الخاسر يربح في رواية سامي معروف “فطير الشَّرق”

Views: 62

كمال حنا

   من إبداعات الكاتب المتمرّس بناءُ روايةٍ أشبه بسيرةٍ ذاتيّة لأنسان يقع طريدة لعنةِ القدر السيّئ منذ الصّفحات الأولى، أي سريعًا جدًّا في الحَبكة القصَصيّة، ثمّ إبرازُها من خلال معايشة أحداث و”عواصف” مرتبطة بوقائع عرفها كثيرون وتأثروا بها، وبالتالي بَعثُ السِّيرَة عبر نبض استثاراتٍ تظلُّ مُلِحَّة متلاحقة حتى الصّفحات الأخيرة، لتحققَ الهدَفَ الأسمى في الحِرَفيَّةِ الكتابيَّة، من خلال تغيير النظرة إلى البَطل الخاسِر منذ البداية.  

هذا ما فعله الرِّوائي سامي معروف بحنكةٍ كبيرة في روايتِهِ “فطير الشَّرق” والصَّادرة عن دار سائر المشرق. فهو جعل القارئ يظلُّ يُطاردُ أقاصيصَ الصَّفحات حثيثاً، ليفتش عن البَطَل.. وهو غازي النمّار.. الذي طغتِ انغماساتُه في محطاتِ الدُّنيا ومجتمعِه الطائفيّ المذهبيّ العروبيّ المقاوم والاستخباراتيّ… وتجاربُهُ المعقدة جدًّا بتشعُّباتها التي لا تنتهي، على الانغماس في محطاتِ نفسِهِ التي تكاد لا تستشعر لحظاتِ حياةٍ أو لحظات مشاعر سعادةٍ حقيقيَّة. ويسأل القارئُ طوال الرِّواية: هل أسقطَ معروف بطلَه، وهل أسقط القصَّة كلَّها وتركيبتها المبنيَّة على هذا البَطل بأدواره الاعتياديَّة في مسلسل الأحداث؟

ليس هذا محور اهتمام الكاتب سامي معروف في الأصل، وإنما خلق تركيبٍ روائيٍّ مبتكر هو علامته الفريدة في رحلتِهِ الروائيَّة القصيرة والغنيَّة نسبة الى وقتِ الانتاج القصير لرواياتِهِ الثلاث السَّابقة، وهي “رقصات التيه” و”أغانيات” و”الفنّ الأسود”، فهو يُخرجُ بأسلوبٍ متقن وغير اعتياديّ بطله غازي النمّار من حَبكةِ الرِّواية الأساس المتمَحورَة حول اغتصابِ شقيقتِهِ ريمان بـ “خدعَةٍ” من حبيبها، ثمّ اكتشافِهِ “خدعة” المتورِّط الحَقيقيّ في واقعةِ هلاكها، وهي حبكة فسَّرَها في الرِّوايَة بجملةٍ “المَسيرة المُفضية الى العَبَث”. ثمّ ينقل معروف بطله الى عالم الواقع من أجل “إنقاذ” غرابةِ سيرتِه، ويضعُه في قلب أحداثٍ يترك فيها على الأقلّ بعض لمساتِ مواقفِهِ “المُهادَنة” للظروف غير المؤاتية وغير المتكافئة، فيَتماوجَ فيها ومعَها وسط الانتكاساتِ العائليَّة الأليمة والكارثيَّة.. وحتى القذرة جدًّا والخالية من أي قيَم، وكذلك وسط أهوال الحروب وصراعاتِ الأحزابِ السِّياسيَّة ومؤامراتِ المصالح الضيِّقة والاغتيالات المؤثرة داخليًّا وخارجيًّا. ويعبُرُ غازي النمّار كذلك محطاتِ الانهياراتِ المادّية والاجتماعيّة والعاطفيّة، وصولاً إلى مواجهةِ مصائب المَرَض. (sweet-factory.com)

وفي هذه “المُهَادَنة” التي أقلّ ما يُقال فيها أنها “طريقُ جُلجلة” طويلة، أو حتى مستحيلة لأيِّ إنسان، فكيف الحال إذا امتدَّت لسنواتٍ، يُظهر معروف لمحاتٍ من مبادئ بطلِهِ غازي “غير الإنقلابيَّة”، بقدر ما هي “متكيِّفة مع المآسي”، مع إبراز بعض مواقف التحَدِّي لخدمةِ شخص آخر غالبًا، هو ليس بالضَّرورَة الطرفَ المناصر له والذي يتشاركُ معه في عقائد الإنتماء أو الدِّين، بل الإنسان الآخر المُختلف الذي يعيشُ معَه “إختباراتِ العَبَث”.

وهكذا يُصيبُ سامي معروف في “فطير الشَّرق” بإقتدار هدفه الأوَّل المتمثل في إخراج بطلِهِ من لعبَةِ قدرهِ القاتم “المكتوب”، ورفعَ قيمَة مواقفِهِ الخليقة بإنسانٍ “تفلـَّتَ” من قيودٍ كثيرة تأسرُه، والتي قد تشكل إنجازًا في حدِّ ذاته لهذا البَطل في عالم موحش، فكيف إذا كان هذا العالم هو الشَّرق الأوسط المتكسِّر بُنيَانـُه في أقلّ مقوِّمات العيش والحياة الكريمَة، وهذه حاله منذ قرون وقرون؟

وبلا شكّ فإنَّ بطل سامي معروف الدائِم في رواياتِهِ هو بطلٌ عاديّ “مغلوبٌ على أمرِهِ” في النشأةِ والظروف المعاكسَة التي يواجهُها، لكنَّ ميزته الدائمة أنّه بطلٌ جريْءٌ، لذا هو يذهب غالبًا إلى أقصى أنواع الاختبارات الوافدَة لأنها لن تكونَ، إجمالاً، أسوأ من الحالةِ التي يعيشُها. هكذا وضعيَّة غازي النمّار في هذه الرِّواية مع فارق أنه فعليًّا بطلٌ خاسرٌ منذ بداية الرِّواية، ما جعل معروف يخوضُ اختبارًا صعبًا في النَّهج والاسلوب وطريقةِ بناءِ الأحداث من أجل جعل القارئ أكثر انجذابًا إلى النمط السَّردي وأكثر تفاعلاً معه، وهو أظهرَ ذلك في ميزاتِ الابداع في السَّرد المشوِّق والسُّرعة في تلقفِ الأحداث وعرضِها بأسلوبٍ غارق في الحَيويَّة.

ويتواصلُ الاختبار في إعادة معروف بطلَهُ الى الحَبكةِ الأساس، ويصنع تشويقَ مواجهةِ غازي النمّار “لعنة الجريمة”، ثمَّ يخرجُه منها لمواصلة “تجميل سيرتِهِ”، ويجيبُ بذكاءٍ على سؤالِ القارئ طوال الرِّواية بأنه يرفضُ إسقاط بطلِهِ كما أسقطه قدَرُ الحَيَاة، فغازي النمّار سيكتفي بارتكابِ “الجَريمة الخِدعَة” وليس الجَريمَة الحَقيقيَّة التي حمَلَ مرتكبُها ذنبَه بمفردِهِ… وبمعونةِ القدَرِ نفسِه.

وفي هذا الموقف يمنحُ سامي معروف بطلَهُ “انتصارًا” آخر، ويبقى أن يسلـِّطَ الضَّوءَ على “الانتصار الأكبر” المتمثل في “الإنقلابِ الصَّامت على “فطير الشَّرق” الذي أكلَ منه غازي النمّار منذ أن أبصَرَ النور، لكنه لم يشعر بطعمِهِ في فمِهِ يومًا لأنه رفضَ هَضْمَه، وقد يكون “تقيَّأهُ” نسبة الى مواقفِ “الرُّعب” الكثيرة التي يواجهُها في أحداثِ الرِّواية، والتي لا تنفكُّ تتكرَّر طوال مراحل حياته.

وهنا يوجَّه معروف الذي ابتعد جزئيًّا في هذه الرِّواية عن استرسالاتِهِ الفلسفيَّة الاعتياديَّة العميقة لِحسابِ نمطٍ يُصوِّرُ المشاهدَ فيه بدقائِقِها كأنه مخرجٌ يبحَثُ عن اللقطةِ الأفضل ويُصيبُها غالبًا، ورسالتِهِ التي يبطنُها بالحديث عن قصَّة ظهور السُّنة والشيعة، والتي تفيد بأنَّ الذاكرة تبقى للشَّخصيَّات التي تملكُ رؤية مختلفة “أكثر إنسانيَّة” في عالم “غير أنسانيّ” ترفدُه تعقيداتُ الدِّين والانتماء. وهذا العالم هنا هو “سُمُّ” الشَّرق وليس فطيرَه الذي يُغذي النـّاس. 

لا شكَّ في أنَّ سامي معروف لعبَ لعبَة كبيرة في هذه الرِّواية. “شَقلبَ” النَّمَط التقليديَّ في البناءِ والتـَّركيب، ووَضَع نفسَه في تصرُّفِ بطلِهِ لإقتناعِهِ بقيَمِهِ وصوابِ نظرتِهِ الى الأشياء، وكسبَ مرَّة جديدة الرِّهان الصَّعب للكاتب، والمتمثل في جَعل القارئ يُغلقُ الصَّفحة الأخيرة على بدايةِ عالم آخر يربَحُ فيه “الإنسَانيُّ” لأنه يَستحقُ ذلك. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *