دردشات مع الشاعر الفرنسي الكبير ميشال دوغي سيناريو الأيّام التي سبقت الرحيل..

Views: 278

شوقي عبد الأمير*

كنتُ في زيارة لمرسم الفنّانة التشكيليّة الفرنسيّة آن سلاسيك Anne Slacik، وكان على جدران المرسم ملصق لمعرضٍ سابقٍ لها، وقد اختارت عنواناً له بيتاً من قصيدة حبّ لميشال دوغي (1930 – 2022):

“La Seine est verte dans tes bras”

“السين يجري أخضر بين ذراعيك”.

قلتُ لآن سلاسيك: “كم هو جميلٌ هذا البيت. سأُخبر ميشال بذلك، فأنا على موعدٍ معه بعد لقائنا هذا…”

طارت آن Anne فرحاً بالفكرة، حيث أنّها لم تلتقِ بميشال من قبل، ولا تظنّ أنّه كان يعرف باختيارها لبيتٍ من شعره عنواناً لمعرضها.

… وعندما دخلتُ على الشاعر ميشال دوغي في مكتبه، كان شاحباً مضطرباً وبين يديه عددٌ من مجلّة “فلسفة” Philosophie، وهو يشير إلى صفحة يظهر فيها نابليون على فرسه بزيّه الإمبراطوري.

قلتُ له: ماذا يفعل نابليون في مجلّة فلسفيّة؟

أجابني، وهو يُريني الصفحة كاملةً، حيث تظهر صورة الفيلسوف الألماني هيغل. اقتربتُ أكثر لأرى ما العلاقة، وإذا به يقرأ لي تصريحاً لهيغل عندما رأى من نافذة منزله موكبَ نابليون الذي احتلّ برلين: “إنّني أرى أمامي روح العصر على حصانه”.

قلتُ: إنّها جرأة فلسفيّة.. نابليون محتلّ!

ردّ عليّ: لقد احتلّ نابليون أوروبا حاملاً شعار الثورة الفرنسيّة التي كانت روح العصر يومذاك..

قلتُ: إذن هي راية “الديمقراطيّة وحقوق الإنسان” التي تحملها أميركا لتحتلّ العالم اليوم، أليس كذلك؟

أجاب: لا ترامب هو نابليون، ولا الديمقراطيّة الأميركيّة هي روح العصر كما كانت الثورة الفرنسيّة…

ضحكنا.. ثمّ قلتُ له: أحمل إليك تحيّةً من الفنّانة الجميلة آن سلاسيك التي اختارت سطراً من قصيدةٍ لك لتضعه عنواناً لمعرضٍ تشكيلي لها.

علّق باستغراب: أنا لا أعرفها، ولم أسمع بمعرضٍ تشكيلي يحمل عنواناً من شعري.

قلتُ: هو بيتٌ شعري في الحبّ جميلٌ جداً.

ابتسم وقال: أيّ بيت؟

“السين يجري أخضر بين ذراعيك”..

انتفض، وبابتسامةٍ كأنّها تأتي من وراء الموت خاطبني متسائلاً: لكنْ قل لي.. هل كَتَبَته بسطرٍ واحدٍ أم بسطرين؟

قلتُ: لا… كان على سطرٍ واحد.

أجاب كمن يتنفّس الصعداء: حسناً، إنّه النهر.. لا يمكن كسر مجراه.

****

كان الجوّ ماطراً وكنتُ قد تركتُ مظلّتي في المدخل. قلتُ لميشال: أنتَ في مأمن، وفي الخارج مطرٌ وريح.

أجابني وهو يفتح النافذة: ليتني أستطيع الخروج. لم أغادر باب البيت منذ أشهر، حيث بدأتُ العلاج الكيماوي. لم أعد أستطيع صعود الطوابق الثلاثة (كانت شقّته في الطابق الثالث من عمارة قديمة في أعلى شارع مسيو لو برانس Rue Monsieur le Prince في باريس الخامسة).. ثمّ أردف: يقول الطبيب إنّه لا يعرف متى سأموت، وغير متأكّد من جدوى العلاج، ولكنْ عليّ أن أتحمّله.

كان دوغي مصاباً بسرطان الرئة، وهو مع ذلك لا يتوقّف عن التدخين، ويطلُب منّي دائماً عندما أتّفق معه على موعدٍ لزيارته، ألّا أنسى شيئين اثنين أحملهما معي: السجائر وجريدة “لوموند”.

كانت مارتين، التي تصغره بأكثر من عشرين عاماً شريكته؛ وهي المرأة الوحيدة التي أحبّها بعد وفاة زوجته، وعاش معها حتّى آخر يوم، لا تجلب له السجائر، وهو يصرّ على التدخين.

كان ميشال دوغي مهموماً بعلاقة الناس مع الحقيقة في حياتنا المعاصرة. وكان يتطرّق إلى هذا الموضوع في كلّ مرّة كنت أزوره فيها، متحدّثاً حول تأثير “الإعلان” على حياة الناس، وكيف صار ديدن الإعلان عن أيّ شيء، أهمّ من الشيء نفسه، ويستطرد متسائلاً، إنّك إن لم تكن تعرف بالشيء، فكيف ستكتشف قيمته؟. إذن، لا بدّ من طريقة لتعريف أكبر عدد من الناس بما لديك من بضاعة أو فكرة أو صورة… لكنّ المفارقة أنّ هذه الطريقة في التواصل، صارت أهمّ من الأفكار والبضاعة والصورة ذاتها، أي أنّ هيمنة سلطة المرئيّ والمُعلَن قد سحقت كلّ المضامين والدلائل، وما تحملهما من معانٍ. إنّه التحوّل/ المِسخ إذاً. لقد صار أمر رؤية صورة لوجه، أو مُنتَج، أو شعارٍ ما، هو القيمة، وهو الذي يسود في الذاكرة الفرديّة والجمعيّة في آنٍ. بترجمةٍ أخرى، باتت تزداد قيمة الشيء وثقله وتأثيره، كلّما زاد حجم التعريف به.. غدا إشهار الشيء أهمَّ من الشيء نفسه.

ووجد ميشال في هذا انقلاباً قيميّاً ومَسخاً لجوهر الأشياء. فلقد صارت وسائل الإعلان ههنا، هي الراعي الأعظم الذي سيقود المجتمعات كقطعان، وهي القوّة أو السلطة التي ستخضع لها سائر السلطات القائمة، بما فيها الدينيّة منها.

حاصل القول، صرنا في ذروة أتون مجتمع الاستهلاك، ذلك لأنّ الإشهار ينتقل إلى لاوعي الناس، وتبقى صوره ومفرداته قابعة، حتّى وإن رفضه هذا اللّاوعي. ومن هنا فإنّ مجرّد النشر والتصريح، سيكونان قد حقّقا الغاية من وراء هذه الهيمنة. بالطبع سيتوقّف حجم التأثير هنا على مساحة الإشهار نفسها. بمعنىً آخر، إنّ الإشهار يصادر حتّى حريّة اختيارك، لأنّك لا يمكن أن تختار مجهولاً، ولا يمكن أن تمنع لاوعيك من الاحتفاظ بصورةٍ ينقلها الإعلان الذي بات يحتلّ كلّ شاشة، وكلّ لافتة ضوء ونافذة عامّة في المدن الكبيرة والصغيرة.

ويخلص ميشال إلى نتيجة تقول: إنّ هذه الهيمنة صادرت علاقة الجمهور الواسع بقيمة الشيء وإضماريّته، وهي ما أضحت، استطراداً، تهدّد علاقة المجتمع بالجوهريّ في كلّ شيء. إنّها تسونامي التسطيح والمباشرة التي صار الشعر والفكر معاً، الضحيّة الأولى لها.

****

كانت تُرعبُه أنباءُ العنف الآتية من كلّ مكان. وكان يتساءل أحياناً ببراءة طفل عمّا يحدث من أنباء حول القتل والذبح والسحل، وسواه من مشاهد مرعبة في بلداننا. يسألني دائماً وكأنّه يستغيث: كيف يحدُث هذا؟ فلا أُحسِن الردّ، وأكتفي بالقول أحياناً: لقد عَرَفت أوروبا مثل هذا في القرون الوسطى. إنّها هيمنة الإيديولوجيا الدينيّة على الوعي.. سيطرة الغيب على المنطق، لأنّ الغيب يفرض عليك القبول به خارج منطق المناقشة والفهم، في حين أنّ الوعي لا يفرض شيئاً سوى الاقتناع، أي الحجّة. هو صراعٌ اجتماعيّ أكثر. إنّ أوروبا عاشت هذه المرحلة لقرون طويلة، ثمّ اجتازتها بكثيرٍ من الضحايا والحروب والدمار.

نعم، كان ذلك منذ قرون. أمّا اليوم، فإنّ شعوب العالم تعيش في زمنٍ واحد، ومكانٍ يقترب أكثر فأكثر من جميع الأطراف، ولكنّ التفاوت الحضاري الكبير بينها يصّاعد كلّ يوم، حتّى لكأنّ الأرض مشطورة إلى أزمنة تفصل بينها قرونٌ سحيقة.

****

قال لي مرّة إنّه يلاحظ خطراً يتمدّد في كلّ مكان، وفي كلّ المجتمعات، وبخاصّة لدينا نحن في البلدان العربيّة والإسلاميّة. إنّه انزلاقُ الثقافي إلى الطقوسي.. “le glissement du culturel vers le cultuel”، مؤكّداً أنّ كلّ معرفةٍ أو إبداعٍ يصير طقساً دينيّا أو دنيويّاً يَفسد، ولا قيمة له.

يجب أن تظلّ المعرفة، من وجهة نظره، سيّدةَ الموقف، سؤالَ الكشف والبحث الدائم. إنّ ترويض الإبداع وتدجينه يجرّده من هواء الحرّية وآفاق الخطر التي لا بدّ منها في كلّ عمليّة اكتشافٍ وخلقٍ وابداع.

“نحن نمشي على حافّة الهاوية إذن؟

“نعم يا صديقي.. إيّاكَ أن تبعد عن الهاوية إن أردتَ أن تواصلَ سؤالك الشعري…”

تتوالى الأيّام والزيارات، وأنا أراه في كلّ مرة يضمرُ جسده، وتغور ملامح وجهه، وهو يجلس وراء مكتبه لا يفارقه. لم أره يوماً على سرير أو ممدّداً على فراش حتّى آخر يوم.

كان إصرارُه على الجلوس إلى مكتبه شكلاً من أشكال المقاومة، بل وأكثر، لم تفارق يداه الكتب أو الجريدة، حتّى انّه في يومٍ ما قال لي باندهاش واستفهام، وهو بالكاد يستطيع الكلام: “تصوّرْ أنّني لا أقدر أن أقرأ، ولا أن أكتب، ولديّ أشياء كثيرة لم أُنجزها بعد…”.

قالها بلهجة احتجاجٍ على المرض، وكأنّه يطلب من الموت أن يُمهله بعض الوقت، لا لشيءٍ، إلّا لينجز ما بين يديه من أشغال وكتابات ومشروعات نشر.

كنتُ أحاول أمام كلّ هذا أن أجد مفردات تبعث الأمل، وانّه سيعود لمزاولة نشاطه. وكنتُ أعبّر له عن إحساسي هذا بطريقةٍ شديدة الإيمان والتفاؤل، وهو ينظر إليّ صامتاً وكأنّه يقول: من أين تأتي بكلّ هذا التفاؤل.. ليت ما تقوله يكون واقعيّاً!!

****

ذكّرني يوماً بأوّل لقاء بيننا، وكان ذلك في أثناء رحلة جماعيّة إلى صنعاء عندما، وبالاتّفاق مع أدونيس وحمّادي الصيد الذي كان سفيراً لجامعة الدول العربيّة في باريس، نظّمت سفارةُ اليمن في باريس، بالاتّفاق مع سفارة الجامعة مهرجاناً شعريّاً في صنعاء، ضمّ شعراء عرب وفرنسيّين (أدونيس، عبد العزيز المقالح، ميشال دوغي، بأول كينك، أندريه فلتر، برنار نويل…) للاحتفال بالذكرى المئويّة الثانية للثورة الفرنسيّة سنة 1989… وكان ميشال برفقة زوجته الأولى التي رحلت بعد ذلك بقليل، مصابةً بالداء عينه الذي قضى فيه…

استحضَرَ يومها هذه الرحلة، وحوارنا أمام عرش بلقيس في صحراء مأرب، وكأنّه تحوّل إلى مِفصل تاريخي في حياته ليقول لي:

C’était fou de penser venir jusque-là pour parler de la Révolution française deux siècles après.

“كان جنوناً أن نذهب إلى هناك لنحتفل بالذكرى المئويّة الثانية للثورة الفرنسيّة..”

قلتُ له: نعم، إنّه جنون الثورة وجنون الشعر الذي يسكننا والذي من دونه يقتلنا استبدادُ اليومي والعقلي.

احتفلت اليمن يومذاك بالشعراء، كما لا يحدث في أيّ بلدٍ آخر قَطّ. كان موكب الشعراء يتنقّل بأرقى مظاهر سيّارات الضيافة الرسميّة، تتقدّمها الدرّاجات وسيّارات الحماية المزوّدة بالأعلام الرسميّة وصفّارات الإنذار. كما أنّ طائرة خاصّة كانت قد حملت الوفد الشعري إلى مأرب، وكان لحضور الشعراء بين الشعب اليمني مهابة وحفاوة، لم ولن يعرفها الشعراء طوال حياتهم.

لم تكن اليمن وحدها المحطّة التي جمعتنا خارج باريس، بل عندما كنتُ في لبنان في العام 1998، زارني ميشال دوغي ومعه مارتين، وأقاما في دارتي في منطقة الروشة بضعة أيّام، بعد تلبيته دعوة من الجامعة اليسوعيّة لإحياء أمسية شعريّة فيها، وكنتُ يومها مستشاراً لمنظّمة اليونسكو في بيروت.

طلب منّي ميشال أن أقدّمه وأقرأ ترجماتٍ من شعره، ولم أكن مستعدّاً، ولكنّني وافقتُ على العرض. وبالفعل، نظّمت الجامعة تلكم الأمسية، وكان الأستاذ شريف مجدلاني، هو الذي قدّم الأمسية، وعرّف بميشال دوغي بسياقٍ أكاديمي، وقدّم دراسةً وافية عن حياته.. وكان عليّ أن أتحدّث عن شاعريّته.

عندما جاء دوري في الكلام على شعر ميشال، تحدّثتُ عن إشكاليّة المعرفة والثقافة والجمع بينهما في الشعر، وما معنى أن يوصف شعرٌ بأنّه ذهني.

لا أذكر تفصيل الكلام اليوم، لأنّ مداخلتي كانت ارتجالاً.. ولكنّ سؤال الغنائيّة في الشعر العربي أثار فضول ميشال دوغي، بخاصّة بعدما ألقيتُ بعض أشعاره بطريقةٍ أثّرت في الحضور وصفّقوا له. وما كان منه إلّا أن شكرني أمام الجمهور قائلاً: “لقد قرأتُ هذه القصائد بنفسي أمام جمهورٍ فرنسي، ولم تلقَ الحماسة التي لقيتها هنا…”

****

كان هناك مشروع رحلةٍ أخرى معه لم تتحقّق مع الأسف، وكانت ستكون، هذه المرّة، إلى بغداد وبابل وأور التي طالما حلم بها.

كنتُ قد رتّبتُ كلّ شيء، بالاتّفاق مع الصديق السفير الفرنسي برونو أوبير (Bruno Aubert) في بغداد، وهو مستشرقٌ وشاعرٌ مطّلع على شعر دوغي ومتحمّس لاستقباله في المعهد الفرنسي في بغداد؛ لكنّ تدهور الوضع الصحّي لميشال كان يدفعنا في كلّ مرّة إلى تأجيل موعد الرحلة.

وفي يومٍ، كنتُ عائداً إلى باريس من بغداد، تقصّدتُ أن أرى ميشال في اليوم التالي لوصولي، وبالفعل ذهبتُ إلى بيته، وإذا بي أتفاجأ به وسط “كراتين” وصناديق معدّة للانتقال.

ـ “ما هذا يا ميشال؟!”

ـ “إنّنا منذ فترة نستعدّ للانتقال إلى دارةٍ أخرى، فأنا لا أستطيع البقاء هنا في الطابق الثالث من دون مصعد كهربائي، وقد عثرنا أخيراً على دارة ليست بعيدة، يتوافر فيها المصعد الكهربائي.. (كانت مارتين وابنته منهمكتين بوضع مئات الكتب في الكراتين)، وأنا أنظر باستغراب للمشهد الذي بدا لي غير قابل للتصديق، ذلك أنّ ميشال في وضع صحّي يشارف حدّ الموت. كان غير قادر، حتّى على البقاء جالساً لفترة طويلة، كما أخبرتني مارتين، كي أختصر زيارتي بعدها… وميشال من جهته كان يتحدّث بتفاؤل مذهل، انّه سيتمكّن من الخروج والتجوّل أخيراً بعد أن تنتهي ورشة النقل، ويتمّ ترتيب المكتبة الألفيّة في البيت الجديد.

تركتُ ميشال دوغي يودّعني بابتسامةٍ شاحبةٍ، وهو غير قادر على النهوض، ومارتين منشغلة في تعبئة الكتب وتعتذر لي عن عدم تمكنّها من الاستضافة المطلوبة وإعداد القهوة…

تُرى أيّ طاقة أمل كان يحملها ميشال ليفعل ذلك كلّه، أسابيع طويلة في شغل التعبئة والشحن وحراك الانتقال، وهو على مسافة خطوتين من الرحيل عن هذه الدنيا؟!…

انقطعتُ عن ميشال دوغي تاركاً له الفرصة للانتقال إلى بيته الجديد، مكتفياً بالاتّصال به بين حينٍ وآخر، على أمل أن نلتقي في مقهانا المفضّل قريباً.

وفي هذه الأثناء، غادرتُ باريس إلى بغداد لمتابعة بعض أعمالي. لم أتواصل مع ميشال هاتفيّاً، لأنّه على ما يبدو قد انتقل إلى دارته الجديدة، وصرتُ أنتظر العودة إلى باريس لألتقيه، ونخرج معاً إلى مقهانا الاعتيادي Le Patio (الباحة) في ساحة السوربون.

لكن، وأنا ما زلتُ في بغداد، جاءني نبأ رحيل ميشال عن طريق صديق مشترك. مات ميشال دوغي، ولم أكنْ في وداعه. ولم يستطع هو أن يخرج إلى الشارع بعدما تحمّل عناء الانتقال إلى دارةٍ أخرى.

كان الخبر صاعقاً عليّ بالفعل، ولم أجد في بغداد أحداً يواسيني هذا الفقد، اللهمّ إلّا صديقي السفير برونو أوبير، الذي كان هو الآخر حزيناً جداً. عدتُ إلى باريس لألتقي مارتين وأواسيها أوّلاً، ومن ثمّ أتّفق معها على طريقة التعامل مع ميراث ميشال الشعري ومجلّة “شعر” Poésie، وكذلك لأفهم منها شيئاً عن الأيّام والساعات الأخيرة لميشال.

المفاجأة الأولى أنّ تلفون مارتين لا يردّ.. والبريد الإلكتروني لا يجيب أيضاً.

قلتُ في نفسي لأتركها قليلاً، إذ لم يمضِ وقتٌ طويل على رحيل ميشال.

وهكذا بقيتُ أنتظر خبراً منها/ عنها… إلخ، حتّى التقيتُ بالمصادفة بالشاعر الجزائري الصديق الحبيب طنكور، عضو هيئة تحرير مجلة Poésie وسألتُهُ عن مارتين. وإذْ به يتفاجأ من سؤالي ويقول لي: ألا تدري؟

ماذا؟… نعم، أعلم، لقد توفي ميشال..

ـ ولا تعرف ماذا حدث لمارتين؟

ـ لا.. أبداً

ـ ماتت هي الأخرى…

ـ كيف؟ ماذا تقول؟.. كانت بصحّة جيدة.

ـ نعم، ولكن بعد العودة من دفن ميشال، أغلقت باب منزلها وقطعت الاتّصال بالجميع، وتركت نفسها تموت وحيدةً ببطء في منزله الجديد..

وظلّ نهرُ السين يجري أخضر تحت نافذتها.

***

*شاعِر من العراق مقيم في باريس

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *