“منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” يحيي الذكرى السنوية الأُولى لغياب الدكتورة غادة السمروط بندوة تكريمية في مركز الصفدي في طرابلس وإصدار كتاب لها وآخر عنها

Views: 549

في الذكرى السنوية الأُولى لغياب الدكتورة غادة السمروط صدر عن “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” كتابان “ومضات فارسية” للدكتورة غادة السمروط و”العبور بالكلمة إلى ماوراء الكلمة والنفاد إلى عمق الذات”( مشروع غادة السمروط الفكري عبر مراجعات نقدية تطبيقية)،  للدكتور مصطفى الحلوة. وقد أٌطلق الكتابان في ندوة تكريمية للأديبة والباحثة د.غادة السمروط أقيمت في مركز الصفدي في طرابلس، نظمها “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي” بالتعاون مع المنتدى الثقافي في الضنية، في حضور الأستاذ محمد كمال زيادة، ممثلًا النائب اللواء أشرف ريفي، الوزير والنائب السابق أحمد فتفت، مدير عام مصلحة مياه طرابلس الأستاذ خالد عبيد، المحامي الشاعر شوقي ساسين الأمين العام للجنة الوطنية للأونسكو،مدير كلية الآداب في الجامعة اللبنانية (الفرع الثالث) د.محمد الحاج، د.جاكلين أيوب المديرة السابقة لكلية الآداب (الفرع الثالث)، الأستاذ عبد القادر علم الدين الرئيس السابق لبلدية الميناء، السيد أنطوان أبو جودة، الأستاذ زياد جمال الرئيس السابق لبلدية بخعون، فضيلة الشيخ د.شادي مرعي. إضافة إلى حشد من ممثلي فاعليات اجتماعية، وثقافية، وجامعية ومهتمين، جاءوا من مختلف مناطق لبنان، لاسيما من طرابلس والضنية والمنية وزغرتا والكورة.

شارك في الندوة رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي الشاعرة ميراي شحاده، الشاعرة يسرى البيطار، الدكتور مصطفى الحلوة، الأستاذ أحمد يوسف (ألقى كلمة العائلة)، تخلل الندوة تحية من القلب غنائية مع الدكتورة مارلين يونس التي أطربت الحضور بصوتها الشجي وبأدائها الجميل مقطعًا للدكتورة غادة السمروط: 

الصمتُ بلا لون/ والكلامُ ألون/ وحين يتّحدُ الصمتُ بالكلام/ تبدأ ثورة الملام/ فأعدو إلى الوراء/ على شراعٍ من ذكريات/ رحلَ في الآهات/ وأصلي لإله يسكُنني/ في همس الأفق/ حيث تورق السماء صلاة/ ويُنشِد البحر بوحًا/ وأنا بين الاثنين/ أسكن إليّ

وفي ختام الاحتفال وقع الدكتور مصطفى الحلوة كتابه “العبور بالكلمة إلى ماوراء الكلمة والنفاد إلى عمق الذات”( مشروع غادة السمروط الفكري عبر مراجعات نقدية تطبيقية).

 

عماد غنّوم 

قدم الندوة د. عماد غنّوم  بكلمة مما جاء فيها: لم يتسن لي في دروب الدراسة أن ألتقي بالدكتورة غادة السمروط رحمها الله تعالى، مع اني كنت أعرف زوجها الشاعر الأستاذ أحمد يوسف حفظه الله، واحضر ندواته الشعرية باستمرار، ربما بسبب اختلاف مجال دراستينا بين اللغتين العربية والفرنسية، ثم تعرفت إليها زميلة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، إلا ان اللحظة الفارقة في معرفتها كانت يوم حضرت في هذا الصرح ندوة حول أحد كتبها، ثم استمعت إلبها متحدثة، فبهرني في شخصها الهدوء الراقي، وفي كلماتها الأناقة والجمال، وفي فكرها العمق الفلسفي، ويومها لم أتخيل أن اقف على منبر للحديث عنها في يوم ما، وكم كانت سعادتي يوم اصطفاني المصطفى الحلوة لأقدم هذه الندوة بموافقة ومباركة من السيدة ميراي شحاده”.

أضاف: “وأنا أقرأ في مقدمة الدكتور مصطفى للكتاب شعرت للوهلة الأولى أن أستاذنا اتعب من سيأتي بعده فهو لم يترك شيئًا من أفكار الكتاب إلا وتحدث عنه، فقلت ربما ترك لي الأسلوبية واللغة، ولكنه لم يوفرها وقدم مطالعاته القيمة في لغة الكتاب وأسلوبه، ولكي لا أكرر ما اورده أستاذنا، تركت العنان لمشاعري لتكتب جملة من الخواطر والافكار التي راودتني وأنا أغوص في ومضات غادة السمروط .لقد تساءلت منذ العنوان عن دلالاته مثل أستاذي وكان التوضيح الذي ذكره الدكتور مصطفى كافيًا لإزالة تساؤلاتي، إلا أنني أريد أن أخالف الدكتور مصطفى في ما ذهب إليه من دلالات العنوان فبعد مطالعة الكتاب وجدت أن كلمة فارسية التي تحيل إلى فارس ابن الراحلة، لا يكتفي بهذه الإحالة فقط، إذ كنت وانا اقرأ هذه الومضات أشعر بأنني في معرض للفن الفارسي بما يشتهر به من دقة وجمال واتقان وحيوية ألوان، بل أني أقف أمام سجادة فارسية معلقة حاكها النساجون بهدوء وطول أناة موشاة ومزركشة بكل شكل جميل، هكذا هي ومضات غادة آية في الجمال والسحر الفني، نسجتها كحائك فارسي يشد الخيط إلى الخيط ليبدع منه اجمل الأشكال، وغادة السمروط تشد الكلمة إلى الكلمة لتبهرنا بما تقول وتصنع”.

 

 ميراي شحاده

الكلمة الأولى كانت للشاعرة ميراي شحاده جاء فيها:

مساء النور ومساؤك غادة

يعود الربيع هذه السنة حاملاً لنا عبق ومضاتك الفارسيّة لتوقظي الذاكرة أيّتها الغادة .

ها سنة قد مرّت، وأنت ارتحلت إلى عليائك لترتديَ السماء وتمرحي في واحة نورك الأزلي.

أفلتت منك الظلال وطرتِ حيث لا وجع ولا وجل ولا عذاب. لكنّ ظلال حبرك ترشف يمينا وشمال.

نلتقي في هذه العشيّة المباركة لنحتفي معك، من هنا، من الصرح الثقافي الذي لطالما ضجّ بك ومعك، من مركز الصفدي مشكوراً، وأنت تطلّين من عليائك،  تباركين ولادة كتابين من رحم منتدى شاعرالكورة الخضراء، كتابين الأول لك والثاني عنك. فلكِ الخلد يا سيّدة المحافل والكلمات.

من ثالوث ثقافي مقدّس، طرابلس والضنيّة والكورة، نرفع لك بخورأبجديّاتنا!

مترعون فخراً بك وبإنجازاتك الأدبيّة والبحثيّة…وأنت التي أشعلت مطر الكتابة والكتّاب بوهج حبرك وارتمت يراعاتك على شطآن الحروف وفي كواليس الجامعة اللبنانيّة، توشم بالحب ما سطّرت أناملهم من كنوز…وأنت التي لم تكلّي عن سبر أغوار المعرفة، مبحرة نحو الحكمة وعوالم اللغات أجمع.

اليوم أقلامنا جميعها تبحر إليك. وقلوبنا ترنو إلى فضاءاتك.

جئناك من الكورة والبترون والضنيّة وعكار نتشارك مع حبيبتك الفيحاء في ذكرى رحيلك الأول.- غدوت باكراً جدّاً يا سيّدتي إلى مرآبك الأعلى. وأودعتِ  فينا وفي مكتباتنا الكثير من آلائك؟

قبل أن نلتقي في 2020، كنت من عشّاق كلماتك، أقرأها  وأعبر بروحك أثلام الأدب والشعر والفلسفة وأراني بين شعاعاتك، كالكثيرين من قرّائك، أعبر إلى النور بك ومعك.

عبورنا الأول في منتدى شاعر الكورة الخضراء كان معك عبر أعمال الشاعرد. محمود عثمان ، وهو مشكور لوصلي بك، فولد مولودك الأوّل في المنتدى الكوراني: بين العبثيّة والصوفيّة في أعمال محمود عثمان الأدبيّة. وأنا كنت أرقب ساعة تعبرين بأعمال عبدالله شحاده بين خافقيكِ، لكنّك آثرت العبور إليه والبقاء هناك.

وأنا هنا على حافة الهناك،  وقد أعلنت الحب باسم أمّي وباسم أبي طقساً للبوح والكلام، وأيقظت أجراس عبدالله شحاده لتصدح وترنّ شعراً في القرى والمدن وكلّ لبنان وأولمت للمحابر خفق القلب ودم الأوردة الحمراء…أقول لك يا غادتي السمراء، نامي قريرة العين وتوسدّي السماء…لا تليق بك إلّا السماوات.

ولد.مصطفى الحلوة أقول : عوّدتنا الغوص في الأعماق وعلّمتنا كيف تورق بين يديك كلّ الكلمات.مبارك لك نصوصك النقديّة الصارخة حضوراً في غسق الرحيل. عبرت بغادة السمروط إلى ما وراء الكلمات وسبرنا معك عمق ذاتها ووساعة ثقافتها وصولجان فكرها وعرفنا بك طقوساً فلسفيّة وجدليّات.

شكرا أيّها المصطفى، لأنّك وللمرة الثانيّة آمنت بمنتدى شاعر الكورة الخضراء لتصوغ إبداعاتك من رحمه.

وختاماً، لد. غادة أناجيها:

تعالَي في هذا الغسقِ

يا غادتي السّمراء

نوضِّبُ خمر الدموع في مآقي التّراب!

لا ريحَ تمحو الظلالَ

ولا سفرَ يشتّت الوصالَ

يا طفلة الأمجادِ

لا شوكاً يُضني الورودَ في جنائن الأطفال!

وإن استترتِ خلف أساطيرِ الخيال

من قال؟

أنّ هنا  قفرٌ و يباب

و وِحشةٌ و اكتئاب؟

من قال أنّي لا أراك

في ضفائرِ الحبرِ

تسرّحين الكلام

في خفرٍ ودلال؟

تزلزلين الزمان من خارج المكان

وفي رعشة غيابك، سيّدتي

حضورٌ وبدر اكتمال!

 

يسرى البيطار

بعد ذلك ألقت د. يسرى البيطار قصيدة في عنوان “غنّى بكِ الناي” …جاء فيها:

 

غنّى بكِ الناي حتى شاقَهُ الوتَرُ

هل تَنزِلين كما في تلةٍ قمَرُ

 

هل تحضنين جبالَ الريح كي يَرِدَ

الملاكُ نبعَ القرى إذ  لفّه  الضجرُ

 

يا غادةَ القريةِ اللاينتهي غَدُها

مذ شَرَّع الدهرُ أن تعلَولِيَ الفِكَرُ

 

لِغادةِ الحسن قد شرّعتُ نافذتي

على امتداد النوى غصنُ الهوى نضِرُ

 

مِن بسمةٍ أزهرَت كلُّ الورودِ بها

أو لفتةٍ علّمَت لِلأنسِ ما الخفَرُ

 

إن عانقَت قلمًا فالضوء في يدِها

أو أمَّت العاشقِين الغيثُ ينهمرُ

 

تواضعَت فجمالُ الكون مَطلعُها

والزهرُ والأخضرُ المفتون والثمَرُ

 

فأيَّ ومضةِ شِعرٍ قد خطَطتِ على

سِفر الرياحين فهْو الفائح العَطِرُ

 

وكلُّ كأسٍ غدَت بالوحي مترعةً

تجيئُكِ الصبحَ والأعناب تُبتكَرُ…

وفي العبور إليكِ الأرضُ ناطقةٌ

يا حُسنَ مَن مِثلَ غصن اللوز قد عبَروا

 

مصطفى الحلوة

من ثم ألقى د. مصطفى الحلوة كلمة جاء فيها:

لغيري أن ينعاها، أن يرثيَها ما شاء، فغادة عندي لم تمُتْ! هكذا أطلقتُها مدوّيةً في اليوم الأربعين لرحيلها، وقد كان يُلحُّ عليَّ هذا السؤال: هل تُطوى صفحةُ الإنسان إلى الأبد بموت الجسد؟ وماذا عمّا يُخلّفه المبدعون من عظيم فكر، ومن آيات ومن جليل العطاء؟!

غادة السمروط ارتحلت عنّا حُطامَ جسد، لكنّ فكرها المُحيي قاهرٌ الموتَ، على مدار الزمن، وباعثُها من رميم! الموتُ الجبان- وإن كان حقًّا – ملعبُهُ الجسد، يقوى عليه، ولكنه يرتدُّ مدحورًا بإزاء العظماء، الذين يحفرون اسمهم عميقًا، في سجلّ الخلود! بإزاء هؤلاء المُصطفين ، يموت الموت، فتُكتب لهم حياةٌ متجدّدة، كلما لهجنا بهم، ما طلعت شمسٌ وما ابتدر قمر!

لقد ترسّخ لديّ اقتناعٌ بعظمة النتاج الفكري، الذي خلّفته غادة السمروط، مما يُرتّبُ عليَّ مسؤولية أخلاقية، تدفعني إلى الشهادة لها، إثرَ رحيلها إلى الأبديّة! وإن لم أفعل، فإنني أغدو شيطانًا أخرس، أو كما شاهد الزور، وفي ذلك إثمٌ عظيم! هكذا عزمتُ على أن أؤدّي هذه  الشهادة لوجه الحقّ والحقيقة العارية، أؤديها لزمن غادة الفكري، وكان هذا الكتاب “العبور بالكلمة إلى ما وراء الكلمة والنفاذ إلى عمق الذات”.

 

أعددتُ العُدّة، ورحتُ إلى “مُعتكفي”، في بينو، عكار، صيفَ العام الماضي، وضربتُ عليّ عُزلة، في منزلي، الذي يستوي عند سفح محميّة، تجاور بحيرة، والأفق مفتوح أمامي علة تلال دونها تلال، وترينُ سكينة قاتلة على المشهد، من كل حدب وصوب!..طفقتُ أحفر، أُفكّكُ، أغوص ، أُبدىء النظرَ ثمّ أُعيده، في خمسة من مؤلفاتها، إلى أن اهتديتُ إلى مشروعها الفكري المتفرّد.

لقد استبان لنا هذا المشروع الفكري، من خلال إرهاصات أولى، في باكورة مؤلفاتها:” الفناء والبقاء في أعمال باسمة بطولي الفنية والشعرية”. كما كان له أن يحضر بقوة، في كتابها النقدي، هو الثاني في سلسلة مؤلفاتها:”عندما أعبر الكلمة بالكلمة”. كما تظهّر المشروع في كتاب أعقبه هو “وعُدتُ إليّ”. في حين أن الكتابين التاليين ؛”ومضات فارسية” و”الآن معًا/نفحات أدبية في الذات والحياة”، جاءا ليستكملا ما بدأته في المؤلّفات، آنفة الذكر.

هذه المؤلّفات الخمسة، وهي أعمال أدبيّة معرفيّة، ينتظمها مشروع فكري، يتمثّل في العبور بالكلمة إلى ذاتها، إلى ذات غادة، وعبر ذاتها إلى الذات المتعالية المطلقة. وقد كان لحالة العبور إلى الذات والاستغراق فيها أن يُخرجا الكاتبة من حُطام الجسد وحسّ البصر إلى منارات البصيرة، التي لا تحدّها حدود! من هنا كان تجاوزٌ لمحدوديتها الجسمانية والمكانية المتحيزتين إلى اللانهائي. فهي، والقول لها، “أتت من لا شيء لتكون كلّ شيء!”

 

من خلال هذا المشروع الفكري الفذّ، كان لغادة السمروط أن تتعرّف إلى جوهر الحقيقة دون ظلالها! كأننا بها تأخذنا إلى “كهف أفلاطون”، لتُسرّ إلى مسامعنا: شتّان شتّان بين الجوهر والعَرَض!

وإذْ أوغلت غادة في حقائق الوجود وقضايا الحياة، فقد خلعت على الكتابة بُعدًا كونيًّا. وبذا غدا حبرها فكرًا “يرنو إلى شعاع شمس/وصوتًا غادر الذات ليكون في كل ذات، في كل حبة تراب!”.إنّه انفجار أبجديتها، كما الانفجار الكبير BIG BANG، ينجلي عنه كونٌ للكتابة جديد!

لقد قُدّر لغادة، في عبورها  إلى اللانهايات، أن تُخرج اللغة من حيّز الأداة إلى مجال الماهيّة، إدراكًا منها أن “اللغة مقطن الوجود وحقيقته”. بل هي “بيت الوجود ومخبأ ميلاد الإنسان!”، حسبما يذهب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت.

لقد كان لنصوص غادة، في حركيّتها، أن تتمفصل حول زمن مثلّث الأبعاد: ماضيًا وحاضرًا وآتيًا، احتوى ذاتها، فإذا بها تُكثّفه في بُعد واحد، وتحتويه، علّه يُبلّغها “ما ليس يبلغه من نفسه الزمن!”.

لقد راودها الفكر الفلسفي عن نفسها، فإذا بها تروح إلى حفر معرفي عميق، تبتغي ما يمكث في الأرض، لاالزبدَ، الذي يذهب جُفاءً! هكذا، إلى متاهات قلق معرفي وجودي، أخذتها الكتابة، وقد عرّشت فيها كرمةٌ، من علامات استفهام وتعجّب، حاولت عبثًا اقتلاعها!

غادة السمروط، في كلّ ما حبّر القلم، لم تكتب لتكتب، وإذا كتبت، فهي لا تكتب على غير هدى، وعلى طريقة الفن للفن! كتاباتهاهادفةٌ ملتزمة، من غير أدلجة، ولا دوغما. وهذا ما أفضى بهذه الكتابات الثرّة إلى مشروع فكري منبنٍ على رؤيا عقلية صارمة، مُلامِسةً بعضًا من أسئلة الفلسفة، ومُلبّصةً أشرعتها، عند شواطىء العرفان!

 

…في نهاية المطاف، تأبّطت غادة السمروط كلمتها لتعبرها بالكلمة، في حالة من جدل الكلمة والعبور لا ينتهيان! تأبّطتها، عبر طقوسيّة، لا يُؤتاها إلّا المتصوّفة، عابرةً إلى فناء إبتغاء بقاء، وقد حُقَّ لها البقاء!

أما عن “ومضات فارسية”، فهو بُكائيّة من مائتين وأربع وستين ومضة، خاطرة، صلاة يترجّع صداها في هيكل الأمومة الموجوعة، التي لا تستطيع صبرًا على غربة فارس، أصغر الأبناء. أطلّت غادة السمروط بهذا الكتاب، في الهزيع الأخير من عمرها، فكانت ومضاتٌ، وأيَّ ومضات!

قبل دفع هذا الكتاب إلى المطبعة، بأسابيع معدودات من رحيلها، طلبت إليّ أن أُقدّم له. وكي تهوّن الأمر عليّ، رغبت أن يشغل التقديم صفحة واحدة، أو صفحتين على الأكثر! كأننا بها لا تعرفني، وأنا المبتلى بالجنوح إلى الموسوعيّة “البنّاءة”، التي لا بُرء لي منها. وكأنها لا تدرك أن الكتابة عنها، بل عن نتاجها الفكري، هو تكليفٌ وتشريفٌ لي في آن! هكذا لم أستجب لرغبتها، فكان أن شغل التقديم ستًّا وعشرين صفحة!

عبر “ومضات فارسية”، بل عبر هذه البكائية، التي تتفطّر لها القلوب، تُرهص غادة السمروط بإعلان رحيلها عن دار الفناء، دار الشقاء، إلى دار البقاء. ولكن مهلًا، فدار بقائها ليست فحسب ما وعدت به الأديان السماوية، جنّةً عرضُها السموات والارض-وهي ترفل فيها اليوم- بل هي دار فكرها الباقية على الزمن، التي تضمّ من حفروا اسمهم على شمس لا تغيب! “ومضات فارسية” هي قصة عشق أمومي/بنوي، في أعلى مراتبه والتجلّيات! تصدر غادة السمروط، في ومضاتها، عن حبّ أمومي جارف،ةتُجاه فارسها، لا يعدُله سوى الحبّ الإلهي، بل العشق الإلهي، لدى أهل العرفان. هذا العشق الأمومي، يقابله حبٌّ بنويّ عميق، مما يضعنا أمام جدل الأمومة/البنوّة الخلّاق.

بهذا العشق، تفيض معظم نصوص الكتاب، بحيث يُشكّل الابن فارس شُغل الأم الشاغل، والمالك عليها قلبها والمشاعر. بل إنّه يحتلّ المشهد، من جميع جوانبه!

من خلال هذا الحب الأموي الجامح، تُسفر غادة السمروط عن طاقة من العاطفة المتأجّجة، لا تنفد. هي طاقة إيجابية، وجدت الكاتبة، في بثّها، بل في تفجيرها بعضًا من عزاء وشفاء، وهي تَجْبَهُ الوجع، الذي يستبدّ بها، ويؤرّقها، على مدار الساعة!

ولعلّ ما سعّر من منسوب عاطفة الأم تلك النزعة العرفانيّة المتأصّلة لديها، وقد سبق أن تقصّيناها، في جميع مؤلفاتها، التي قاربناها. هذا التوجّه العرفاني له خلفيّته البنيوية، في تركيبة أديبتنا الشخصية. فهي زاهدة، مترفّعة عن حُطام الدنيا ومتاع غرورها. لا تُصعّر خدّها للناس، ولا تمشي في الأرض مرحًا، إدراكًا منها أنّ الله لا يُحبُ كلّ مختال فخور! ناهيك عن ثقافتها الواسعة والعميقة، المطلّة، في أحد جوانبها، على فلسفة التصوّف. وقد تأثّرت هذه الفلسفة، فكرًا وممارسة سلوكية، من خلال كتابات الشاعر الفرنكوفوني صلاح ستيتية، صاحب الباع الطويل، في فضاءات التصوّف، وعلى تماس مع كبار المتصوفين التاريخيين المسلمين.

في هذا الكتاب “ومضات فارسية”، نتعرّف إلى غادة أخرى-إذا جاز القول- لم نأنسها في سائر مؤلفاتها، التي أكببنا عليها. فقد كانت منقطعة إلى الكتابة والتأليف والنشر، متطلّعة إلى بناء عمارتها المعرفية، وإذا بالأمور تنقلب، رأسًا على عقِب!

..وإذْ أترك لكم، أحباءنا الحضور والقرّاء، تدبُّر هذا الكتاب الرائع، فإنني أختم بما ختمتُ به التقديم، فأراني مسكونًا بحالَتَي حزن، أولاهما، حزني على رحيلها، الذي لا يُعوّض، فقد تركت فراغًا في مسار حراكنا الفكري، وقد غادرتنا، في عزّ عطائها وتجلّيها المعرفي. وقد كانت من لدني صرخةٌ، أطلقتها مدوّية، يوم رحيلها:”وداعًا غادة السمروط/يا وجعَ الكتابة الإبداعية والأدب الفلسفي!”. أما ثانية حالتي الحزن، فما يحزّ في صدري، ذلك أنّ غادة لن تقرأ مراجعتي النقدية المسهبة، لومضاتها الفارسية، وهي التي كانت تُصرّ، عند صدور أيّ كتاب لها، على أن يكون أي فيه قولٌ أو مراجعة نقديّة، أو تقديمٌ، فلم أخذلها في حياتها، ولم أخذلها في مماتها، ولن أخذلها ما بعد الممات!

 

أحمد يوسف

في ختام الندوة ألقى الأستاذ أحمد يوسف (زوج د. غادة السمروط) كلمة العائلة جاء فيها:

وتطوي الشهور صفحاتِ الأيّام كما تطوى أوراقَ العيش على دوائر المغيب .وتمضين إلى الظلّ في تسارع خطًى كأنّكِ من رماد الزمن الشريد . عامٌ مضى خلف تخوم عمرك المتهافت في صفحات الألم وكتابِ الغربة . عامٌ كأنّه سويعات من حنين تتسابق فيه العقارب على دوراتٍ يأكل بعضها بعضًا فتسقط ونسقط معها .

وقتنا سجلٌّ بمقياس النفس والوجدان على آلة تتقاطع فيها رؤًى غريبة الحزن في العين والعقل . ونتساءل معكِ عن جدوى أن نكونَ ولا نكون . عشنا بعدكِ بقوّة الانسانيّة وبزخم العادة وسقطنا في موانىء الحنين والدهشة حين كسّر الزمن مجاذيفَ عبورنا إليك . فكيف لي أن أعبر إلى الحياة فيما يشدّني درب ذكرانا إلى غربة الفراق؟ . الموت دائرة تدور وتحطّم في مرورها كلّ شيء بلا رحمة أو تمييز فلا تشعر بشيءٍ كأنّها آلة للحصاد .

عامٌ مضى مثلَ غيمة، أيّتها العائدة على أجنحة الكتابة والشعر وقد قصفَ الخبيثُ أعوامَك والأيّام وهدمَ جسرَ نهوضك إلى الغد و الابداع واستكمال مشروعك الفكريّ والأدبيّ وقد خطوتِ إليه على أقلامٍ من ثقة ووضوحِ رؤيا ،عبر سلسلة من إصدارات بلغت العشرة بالعربيّة والفرنسيّة ولا يزال غيرُها متناثرًا في صفحات حاسوبك الجريح .

أيتها الغائبة الحاضرة كنت الصابرة على الألم ،الصامدة في ساح الصراع فانتصرت على الموت بقوّة التشبّث بالحياة وحبّ العيش حتّى الرمق الأخير. وتظلين حيّة في كلّ ما تركتِ ، أدبا وفكرا وفنونا يدوية وذوقا وسهرا في سبيل الحياة حتّى بلغت بذلك غاية تبدو مستحيلة. خسارتنا بك كبيرة ولا تعوّض ولكنّ خسارة الأدب والفكر واللغة أكبر بكثير.

لقد أمضتِ الفقيدة عمرَها في التعلّم والتدريس والكتابة، من الابتدائيّ الى الجامعيّ وفي بناء العائلة وهي لم ترضَ إلا ببلوغ الأقاصي فكانَ لها ما أرادت . وكانت تمنّي النفس بشيء من الراحة بعيد التقاعد الوظيفيّ لتتفرغ للكتابة والسفر ولكنّ المرض فاجأها براحة وسَفرٍأبديّين ، بسبب تنشّقها غبار الاسبستوس الذي اختبأ في رئتها ، لمدّة تزيد عن الخمسين من السنوات ،عندما كانت تكنسه يوميّا من أمام منزلها العائليّ في الهري.

في هذه المناسبة ، لا يسعني باسم العائلة إلّا أن أتقدّمَ بكلّ الشكر والامتنان من المهندسة الأديبة ميراي شحادة حداد رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ التي أتخذت القرار بطباعة وإصدار الكتابين اللذين نحتفي اليوم بإطلاقهما لمناسبة مرور عام على الرحيل وكانت قبلها قد أصدرت كتابًا ثالثا للفقيدة بعنوان ” بين العبثيّة والصوفيّة في أعمال محمود عثمان الأدبيّة ” .وأشكرها أيضًا على الدعوة إلى هذا اللقاء في خضمّ انشغالها بإقامة الندوات والمشاركة في كل الأنشطة على مساحة لبنان. إنها طائر يغرّد خارج السرب وبكلّ قوة واندفاع برغم كلّ الظروف .

وأشكر الصديق الباحث الدكتور مصطفى الحلوة الذي وضع مقدّمات كتبها ومن بينها اليوم كتاب “ومضات فارسيّة “الى جانب وضعه الكتاب القيّم الآخر” العبور بالكلمة إلى ما وراء الكلمة والنفاذ إلى عمق الذات الذي يتناول أدب وفكرغادة السمروط .إنّه رائد العمل الثقافيّ والبحثيّ في شمالنا وفي لبنان . كتلة من النشاط والانتاج . دمت بكلّ الخير.

ولا بدّ من توجيه كلّ التحيّة والامتنان للدكتور عماد غنّوم وقد أدار هذا اللقاء وقدّم له، وشكرنا الخالص للدكتورة الشاعرة يسرى بيطارلمداخلتها التي أغنت لقاءنا بقراءة موضوعيّة وبنفَس وجدانيّ . أمّا الدكتورة مارلين يونس فلها منّا كلّ تحيّة وقد أجادت وأبدعت في أداء صوتي راق لما تيسّر من مقطوعات أدبيّة للفقيدة .

وأشكر أيضًا مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة على إصدارها مجموعة من كتب الراحلة سابقًا وقرارِها بإصدار الجزء الثاني من كتاب ” عندما أعبر الكلمة بالكلمة ” في الفصل الثاني من العام الحالي .

كما وأشكر اتحاد بلديّات الضنيّة ورئيسه العزيز محمد سعديّة على وقوفه إلى جانبنا وتسمية إحدى قاعات الاتحاد باسم فقيدتنا غادة السمروط وفتح أبوابه لنشاطات المنتدى الثقافيّ في الضنية وأشكر زملائي في المنتديات والمجالس الثقافيّة في الشمال وفي التجمّع الوطني للثقافة والبيئة والتراث برئاسة المهندس أنطوان أبو جودة دائم الحضورإلى ندواتنا

وأشكرزملائي في المنتدى الثقافيّ في الضنيّة لدورهم البارز في إنجاح أنشطتنا وفي مقدّمتهم معالي الدكتور أحمد فتفت العضو المؤسّس وأعضاء الهيئتين الاداريّة والعامّة وأشكر إخواني وأخواتي وأبناءهم وإخوة الفقيدة وإبناءهم على مساهمتهم في هذا اللقاء .

شكرًا كبيرًا لكلّ الهيئات السياسيّة والاعلاميّة والأساتذة الجامعيين وممثلي المجتمع المدني والثقافي والتربوي والأمني والاجتماعي .

أشكركم فردًا فردًا وقد لبّيتم دعوتنا المشتركة إلى هذا الحفل التكريميّ في ظلّ هذه الأوضاع الصعبة وجئتم من كلّ المناطق اللبنانيّة وخاصّة من شمالنا العزيز فألف تحيّة إليكم وإلى مركز الصفدي الثقافيّ .

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *