حبكة روائية اعتمدت على التداعي في رواية “نوريس” لـ ضحى الملّ

Views: 549

سعد عبدالله الغريبي

ضحى عيد الرؤوف المل كاتبة لبنانية، تكتب القصة القصيرة والرواية والمقالة النقدية. صدر لها العديد من المطبوعات، كان آخرها روايتها (نوريس) التي صدرت في طبعتها الأولى 2023 عن المؤسسة الحديثة للكتاب بلبنان.

تعتمد حبكة الرواية على التداعي، فبطل الرواية (نورس) بعد أن أصيب بالكورونا في إيطاليا يروي لطبيبه العربي اللبناني رحلته مع الحياة في قرية (السن) في قضاء عكار بشمالي لبنان والقرى المجاورة لها، وكيف أمضاها في تهريب الآثار والعملات المعدنية القديمة، مع رفيق صباه وابن بلدته (ألبير). ثم كيف انتقل نشاط الشابين إلى إيطاليا ليشتغلا في تهريب – أو التوسط في تهريب – العملات والآثار داخل لوحات فنية لفنانتين تعرفا عليهما بواسطة طرف ثالث هو (ستيفانو) وهو من بلدتهما.

يستطرد الراوي/ البطل في شرح قصة حياته دون أية خطة مرسومة، فهو تارة يحكي عن نشأته عند جدته (مكارم)؛ أمِّ أمه في قرية السن، وتارة ينتقل ليتحدث عن حياته في إيطاليا. هذه الجدة لم توله أي قدر من الرعاية أو الحنان الذي اعتدنا عليه من الجدات. وهو يُلمِّح لأسباب قسوتها عليه – ربما لأنه لا يملك الحقيقية – فيقول لعل زواج والديه كان سرا، أو بغير رضا العجوز. الجدة مكارم تعمل – كما أهل القرية – في تكسير الحطب وإحراقه للحصول على الفحم، وبطل الرواية الطفل (نورس) هو المُعتمد عليه في توزيع الفحم على أهل الحوانيت والوجهاء، وقبض الثمن وتسليمه كاملا للجدة. يمتطي كل يوم ظهر حماره (ناريش) ويجد سعادته في ذلك، لأنه يبتعد قليلا عن لسان جدته ويدها، وقضيب الرمان الذي اعتادت جلده به. يعبر عن سروره من رحلاته هذه بقوله: «أنا الوحيد في هذه الحياة الذي جعل من ظهر ناريش بيتا لي، سائحا متسكعا معه، عندما يستبد بي الخوف من مكارم، فلا أستطيع حتى النهيق أمامها، كما يفعل ناريش أمامي عندما تبدأ نوبة نهيقه».

 

وفي أثناء تجواله في المنطقة يعثر مصادفة – أو بالتنقيب – على عملات معدنية قديمة وآثار، فالمنطقة كلها غنية بالعملات والآثار لا سيما في (مقام الرب).. كان اهتمامه المبكر بالعملات لا يهدف منه أكثر من مبادلة صديقه ألبير بمثلها، أو بمشروب غازي أو قطعة حلوى من دكان أبيه. لكنه فيما أبعد أدرك أنها ذات قيمة حين عرض عليه (دون ستيفانو) مبلغ عشرين ليرة مقابل قطعة واحدة، وحين رأى حرص جدته على تفتيش جيوبه والاستيلاء على القطع، وإخفائها داخل كرات صوفية، تذهب بها في رحلة أسبوعية إلى طرابلس، وتعود من دونها.

سمعة المهربيْن الصغيرين؛ نورس وألبير وصلت إلى أسماع استيفانو، فطلب منهما تنفيذ عملية كبرى مقابل خمسة آلاف ليرة مناصفة بينهما؛ تلك المهمة التهريبية هي سرقة حجر من (بيت الرب)، لكن الخطة فشلت.

لم تخلُ حياة نورس من مغامرات المراهقين، فقد وقع على صبية مراهقة هي (نبيلة)، وجاء يستأذن من جدته للزواج منها، فطردته شر طردة، وكأنها تستذكر سيرة أبيه. أوقدت ردة فعل الجدة الفكرة التي كانت تومض في ذهن الشاب وصديقه، فبدآ بالبحث عن مخرج من قريتهما؛ بل ومن المنطقة العربية كلها. في البدء اشتغلا في ميناء طرابلس مع استيفانو، ثم – وبواسطته أيضا – انتقلا إلى إيطاليا. وهناك بدآ حياة جديدة. كانا يفترقان ثم يلتقيان، والجامع بينهما دائما استيفانو الذي أوجد لنورس عملا لدى (أنابيلا)؛ الفنانة التشكيلية ذات المزاج المتقلب، فهي تصمم لوحاتها من شظايا الزجاج الذي تحصل عليه بتكسير المرايا والأواني الزجاجية. وكانت مهمة نورس – الذي أصبح اسمه الإيطالي (نوريس) أو (نوريس لوتشيو) – هي تنظيف المكان من قطع الزجاج بعد انتهاء الفنانة من اللوحة، وتوصيل اللوحات المنجزة إلى مشتريها في أنحاء البلاد.

وهنا يقارن الراوي ساخرا بين تكسير جدته للفحم في القرية، وبين تكسير أنابيلا للزجاج، والمهمة المطلوبة منه، وهي تنظيف المكان هنا وهناك.

لم تقتصر مهمات نوريس على خدمة الفنانة، أو توصيل لوحاتها حيث شاءت، لكنها تحولت إلى علاقة حب فأضيفت مهمة إشباع نزواتها إلى مهمته الأساس. وبالمثل توسعت علاقته بفنانة أخرى سوداء في جزيرة صقلية هي (كاوتيكو).

ومع أن نورس خرج من قريته غاضبا عليها، وعلى جدته إلا أنه لم ينسهما أبدا، وكثيرا ما كان يحن إليهما. لنقرأ قوله: «فالجبن الإيطالي الموزاريلا ليس أطيب من الجبن البقري الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر عندما تصنعه مكارم».

ويقول حين يتذكر جدته: «كم أشتاق لرؤيتها في أرذل العمر رغم كرهي الشديد لها، أو ربما غضبي الشديد منها … محاولا أن أواسي نفسي بأنها جدتي أولا وأخيرا، وهي من أبقتني في بيتها لأتقاسم معها حتى غرفة نومها».

وهو يعجب من نفسه كيف يكون مع أنابيلا، ولا ينسى – في الوقت نفسه – مكارم. يقول: «ماذا ينقصني لأنسى جدتي العجوز مكارم؟ ولماذا يشق علي نسيانها وأنا مع أنابيلا التي تصمت وتعض على شفتها السفلى، وتنظر إلي صدري نظرة جائع لرغيف خبز ينضج على الصاج أمامه».

المؤسف في حكاية الشابين الصديقين الحميمين؛ نورس وألبير – الذي أصبح اسمه (ألبيرتينو) – أن الأول قتل الثاني خطأ في موجة غضب. لكن الكاتبة لم تسلط الضوء كثيرا على هذا الحدث الجسيم، ولا على أثره النفسي على القاتل، فأكمل مسيرته في الحياة الإيطالية بشكل طبعي.

عمَّت (كورونا) أنحاء إيطاليا، ومات خلق كثير، منهم حبيبتا نوريس؛ أنابيلا وكاوتيكو. ومن المفارقات أن الأخيرة كانت تمرضه بعد إصابته بالكورونا، لكنها سبقته.

لكن المفاجأة الحقيقية، التي احتفظتْ بها الروائية للحظة الأخيرة، بل إلى ما بعد الأخيرة، هي شخصية الطبيب العربي اللبناني مصطفى (مكسيم) الذي عالج نوريس في المستشفى، فيما كان المريض يحكي للطبيب من باب الفضفضة أو هذيان المحموم، ومات قبل أن يعرف من كان طبيبه؟

وإذا كانت الكاتبة قد حافظت على هذا السر، فسأبقيه – أنا أيضا – سرا ليكتشفه القارئ بنفسه.

الرواية كتبت بلغة عربية فصيحة، تخللها بعض المصطلحات العامية، وبعض العبارات المحلية لا سيما في الحوارات، وبخاصة الشتائم، التي يبدو أن تأثيرها أوضح حينما تكون باللهجة الدارجة. ولم تخل الرواية من الأسلوب الساخر الذي يسهم في إظهار الصور بشكل جلي، كما مر بنا في المقتبسات السابقة، وكما في المقطع التالي الذي أختتم به هذا العرض: «فبعد خروجي من قرية السن المنعزلة عن العالم، ونحن في التسعينيات من زمن لم يمنح قريتنا اي طريق مفروش بالزفت، إذ أغلب القرى يمكن أن يصل إليها البعض من خلال السيارة، إلا قريتي التي تقع في زاوية غير مرئية، وكأنها قرية للجن في عكار، لم يرها لا زعيم ولا نائب ولا وزير، ولم يحاول أحد أن يمد لها يد المساعدة من طرقات وغيرها. ومع ذلك نشأت فيها كقطعة فحم قوية من سنديان، طمرته مكارم في “مشحرة” تشتعل أياما، ليتكون ويصبح قادرا على مقاومة النار قبل أن يصبح رمادا».

***

*مجلة “اليمامة”

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *