آرثر شوبنهاور وفلسفته التشاؤمية

Views: 512

وفيق غريزي

علت اصوات التشاؤم في النصف الأول من القرن التاسع عشر في اوروبا، وعلت اصوات الشعراء المتشائمينفي كل مكان: اللورد بيرون في بريطانيا، الفريد دي موسيه في فرنسا،هينه في المانيا،ليوباردي في ايطاليا، بوشكين وليرمنتوف في روسيا، ايليا ابو ماضي في لبنان، وظهرت جماعة من الموسيقيين المتشائمين من امثال شوبرت وشوبان، وحتى بيتهوفن كان متشائما يحاول أن يقنع نفسه أنه متفائل. ولكن الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور طغى على هؤلاء جميعا في روح التشاؤم التي طبعت حياته وفلسفته.

 

حياة شوبنهاور

ولد آرثر شوبنهاور في مدينة دانزيغفي 22من شهر شباط/فبراير عام 1788. كان ابوه تاجر امتاز بالمقدرة وحدة الطبع، واستقلال الشخصية وحب الحرية. نشأ آرثر الطفل في جو مشبع بروح العمل وكسب المال.مات والده منتحرا على الارجح عام 1805 وتوفيت جدته مصابة بالجنون. لقد ورث آرثر عن والده خلقه وارادته، وعن أمه ذكاءها. اشتهرت أمه في عالم القصص والروايات. بعد وفاة زوجها انطلقت تبحث عن الحب المتحرر، فارتحلت الى مدينة فيمار، التي تنسجم مع هذه الحياة المنطلقة التي تتوق اليها.ثارت ثورة ابنها آرثر على هذا الاتجاه من أمه، وآثر النزاع بينهما على نفسه، مما اثار مقته للنساء وكرهه الشديد لهن، اللذين (المقت والكره) رافقاه طوال حياته. وقد زاد في توتر هذه العلاقة أن الشاعر الكبير غوته، الذي كان يعشق أم شوبنهاور، قال لها (أي للأم) في أحد الأيام إن ولدها سيكون له شأن عظيم، وسيغدو مرموقا ومشهورا. وهذا ما زاد من غيرتها ومن منافسة ولدها لها. وفي ذروة النزاع بينهما دفعت الأم ولدها شوبنهاور من اعلى درج منزلها، ولكنه نهض واقفا وقال لها بصوت مختنق من الحسرةوالمرارة،إن الأجيال القادمة ستذكرها بأنها ام شوبنهاور، وعبره سيخلد اسمها، وهكذا كان.

 

ارادة الحياة

اتفق العلماء على أن جوهر العقل هو الفكر والإدراك، والانسان بنظرهم حيوان عاقل، لأن الادراك مجرد القشرة السطحية كما في الأرض لا نعلم عنها سوى قشرتها، اذ تحت العقل الواعي ارادة واعية او لا واعية. وهي قوة حيوية مكافحة ملحّة، وهي فاعلية تلقائية،وفي هذا الصدد يقول شوبنهاور: “تأمل في كفاح الناس لتأمين طعامهم وزوجاتهم واطفالهم، هل يمكن أن يكون هذا عمل العقل؟ كلا، والسبب هو ارادة الحياة نصف الواعية. ارادة الحياة كاملة. وقديبدو للناس أنهم مسحوبون من الأمام والواقع انهم مدفوعون من الوراء”. والعقل ليس سوى وزير الخارجية، فقد انتجته الطبيعة لخدمة ارادة الفرد، وقد أعد فقط لمعرفة الاشياء طالما هي دوافع للإرادة، لأنه يبحث عنها ليدرك حقيقة وجودها، ولأن الارادة هي الدائم والثابت الوحيد في العقل، وهي التي تعطي عن طريق غرضها الثابت وحدة لمشاعر الإنسان ووعيه، وتربط جميع آرائه وافكاره بعضها ببعض وجمعها في انسجام دائم مستمر”.

إن شخصية الإنسان تكمن في ارادته وليس في عقله، حسب اعتقاد شوبنهاور، وشخصية الإنسان واخلاقه ايضا استمرار للفرض ووجهة نظر، وهذه ارادة. ويؤكد شوبنهاور أن العقل يتعب،أما الارادة فلا تتعب اطلاقا، والعقل يحتاج للنوم، ولكن الارادة تعمل حتى في حالة النوم،والتعب، كالألم، له مكان في المخ. العقل يتغذىبالنوم،أما الارادةفلا تحتاج الى تغذية.إن الحياة صراع ضد النوم، وفي بادىءالأمر تفوز بالنصر، ولكن في النهاية يسترد منا ما سلبناه في انتصارنا عليه. أن النوم قطعة من الموت استعرناها لتجديد ما استنزفناه من حيوية وحياة اثناء النهارالنوم قطعة من الموت استعرناها لتجديد ما استنزفناه من حيوية وحياة اثناء النهار. النوم عدونا البدي، وهو يتملكنا جزئيا حتى في يقظتنا.إن الارادة جوهر الانسان وهي جوهر الحياة في جميع صورها، وهي الشيء في ذاته؟ وكلما هبطنا الى اسفل صور الحياة،كلما صغر الدور الذي يلعبه العقل، ولكن لا يحدث هذا في الإرادة، اذ انها تبقى كما هي من النبات الى الحيوان وصولا الى الإنسان.

إن الارادة طبعا هي ارادة الحياة، ارادة لبلوغ حد اعلى من الحياة، كم هي عزيزة هذه الحياة بالنسبة الى جميع المخلوقات الحية.إن البذور الجافّة تبقى محتفظة بقوة الحياة الكامنة فيها ثلاثة آلاف عام، وعندما تصادف في النهاية الظروف المناسبة تنمو وتترعرع الى شجرة او نبات، الارادة هي ارادة الحياة وعدوها الابدي هو الموت.

 

العالم شر

إذا كان العالم في حقيقته ارادة، لابد أن يكون مليئا بالألم والعذاب، وذلك لأن الارادة نفسها تعني الرغبة، وهي دائما تطلب المزيد عما حصلت عليه وفي اشباع الرغبة حسب فلسفة شوبنهاور،تطل من وراءها عشرات الرغبات التي تطلب اشباعها وتحقيقها.إن الرغبة لا نهاية لها، ومن المتعذر اشباعها جميعها، انها كالصدقة التي تدفعها للفقير تغنيه عن الجوع اليوم ليواجه البؤس والفقر غدا … ما دامت الارادة تطغى وتملأ شعورنا، وما دمنا خاضعين لتجمع الرغبات وآمالها ومخاوفها الدائمة، وما دمنا خاضعين للإرادة، فلن نبلغ السعادة الدائمة أو السلام الدائم اطلاقا. هذا بالاضافة الى أن تحقيق الرغبات لا يستتبع القناعة، ولا شيء يقتل المثل الأعلى اكثر من بلوغه وتحقيقه.إن اشباع العاطفة يودي في الغالب الى الشقاء بدلا من السعادة، لأن حاجاتها كثيرا ما تتعارض مع مصلحة صاحبها، الى أن ينتهي الامر بالقضاء على هذه المصلحة. إن الحياة شر لأن الألم دافعها الاساسي وحقيقتها، وليست اللذة سوى مجرد امتناع سلبي للالم.

يقول الشيخ كامل محمد محمد عويضة في كتابه عن نيتشه:”لقد اصاب ارسطو عندما اكد أن الرجل الحكيم لا يبحث عن اللذة، ولكن عن التحرر من الألم والهم”.إن زيادة المعرفة في الانسان تؤدي الى زيادة آلامه، كما أن ذاكرة الانسان وبعد نظره يزيدان من آلامه، لأن الشطر الاكبر من آلامنا كامن في تأمل الماضي أو في التفكير بما سيقع في المستقبل”.

ويشير عويضة الى أن الألم في حد ذاته قصير،وأن الانسان يتألم من فكرة الموت اكثر من ألم الموت نفسه. واخيرا وفوق كل شيء، العالم شر لأنه حرب، اينما وليت وجهك لا تقع عينك الاعلى صراع ومنافسة ونزاع، وتبادل انتحاري بين الهزيمة والنصر، وكل نوع يقاتل للفوز بالمادة والارض والسيطرة.

أما كل هذه الالام والكوارث،فلا بد أن يكون التفاؤل سخرية من ويلاتالبشر، لقد صور الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه “كنديد”آلام البشر تصويرا عظيما. وخلاصة القول إن طبيعة الحياة والعالم تقدم لنا نفسها كأنها مقصودة ومدبرة لتوقظ فينا الاعتقاد بأنلاشيء فيها جدير بكفاحنا وجهودنا وجهادنا وأن ما فيها من طيبات وخيرات هو باطل ومن متاع الغرور،وأن العالم مصيره الافلاس والحياة عمل فاشل لا يقوم بتغطية نفقاته.

 

ارادة التناسل

نستطيع أن نهزم الموت بالتناسل، فالتناسل هو الغرض النهائي بكل كائن عضوي، وهو الذييمكّن الارادة من قهر الموت. ولكي تضمن الارادة قهر الموت تعمدت ألا تضع ارادة النسل تحت رقابة العقل او المعرفة او التأمل، وحتى الفلاسفة فقد تناسلوا وأنجبوا اولادا.

يرى الباحثالشيخ كامل عويضة، أن الارادة تبدي نفسها في التناسل مستقلة، عن المعرفة وهي تعمل في هذا المجال بطريقة عمياء، كما تعمل في الطبيعة اللاشعورية …

ولذلك فقد جاءت اعضاء التناسل مركز الارادة، وتشكل المركز المقابل للمخ. الذي يمثل المعرفة. واعضاء التناسل هي اساس حفظ الحياة لأنها تضمن حياة لا تنتهي، ومن أجل هذا السبب فقد عبدها اليونانيون والهندوس.

إن التناسل هو الذروة العليا الذي يهوي منها الفرد بعد بلوغه،أي هبوطا سريعا او بطيئا، بينما تؤكد الحياةالجديدة (المولود) للطبيعة بقاء النوع، وهي تعيد الظاهرة نفسها … وهكذا فإن تعاقب الموت الانساني بمثابة نبضات القلب …إن الموت بالنسبة الى النوع كالنوم بالنسبة الى الفرد، هذا هو مبدأ الخلود العظيم.

 

حكمة الموت

إننا بحاجة الى شيء كثير، يستطيع الفرد أن يبلغ السعادة بفضل “النرفانا”، وهي نظرية بوذية تعتقد ببلوغ حالة من السعادة الناجمة عن كبت الرغبات والشهوات وايقافها تماما، يستطيع أن يبلغ الفرد السلام والخلاص من رغباته بفضل النرفانا. ولكن ما الذي يخلص الانسانية باسرها؟ يقول عويضة: “إن الحياة لتسخر وتضحك من موت الفرد لأنها ستبقيه حيا في ذريته ونسله أو في ذرية ونسل الآخرين، حتى لو جف نبع ماء حياته الصغير، فهناك الوف الجداول والينابيع التي تتفجروتجري بعمق وانسياب وتدفق اكثر من كل جيل”. ما هي الطريقة لإنقاذ الانسان وخلاصه؟ اليس ثمة نرفانا تشمل الجنس كله كما تشمل الفرد ايضا.هنايبدو لنا أن الوسيلة الوحيدة والاخيرة لقهر الارادة تكمن في ايقاف منبع الحياة، وهو ارادة النسل. يقول شوبنهاور:”إن اشباع الغريزة الجنسية هو الملوم لأنه اقوى ما يقوي شهوة الحياة”.

ماذا جنى هؤلاء الاطفال حتى ندفع بهم الى الحياة وآلامها وشرورها؟ ……

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *