مصطفى الحلوة و “مطارحات في أروقة المعرفة”…فيلسوف لا يتفلسف!
د.جورج طراد
لم يفاجئْني د. مصطفى الحلوة أبدا عندما تسلّمتُ مؤلفه الجديد ” مطارحات في أروقة المعرفة”. فأنا ، من خلال متابعتي لكتاباته السابقة وللندوات المكْتنزة التي يشارك فيها، وكذلك من خلال مداخلاته على صفحات التواصل الإجتماعي بالموضوعات كافّة، أعرفُ أنه من المفكرين الناشطين القلائل الذين يصدرون عن علم عميم ومتنوِّع ويشعّون حولهم فيضيئون العتمات الكثيفة التي باتتْ تلفّنا من كل الجوانب.
أقول إنه من طراز نادر لأن ثمّة كتابات كثيرة تحاصرنا من دون أن يكون لها ايّ مفعول على المتلقّي، وأكاد أقول إن معظمها يولد ميْتًا. أما الدكتور مصطفى فثقافتُه المتنوّعة مترامية الأطراف وشاملة بحيثُتولد كتاباتُه لتعيشولتفعل وتتفاعل وتتناسل فتُعطي حياة نابضة أو تَحِثُّ على الرغبة في الحياة.
يكفي أن تقرأ عنوان الكتاب لتُدركَ انه آتٍ من أرض الفلسفة البالغة الثراء والقادرة دومًا على المزيد من العطاء… وما أن تبدأ في التصفّح والقراءة المتأنيّة حتى تلمِس لمس اليد أن باعه في الأدب طويل، شعرًا ونثرًا، رواية وقصصا وجدانياتٍ وخواطرَ. كذلك فإنّ ملَكة النقد عنده تنساب تلقائيّة. أمّا حين تصل إلى الفكر العربي المعاصر في الجزء الثاني من الكتاب، فإنك تتأكد أن الرجل يتحرّك برشاقة في ملعبه وأنّ القوس أُعطيّتْ باريها. فمهاراته في هذا الميدان واضحة أيضا. فهو باحثٌ متمرّسٌ لا يُشَقُّ له غبار.
ناقدٌ محبٌّ
وميزة مصطفى الحلوة أنه ناقدٌ محبٌّ. وحسْبه هذه الصفة ليدخلَ القلوب ويستأثر بها. فالنقّاد ( بين مزدوجيْن طبعًا) الذين يُمطروننا بقراءاتهم الكتبَ والدواوين إنما يستعرضون عضلاتهم أكثر ممّا يستنطقون النصوص التي بين أيديهم. د. مصطفى يعمل على النصّ عمل الصائغ الماهر على الجوهرة الثمينة فيُبْرزُ ما فيها من لمعان ويقوِّم ما فيها من إشعاع، أيّا كان مستواه. والأهمّ من كلّ هذا أنه يلفِتُ إلى مكامن يمكنُ تطويرها والعملُ عليها أكثر فيكون قد أخذ بيد المبدع على طريق التجويد والإرتقاء. وقلبه الكبير يجعله دائما يغِضّ الطرْف عن النواقص وربما السقطات. فهو لا يتطلّع إلى تأديب الكاتب وفضح نواقصه، إنما يريد إبراز النجاحات علّ العدوى الإيجابيّة تنتقل إلى كلّ جنبات النص. وهو هنا ،يذكّرني بجبران خليل جبران الذي أكّد أنه إذا جاءه أحدُهم بقصيدة من مائة بيت ليس فيها سوى التماعة أو التماعتيْن فإنه يتوقّف مطوّلا عند نقاط التفوّق ويثني عليها، فيتشجّع الشاعر لينسجَ على غرارها، ويدركَ في الوقت عينه أن ما تبقّى هو دون المستوى الإبداعي المطلوب.
قلتُ إن د. مصطفى ناقدٌ محبّ. وأنا أعني ما أقول. فمَنْ يرَ تدبّره للنصوص التي يقرأ يكتشفْ ذلكبسهولة. بطبيعة الحال هو لا يختار من النصوص سوى الواعدة منها والتي تنضح بالإمكانات الإبداعيّة فيساعد على تحويلها من إبداع بالقوّة إلى إبداع بالفعل، كي نستخدمَ اللغة الفلسفيّة الأثيرة لديه.
ومن دلائل هذه المحبّة في تدبّر النصوص أنه يقيم إلفةً ومودّةً بينه وبين أصحابها. فهو مثلاً يتكلّم على الحبّ الحيدري عند الشاعر عادل حيدر، ويصل في رفْع الكلفة معهحدودا لطيفة فيسمّيه بالحيدر عادل. كذلك في كلامه على المشروع الرياض عوَضي نسبة إلى الشاعر رياض عوض. هل في هذا تركيبة مأخوذة من الفلسفة؟ ربما. ويزيد د. مصطفى في المنحى النحْتي الإشتقاقي نفسه فيقول: ” يستعيش ( وليس يعيش)إفتراضا ما يعجز عن إتيانه اليوم”. لغةٌ من نبع الفلسفة؟ نعم. كما في قوله ” النقيض لا يُسْتبان إلا في النقيض” وغيرها.
تهذيب واضح
إضافة إلى المحبّة في المقاربة، ثمّة تهذيب واضح في كتابات د. مصطفى النقْديّة. فهو لا يقول مثلا إن كتابات فلان لا تنتمي إلى الشعر، إنما يقول ” هو يقرِب من الشعر”، فيكون قد أشار بلباقة أنيقة إلى النصف الملآن من الكوب بدلا من التوقّف عند عيوب النصف الخاوي! وهو دائما يجد أسبابًا تخفيفيّة لنواقص الكتّاب فيعتبرها حينا ” فجوات لا يُبنى عليها” ، أو يرى أن الشاعر” يُستدْرَج إلى مواقف خطابيّة، كي لا يقول عنه إنه سقط إلى السرديّة الإنشائيّة. لا بل ، تراه يصلُ ، وعن قناعة، إلى مستوى تجاوز التصنيف بين شعر ونثر، والاستعاضة عنه باستخدام ” مرتبة عليّة في عالم الكتابة “. كذلك الأمر، وبلباقته المعهودة ولكن المنْصفة وغير المُحابية،يقول : ” وحبذا لو استعاض الشاعر عن( القصيدة) بكلمة نثريّة، فهو ذو باع طويل في أدب الترسّل، ولكنه أبى إلا أن يغرف من مَعين بضاعته، وذنبُه على جنبه”!
ومن الواضح أيضا أن ثقافة د. مصطفى الواسعة والمتنوّعة تنضح جليّة من خلال صفحات هذا الكتاب. فهو فيلسوف لا يتفلسف على الآخرين إنما عنده القدرة على التبسيط، فتصل كتاباته إلى الجميع، حيث تفعل فعلها دونما انفعال أو افتعال. ثقافته الشعرية ممتدة من جميل معمر إلى محمود درويش مع ما بينهما من قمم والتماعات، لا فارق عنده بين شعر حر أو شعر عمودي أو قصيدة نثر. فالمهم هو ماء النص. وهو الذي يقول حرفيّا : ” في مقاربتنا هذا الديوان أو المجموعة النثريّة”. وثقافته الفلسفيّة طالعة من أرض أرسطو لتضرِب في تربة ابن سينا والفارابي وابن رشد والغزالي وآخرين، ويصل مداها إلى الزمن الحديث، عربيّا وغربيّا، وقد شرب د. مصطفى من تلك الينابيع وما ارتوى حتى الآن. وآثارها ظاهرة في كل هذا الكتاب.
حتى عندما يقرأ شعرا بالفرنسية ( ديواناميلي فيعاني)، فإن قدراته الثقافية تتجلى من خلال المقاربة النقدية ولكن كذلك من خلال مقدرته على ترجمة الشعر من دون أن يُفقدَه شيئا من ماويته.
وثمة مقاربات مطوّلة مكتنزة استثمر فيها د. مصطفى ثقافته الواسعة، كما في تناوله لكتاب د. جان توما ” والعمر شراع مسافر”. في هذه المقاربة النقديّة يوظف د. مصطفى ثقافته الأدبية والفلسفيّة معا لأن النص يتطلّب ذلك، فتوقّف عند البعد الفلسفي للدكتور توما ليصل إلى خطاب الهجرة بتجليات وجعه الوجودي، حتى يتبدّى لنا المؤلِّف كاملا في عدسة القارئ، فنكاد نلمس طيف د. توما يتحرّك بين كلمات د. الحلوة.
المخاضات اللبنانية الحادة
كذلك يعود بنا د.مصطفى في كتاباته المميّزة هذه إلى مرحلة المخاضات اللبنانية الحادة من خلال مقاربته لمسرحيّة ” ليالي القاووش” لعبدالله شحادة التي وضعها في العام 1962 ، وإذا بها سبْق رؤيوي لشاعر الكورة الخضراء وكأنه يصف ما نتخبّط فيه اليوم من دوامة المسرحيّة/ المأساة التي تكاد تبتلع وطنا بكامله، ما جعل د. مصطفى يختم مقاربته ل” ليالي القاووش” بصرخة موجعة حيث قال : “تصبحون على وطن، قد يشيَّع عاجلا إلى مثواه الأخير إذا لم تحصل معجزة في عصر لم يعد فيه للمعجزات كبير حضور “.
أما في الباب الثاني للكتاب، والمخصّص للبحوث والدراسات، فهو بحق يختصر شخصية د. مصطفى الفلسفيّة والفكريّة، إذ يتحرّكهنا على أرضه وفوق ملعبه الفلسفي الأثير، كما قلنا. فهو،من خلال تطرقه لموضوعات متحركة تتعلق بالمجتمع وبقناعات أبنائه وتاريخهم ومعتقداتهم، إنما يضع الإصبع على الجرح، فيتبدّى قامة باسقة في المجال الفكري يمكن أن تعود إليها أجيال آتية فتنهل منمعين معرفي أصبح ، مع الأسف الشديد، نادر الوجود في زمننا الثقافي الراهن. وربما يكون د.الحلوة على هذا الصعيد، واحدا من آخر الديناصورات الناشطين، قبل الإنقراض، في الكتابة الفكريّة المتحرّكة. بمعنى أنه تجاوز جفاف الكتابات التنظيريّة الفلسفيّة وانخرط في حركيّة الحياة اليوميّة ليتناول ما فيها من نبْضٍ حيّ يقرّبه إلى الناس، فيخفّف من حدّة التسطيح التسليعي الذي يحاصرنا من كلّ الجهات.
فشكرا لك د. مصطفى على هذه العطاءات المميّزة.
وشكرا لكِ الشاعرة السيّدة ميراي شحادة على أحتضانك الكتابات الرصينة وعلى إتاحة المجال لإيصالها، من خلال منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء، إلى أوسع عدد ممكن من الناس، فيصار إلى تعميم الفائدة.
وشكرا لكم أيها الحضور الكريم على صبركم وتحمّلكم الإستماع إلينا كل هذا الوقت.