتي هذا الكتاب انطلاقاً من شهادات ناطقة حيّة من أفواه أبناء شعب المايا في غواتيمالا منذ بضع سنوات خلت” ويضيف : ” أنّ المايا يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّنا أبناء الأيّام، أبناء الزّمن،أبناء القدر وفي كلّ يوم تتولّد القصص،والأساطير، والحكايات المتواترة، ذلك أنّ الكائن البشري في عرفهم مصنوع وموضوع من الذرّات، ولكنّه صيغ كذلك من القصص والسّرد والتراث والحكايات”.

اعتبر بعض النقاد هذا الكتاب امتداداً لكتب غاليانو السّابقة، وتجسيماً لمواقفه من العديد من القضايا التاريخية، والاجتماعية والإنسانية، والسياسية، التي ينفرد بمعالجتها بأسلوبه الخاص، وبقدْرٍ كبيرٍ من الجرأة والمواجهة، والتحدّي والثبات.

 يُعتبركتاب غاليانو “أبناء الأيّام” إدانة صارخة للعصر الحاضرالذي نعيشه على مضض، إنها نظرة أو تشريح للواقع المرّ، إنه يوجّه انتقاداً شديداً للنظام العالمي الحالي الذي يحافظ ويذود عن المصالح المالية والاقتصادية، ولكنّه لا يتورّع عن إلحاق الأذى بالطبيعة وإتلافها. في هذا الكتاب نلتقي مع العديد من تعابيره المعهودة والمشهودة والمألوفة والمعروفة . إنّه يذكّرنا:” لو كانت الطبيعة مصرفاً أو بنكاً لكانوا قد عملوا على إنقاذها “! كما يحفل هذا الكتاب مثل كتبه السّابقة  الأخرى بالسّخرية المرّة، والتهكّم اللاّذع من ساسة الولايات المتحدة الأمريكية، الذين كانوا يعتبرون نيلسون مانديلا إرهابيّاً، وفي فاتح يوليو 2008 تمّ شطب اسمه من قائمة الإرهابيين التي ظل فيها 60 عاماً!.

 

جيمس بالدوين وإعمال النّظر

كما سبق أن أشرت في مستهلّ هذا المقال أنّ لإدواردو غاليانو كتاباً آخر تحت عنوان «مذكّرات الناّر» وهي ثلاثية قيّمة حول أمريكا الجنوبية يتساءل الكاتب فيها عن بعض المصادفات الغريبة، والمحيّرة التي تمرّ بالإنسان، وعن إعمال النظر في الأمور والتمعّن فيها بعمق، ويورد غاليانو قصّةً طريفة ومثيرة في هذا السياق يقول إنها أثّرت فيه تأثيراً بليغاً، وهي عندما قرأ استجواباً للكاتب الأمريكي الأسود اللون جيمس بالدوين الذي يحكي أنه حتى سنّ التاسعة عشرة من عمره لم يكن يعرف كيف يَرَى الأمورَ على حقيقتها، رّغم أنه كان سليمَ النظر، وأنّ صديقاً رسّاماً له هو الذي علّمه كيف يرى، ففي عام 1944 عندما كان الاثنان يسيران في بعض شوارع نيويورك، ووصلا إلى ركنٍ مُهمَلٍ من أركان الشارع توقّفا عن السّير، وبدأ الصّديق الرسّام يشير بيده إلى غَمْرٍ من الماء بجوار الرّصيف وهو يقول له: أنظر، أنظر.. ويحكي بالدوين أنّه نظر في البداية فلم ير شيئاً، رأى غَمْراً من الماء ليس إلاّ، وعاد الرسّام ليلحّ عليه، فقال له من جديد أنظر، أنظر..

وعاود النظر، وهذه المرّة رأى شيئاً لم يتراء له من قبل، رأى بقعة من الزّيت داخل الغمر، وعندما ركّز نظرَه أكثر وبمزيد من التمعّن، مع إلحاح الصّديق في أن ينظر وينظر، فبالإضافة إلى قوس قزح المُنعكس في الغَمر، رأى كذلك أشياء كثيرة أخرى، رأى أناساً يمشون، المارّة، الحمقى، العُمُّال، السّود، الذين يقطعون الطريق كلّ يوم، ولم يتوقّفوا قطّ للنظر مثلما فعل هو، وبعد أن زاد تحديقه رأى المدينة بأكملها، ورأى الكَوْنَ داخل ذلك الغَمْر الحقير الذي يوجد في ركن قصيٍّ  بعيد من أركان جزيرة منهاتن، وكان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلّم فيه أن يرى..! ويقول غاليانو معلقاً على هذه الحكاية: «إنّ الفنّ الحقيقي الجيّد  هو الذي يساعدنا على إعمال النظر، وعلى فتح نوافذ جديدة مُشرعة أمامنا كانت مغلقة من قبل  أمام أعيننا ” .

 

قصص وحكايات مؤلمة مِن وَحْي الاكتشاف

القصص التي يسوقها غاليانو في كتابه المثير” مذكّرات النار” عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية مستوحاة من الأحداث المعاشة ، وهي تتضمّن قيماً رمزية عميقة الغور تكشف النّقاب عن حقائف لا تخلو من أهمية، ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم التي لحق بها وبأهلها ظلم مرير ، عندما أقيم عام 1496 أوّل “مكان للحرْق” في أمريكا اللاتينية في هايتي، إنه منذ اكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقاً، إن القاتل (العشماوي الظالم ) هو “بارتولومي كولومبوس” أخو كريستوفر كولومبوس البحّار الشهيرالمغامر، والضحايا الذين أضرمت فى أجسامهم النار واشتعلوا حرْقاً وهم أحياء هم ستّة من الهنود، ويشير الكاتب إلى أنّ هذا الإعدام، أو هذه التضحية تجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم حضارتين بعنف شديد ، بل وأكثر من ذلك، هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه اكتشاف أمريكا هو عدم اكتشاف شيء، لأنّ “كولومبوس” مات مقتنعاً أنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم مثل حالة جيمس بالدوين كانوا عاجزين عن اكتشافها، إنّ نظرتهم لها كانت شبيهة بنظرة بالدوين الأولى العاجلة للغَمْر. إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى، إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الفظيع الذي ارتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارتولومي كولومبوس في النّار أحياء بدون رحمة ولا شفقة ؟ !

 

سَابَاتا، سَاندينُو، وغِيفارَا

ويحكي لنا غاليانو من جهة أخرى في كتابه المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة في هذا الشقّ من العالم، فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري”بانشو فييّا” كان اسمه الحقيقي هو دوراتيو أرانغو، وبانشو كان اسم أعزّ اصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة “أرانغو” اتّخذ لنفسه اسمَ صديقه، أيّ الاسم الذي هَوَى، وأصبح اسمه “بانشو فييّا” لكي لا يموت اسم صديقه أبدًا، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان، الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقةً.

وهكذا ظلّ اسم صديقه حيّاً في شخصه، تردّده أمريكا اللاتينية حتى اليوم. ويسوق الكاتب مثالاً آخر في السياق نفسه فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن الذين أصبحوا يشكّلون نوعاً من الأسطورة في حياة النّاس، وفي أدب ونضال أمريكا اللاّتينية وهم : “سَابَاتاَ” و”سَاندينو” و”غِيفارا” جَمَعَهم مصيرٌ واحد مُحيّر ، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا على إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم… يل لها من مفارقات الحياة العجيبة  التي عرفتها هذه القارة في تاريخها الطويل والحزين .!

 

***

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب ، عضو الأكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا – كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *