بول شاوول في علوه الثمانيني واستمرار مغامرة الشعر في بيروت

Views: 293

سليمان بختي

كلما مررت في شارع الحمراء ورأيت الشاعر والمسرحي بول شاوول على كرسيه في المقهى شعرت بالإطمئنان وادركت أن المكان لا يزال وفيا لشهوده الكبار. يقرأ الجريدة ولا يقرأ. يفتح فمه ليضع السيجارة. يكتب ولا يكتب. يرى في الشارع رئة نادرة. ويعتبر الحمراء عاصمة لبنان الحقيقية.

يتذكر انه في هذا الشارع وفي غيره مثل بلس وأونيسكو قاد التظاهرات الطلابية الطيارة في السبعينات، ويسمع صوته هاتفا من بعيد ،”رصوا الصفوف، رصوا الصفوف”. وأنه نال نصيبه من علامات النضال جروحا في الرأس وكدمات ومطاردات.

عانى قمع السلطة والدولة ثم عانى لاحقا قمع المجتمع الطائفي والمذهب والأصولي وأمراء الحرب الأهلية.

يمشي في الشوارع المتنوعة في رأس بيروت كأنه يمشي في منامه، أو كأنه ينتقل من غرفة إلى غرفة في منزله.

لا تزال تراوده الأحلام لأجل أن يكتب القصيدة المشتهاة أو يوقف تنعيم النظر في عمل شعري أو مسرحي له لا يرضى عنه أبدا.

يدقق ويتطلب وينافس نفسه حتى لا يمر الزمان ويكتشف التشابه.

 

لا يعلل النفس بما تشتهيه بل يذهب بعكس ذلك. لا يريد أن ينسخ نفسه أو يقلدها. يخاف أن تشبه كتابته كتابه. أحكامه قاسية على الشعر والشعراء الرواد وغير الرواد. ذات مرة دخل في سجال عنيف مع الشاعر أدونيس واتهمه بإستباحة بيروت. ولكنه عندما علم أن أدونيس دخل المستشفى لإجراء عملية جراحية دقيقة زاره باسما دامعا وعوّده.

لا يزال بول شاوول في حومة الشعر وآخر إصداراته “ملحمة الشعر الفرنسي الجديد (1960-2016)” ويتجه في هذا الكتاب إلى ترجمة الشعراء الفرنسيين الشباب في موجاتهم الجديدة. كما أصدر كتابا يترجم فيه قصائد للشاعر الكبير بابلو نيرودا مختارت شعرية من مجمل أعماله. وتحت الطبع قصيدة طويلة له بعنوان “القصيدة المتوحشة” و”ذلك الجسد” عن دار المتوسط.

وإذا سألته ماذا عن المسرح؟ أجاب:” ولكن أين المخرجين…”.

يحاول بول شاوول من علوه الثمانيني أن يفلت بجلده وأن ينجو بزمن الأفخاخ المحكمة وليس لديه مائة قافية بحسب نيتشه. 

 

ولد بولس يوسف شاوول في سن الفيل بالضاحية الشرقية لمدينة بيروت في العام 1942.

تعود جذور أسرته إلى قرية دورس في بعلبك. تلقى دروسه الابتدائية في المدرسة الرسمية وأكمل علومه الثانوية في المدرسة الرسمية أيضا ثم في مدرسة قدموس الليلية الخاصة.

بعد نيله الشهادة الثانوية التحق بكلية التربية في الجامعة اللبنانية ليحقق اختصاصه الجامعي، أما الإختصاص الثاني فمشاركة رفاقه في تأسيس حركة الوعي التي يعتبرها أنها حصيلة أفكار وإتجاهات مستمدة من طبيعة التناقضات اللبنانية العربية، وليس من أفكار يمينية غربية أو يسارية شرقية أو ماركسية. استطاعت هذه الحركة استقطاب الجزء الأكبر من طلاب لبنان في مختلف الجامعات وبعض الثانويات. حتى أنها غدت واحدة من القوى الأساسية في الجامعة اللبنانية والحركة الطلابية في لبنان.

عمل بول شاوول بداية في ترجمة الأفلام السينمائية الأجنبية. كما عمل مدرسا للغة العربية في مدارس سن الفيل. وبعد تخرجه من الجامعة عمل في الصحافة الأدبية ورئيسا للأقسام الثقافية فيها ( النهار العربي والدولي، مجلة المستقبل ، الموقف العربي، السفير، النهار ، وجريدة المستقبل). كما عمل في وكالة الصحافة الفرنسية في قبرص لخمسة أشهر.

 

شارك في العديد من المؤتمرات العربية والغربية الثقافية التي تناولت المسرح والأدب. 

له في الشعر:” أيها الطاعن في الموت” 1974، “بوصلة الدم” 1977، “وجه يسقط ولا يصل” 1980، “الهواء الشاغر” 1985 ، “موت نرسيس” 1990، ” أوراق الغائب” 1992، (كتبه على مدى ست سنوات)، “كشهر طويل من العشق” 2001، و”نفاد الأحوال” 2002. “دفتر سيجارة” و”حديقة الأمس” 2019 (واستغرقه 10 سنوات من العمل). 

وفي المسرح:” المتمردة” 1975 و”فناص يا قناص” 1985 و”الساعة خمسي” 1985 و”ميتة تذكارية” 1982 و”الزائر” 1995. 

وفي النصوص:”منديل عطيل” 2002 و”عندما كانت الأرض صلبة” 2003. 

وفي الترجمات: “كتاب الشعر الفرنسي الحديث” 1980، ” مختارات من الشعر العالمي” 1990 و”في انتظار غودو” 1992 و”نهاية اللعبة” 1992. 

وفي الدراسات:”علامات من الثقافة المغربية الحديثة” 1979 و”المسرح العربي الحديث”1989.

كتب للسينما حوار فيلم “بيروت يا بيروت” لمارون بغدادي، وسيناريو لمسلسل تلفزيوني بعنوان “الخيانة” لسمير نصري. وكتب حوار مسلسل “السنوات الضائعة” لسمير نصري. كما اقتبس للمسرح ” مذكرات مجنون” لغوغول. 

يتذكر بول شاوول مسار حياته وكأنه يتنبأ فقد كتب غير مرة “أنا تهت كثيرا، ومت كثيرا، وصرت وحيدا”. ولكن حين اتخذ قراره بالانضمام إلى فضاء ثقافي مختلف عن بيئته كان يعرف الصعاب والعوائق والنتائج، وكتب مستدركا كيف حدث كل ذلك:”وخفت أن يقتلوني لأني فقدت انتمائي، وكان خوفي في محله، فقتلوني ثم اعتقلوني، ثم اتهموني بخيانة الله والوطن والعائلة والأرض وأعدموني مرات ثم نفوني، فنفيت أنا نفسي لكي أريحهم، وكانت فترة عصيبة، فحملت نفسي كدمية، وجبت بلاد الله الواسعة، وحملني حذائي وتبعته، وخانتني كلماتي ولم أخلص لها، وعندها يئست”.

 

هكذا انطوت حياته على الألم والتمرد والحرية، على الخوف والقلق والندم. ولكن كل هذه المفاتيح مهدت له الطريق ليمشي في خطواته الملكية نحو النص الشفيف وقصيدة البياض والمسرح المشتبك بحياة الناس وآلامهم وأوجاعهم. ووجد بول شاوول أن التغير في الجسد والحياة يتلازم مع التغير بالكلام والمعنى والروح. هذه الرؤية الشعرية التي حملها بول شاوول استندت إلى مرايا اللغة وصورها وإلى القبض على ناصية اللحظة الشعرية الزمنية الراهنة، وإلى قوة الموت كقدرة تدميرية وقيامية في آن. أي في سقوطه في العدم، وفي ارتقائه نحو الفردوس. لعل هذه الأسرار والدقائق التي يحاول شاوول تضمينها في شعره إنما يريدها أن تتحول مع الجسد إلى روح، وإلى ذاكرة بصرية ملونة وشفافة في آن. 

لا يتوقف بول شاوول عن محاورة ذاته في القصائد كأنه يتهامس مع نفسه على نفسه. ولا يتوقف عن التجريب المتجدد والمختلف. يشيل من الطبيعة إلى الذات ثم يشيل ما فاض من الذات ليكتبه شعرا. ثم يعيد تنعيم النظر متأنيا كأنه يحتفي باللغة حتى يتصل المعنى باللغة في حكمة شعرية عفوية ومقصودة. لا تزال تدهشه التكنولوجيا ويدخل معها في علاقة ملتبسة. أحب القصيدة على الورق، يقول. ولا يزال يفضل صناعة طيارة من الورق. 

عندما قدم الشاعر والمسرحي الراحل عصام محفوظ (1939-2006) ديوان بول شاوول الأول “أيها الطاعن في الموت” كتب :” الشاعر الشاب المنفتح، كجيل شعري بأكمله. على انكسار العالم”. لا يزال بول شاوول شاعرا شابا يعطي الكثير من ذاته للقصيدة كي تعيش وتنجو بالصدق والمعاناة الحقيقية والتأمل العميق. كأنه يعرف أن ما يهم في آخر الطريق هو الشعر نفسه الذي إما أن يولد حيا وإما أن يولد ميتا بحسب تعبير خورخي لويس بورخيس. 

تحية إلى بول شاوول في كتبه الجديدة وسنواته الجديدة بعد الثمانين. فلا يزال في حومة الرحلة يحمل الجسد إلى مكانه ويحدق في البلاد، وينظر إلى بيروت ويعيش فيها كما تعيش فيه ولا يغادرها ويردد بينه وبين نفسه ما كتبه غير مرة: “يا رعشة المدينة الغامضة يا بيروت تصابين بالآيات والطلاسم/ تعلقين على جسدك عقود التمائم والعقارب / تتزيين بقلائد الحواة والسحالي”. 

ويظل يحلم فالحلم عنده كان دائما بوصلة الصبح، بوصلة الفجر الذي لا بد أن يأتي مهما طال الليل وتراكمت الظلمات. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *