مُفارقات الاتّصال الشخصيّ في البيئة الرقميّة

Views: 413

د. نهوند القادري عيسى*

من الملاحظ أنّه بقدر ما تتسارع تطوّرات تكنولوجيا الاتّصال، وتتزايد تعقيدات الحياة، وتنحو المُجتمعات نحو مزيدٍ من انعدام اليقين، ويخطو العالَمُ خطواته في فضاءات ما بعد العَوْلَمة، بقدر ما يتكثّف في المقابل، حضور الأصوليّات وتشتدّ العصبيّات من كلّ نَوع، فينكفئ إذ ذاك الفردُ على نفسه وينسحب من الحياة العامّة.

إنّه عصر يتداخل فيه الدّاء بالدواء (Boullier,2016)، وتزداد المفارقات عنفاً عندما ننظر إلى منظومة الاتّصال التي تغلغلت في أوصال حياتنا اليوميّة على أنّها مرتعٌ للإرهاب ووسيلة لمُحاربته، وإلى الإعلام على أنّه مشجِّع للتطرُّف ووسيلة لمكافحته، وهذا ما أَطلق عليه البعض صفة الـ “رابح رابح”، في معرض تفسيره للدور المتعاظم الذي باتت تلعبه معادلات “البيغ داتا”.

هذه “البيغ داتا” تهدف، من خلال البحث عن انفعالات وأحاسيس الأفراد، إلى إيقاظ المُستهلِك النائم في دواخلهم، وتوجيههم بالكامل. وبهذا تتحوّل شبكة الإنترنت إلى الأمّ الكبرى التي لا تفتّش إلّا عن سعادة أولادها، وبالطريق تولِّد ديكتاتوريّةً ناعمة حيث المراقبة الكليّة للأفراد تتمّ برضاهم الضمنيّ. فالإدّعاء بجعْلِ العالَم مفهوماً بفضل مُعادلات “الألغوريتم” التي تجعلنا ننشغل بـ”الكيف” فقط، مع اختفاء سؤال الـ “لماذا؟”، يؤسِّس للاهتمام بالنتائج وتجاهُل الأسباب؛ فالرقم غالباً ما يُراوغ النقاش، ويُبعد سؤال المعنى، ويصبح قانوناً يفرض علينا معاييره؛ هكذا يتحوَّل المستقبل إلى مُعادَلة، حيث السلوكات الإنسانيّة، بالنسبة إلى صناعة التقنيّات، هي في جزء منها مُحدَّدة مُسبقاً ومُتوقَّعة، ولا مكانَ فيها للمُصادفة (Dugain,Labbe,2016).

في هذا السياق، يثير الاتّصال المتواصل في البيئة الرقميّة جملةَ إشكاليّاتٍ على مُختلف المستويات: بدءاً من المستوى الفردي المتمثّل بعلاقة الفرد مع ذاته، مروراً بالمستوى الجماعي المتمثّل بعلاقة الفرد بمجموعات الانتماء (الأسرة، الرفاق، المدرسة، الجامعة، أمكنة العمل، أمكنة النشاط الاجتماعي، السياسي، الترفيهي)، وانتهاءً بالمستوى الوطني وعلاقة الفرد بالدولة، بمؤسّساتها وهياكلها الهرميّة.

إشكاليّات تُثيرها الرَّقْمَنَة

بدايةً نشير إلى أنّ الصراعات العسكريّة والحروب النّاعمة والأزمات والاضْطرابات التي يشهدها العالَم، تُغلّفها صراعاتٌ مُضمَرة دائرة بين مارد التكنولوجيا المتعاظم اقتصادياً (غوغل، أبل، فايسبوك، أمازون، ميكروسوفت) وبين الدولة التي تتولّى تسيير الشؤون العامّة، تبعاً لمبدأ فصل السلطات ولمعايير ديمقراطيّة تستند إلى فلسفة سياسيّة تكمن وراءها جملة مفاهيم ترعى آليّات عملها.

بدأت إرهاصاتُ هذا الصراع في منتصف القرن الماضي، عندما شكَّل إلقاءُ القنبلة الذريّة على هيروشيما صدمةً للعُلماء، ما دفعهم إلى تصميم آلاتٍ تتّصل في ما بينها. وأتت السيبريّة لتُجيب بطريقة مغايرة عن معضلات المُجتمعات المعقّدة. غير أنّ المنظومة الرأسماليّة سرعان ما التفّت على المنظومة الاتّصاليّة ووظَّفتها لمصلحتها. فطرحت أيديولوجيا الاتّصال نفسها بديلاً من الأيديولوجيّات التي أَخفقت في حلّ مشكلات الإنسانيّة، وسبَّبت لها الخراب والدمار. وهي تدّعي أنّها أيديولوجيا غير مُلوِّثة، لا أعداء لها، ولا ضحايا جرّاءها، عدوّها الوحيد الفتور وعدم الاتّصال.لذلك تنادي بالإنسان المتّصل، وبمُجتمع الاتّصال والتواصُل.

خطاب “النهايات” و”المابعديّات”

ترافقت أيديولوجيا الاتّصال هذه مع جملة عناوين معبّرة عن صراعاتٍ عميقة تحدَّدت معالمها في جعْلِ جوهر الإنسان يتآكل، وجوهر الدولة يتحلَّل، وجوهر النظام الديمقراطي تهتزّ أُسسه، نذكر منها: خطاب “النهايات” وخطاب “المابعديّات” (نهاية التاريخ، نهاية الصراع الطبقي، نهاية الحقيقة، نهاية الأيديولوجيا، نهاية اليوتوبيا، إلخ، وما بعد الحداثة، وما بعد الحقيقة… إلخ)؛ ما يعني أنّ التفافَ المنظومة الرأسماليّة على المنظومة الاتّصاليّة وَجَدَ في دولة الرعاية عائقاً أمام صعودها السريع، وكرَّس أيديولوجيا الاتّصال الحاملة معها جملة مُفارقات؛ فهي مثلاً تدّعي نهاية الأيديولوجيا، وهي بحدّ ذاتها أيديولوجيا؛ تُعلن نهاية اليوتوبيا وتُغرِّر المُستخدِمين بجملة وعود طوباويّة، منها: الأفقيّة، والمُساواة، والتفاعليّة، والحريّة، والشفافيّة، والفردانيّة المباشرة والآنيّة. علماً أنّ منطق استخدام هذه المنصّات مُغاير تماماً لمنطق اشتغالها غير الشفّاف الذي تحرِّكة المصالح الماديّة.

أمام هذه الإغراءات والوعود، هَجَرَ الشبّان والشابّات واقعهم المرير المُثقل بالأزمات نحو “البارك” الاتّصالي الذي جهّزته لهم المنصّات الرقميّة، التي عملت ليلاً نهاراً على تحريكهم ورقْمنة انتباههم لأغراضٍ ربحيّة. يجري ذلك كلّه في عصرٍ يتّسم بالرقابة الشاملة، وبتغييب الصراع، فضلاً عن إخماد أيّة رغبة في الثورة والاحتجاج (Dugain,Labbe,2016).

هؤلاء الشبّان حلموا بتخطّي البنى والمؤسّسات والهياكل الهرميّة، طمعاً بالتغيير، وبتحقيق الأحلام والذّات، وممارسة الحريّة بلا رقيب. هكذا خُيِّل إليهم في البداية، قَبل أن يجدوا أنفسهم داخل إقطاعة، حيث استخداماتهم لمنصّاتها شيء، وطُرق عمل هذه المنصّات واشتغالها شيء آخر. وبهذا خسروا تفاعلهم مع الدولة ومؤسّساتها وهياكلها، وخسروا تفاعلهم داخل المنصّات الرقميّة، واستُدرِجوا إلى تلك البيئة التي عزَّزت لديهم الحاجة إلى الاتّصال، تبعاً لمقولة “أنا أَتّصل، إذن أنا موجود”. ولا يهمّ بمَن يتّصلون، وكيف يتّصلون؟ ولأيّة غاية؟ وما هو مضمون اتّصالهم؟ ولا يهمّ إذا كانوا في اتّصالاتهم هذه يهملون مَن هُم بجانبهم لمصلحة الاتّصال بالآخر البعيد الذي لا يعرفونه ولا تربطه بهم أيّة صلة. المهمّ، لا بل الأهمّ، هو أن يتّصلوا بحريّة وبعفويّة، لدرجة التخلّي عن خصوصيّتهم، من ضمن حيّزهم الخاصّ الذي عمل النظامُ الديمقراطي على صيانته، أي تحفيزهم على عرضِ كلّ ما يخصّهم لمصلحة مُشغِّلي المنصّات الذين يجمعون بصماتهم وآثارهم الاتّصاليّة ويبيعونها لشركات الإعلان وأجهزة الاستخبارات ومُعدّي الحملات الانتخابيّة والدعائيّة. فما كانت هذه المجانيّة لتكون لولا أنّ المُستخدِمين أنفسهم تحوَّلوا ليصيروا النِّتاج والمنتوج (Jean-Paul Fourmentraux,2015). فالأيديولوجيا التحرّريّة لـ”البيغ داتا” تأسَّست على الفردانيّة الكاملة، وعلى مبدأ التطوُّر التقني بأيّ ثمن، ذي القاعدة السلوكيّة القائم على شعار “كلٌّ لنفسه”.

وفي معرض محاولات الشركات الكبرى الحلول محلّ الدولة، سنَّت هذه الأخيرة معاييرها وصاغت رقابتها بطريقةٍ حاذقة، ومن منطلقات النّظام الرأسمالي عَينه. هذا النّظام الذي اتَّسم بمرونةٍ فائقة جَعلت قابليّته للاستمرار لا حدود لها، بحيث كانت لديه القدرة على إفراز آليّات تصحيح الخلل النّاجم عن أدائه من داخله. فسنّت هذه الشركات معايير تُحدِّد ما هو مسموح وما هو ممنوع، تحت عنوان مُحارَبة التطرُّف والكراهيّة والخطاب العنيف، فحجبت مواقع وصفحاتٍ باستنسابيّة لا مثيلَ لها، وكان الكيل بمكيالَيْن تبعاً لمصالحها، مستخدمةً أساليب الأسْطرة حيناً، وأساليب الحجْبِ حيناً آخر. فكانت النتيجة تعزيز الكراهيّة ببراءةٍ وبنعومة. كذلك، وبهدف تسييل البنى الصّلبة، تمَّ استخدام الكثير من المذيبات لتسطيح الإنسان وإفراغه من داخله وتهميش عقله، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الإطلاقيّة في مُقارَبة موضوع الطبيعة وفي العودة إليها؛ إبراز الجندر وإخراج الهويّات الجنسيّة كعنوانٍ مَطلبي وتكريسها والإلزام بها بهدف تسييل البنية العائليّة التقليديّة؛التصويب على الفلسفة وتهميش كلّ ما يتّصل بالتحليل والمُحاجَجة في البرامج المدرسيّة؛ الدعوة للمُساواة بين الأستاذ والتلميذ؛ النَّظر إلى كلّ ما هو جدّي على أنّه منفِّر وباعث على المَلل، ما أطاح، على الصعيد التعليمي والتربوي مثلاً، بالبنية التعليميّة التقليديّة، وحوَّل التلميذ إلى فردٍ نرجسيٍّ وظالِم، كاره لكلّ ما هو جدّي. في المقابل، فإنّ ربْطَ المنزل بالأجهزة الذكيّة، أطاح بالخصوصيّة وقوَّض المنزل البرجوازي التقليدي. تأسيس المُدن الذكيّة وتأثيثها بكاميرات المراقبة سهَّل تعقُّب المجرمين، وسهَّلَ المُحاكمات القائمة على النوايا، ما مسَّ بصلب عمل القضاء. كما أنّ إطلاقَ العنان للآراء المتسرّعة والانفعاليّة، أطاحَ بالرأي العامّ المتنوِّر القائم على المُحاجَجَة وعلى القراءة (Redeker.R,2021). فسواء كنّا مع السلطات الحاكمة أم من مُعارضيها، لم نعُد في زمنِ الفلسفات السياسيّة التي تدعو إلى الثورات وإلى العنف، إنّما وجدنا أنفسنا نرسو على ضفاف عصر تويتر. فحجب البعض عن منصّات التواصُل بات يأتي من مؤسّساتٍ خاصّة حلّت محلَّ المحاكم، ما أطاحَ بعمليّة فصل السلطات، وجعلَ المنصّات تحلّ محلّ الدولة لتُحاكِم وتُعاقِب، وكأنّنا أمام صراعٍ بين جبابرة الرقميّة والدولة.

ضياع نقاط الارتكاز

دفعَ خطابُ “النهايات” وخطاب “المابعديّات” نحو مزيدٍ من إضعاف القيمة الإنسانيّة. فمن خلال السريع والملحّ والعاجل والآني والمباشر، تمّ التخفيف من ثقل الإنسان، عبر تجويف عمقه وداخله، فغدا ضعيف الحجّة، فاقداً للبوصلة، يعيش اللّحظة، مُعلَّقاً بين ماضٍ مُحتقَر ومستقبلٍ مقلق غامض (Rosa.H,2014). كذلك أفقدنا الترويج لنهاية الحقيقة، وإطلاق العنان للنسبويّة المطلقة، ما هو مشترك في ما بيننا حول ما هو الصحّ وما هو الخطأ (D,allonnes.M,2021). لذا نلحظ الانزياح المفاهيمي المترافق مع صعود المنصّات الرقميّة من المصلحة العامّة نحو المصلحة المُشترَكة. كذلك نهاية الرأي العامّ، بوصفه العمود الفقري للنظام السياسي الديمقراطي؛ ما يعني نهاية المُحاججة القائمة على الرأي المتنوِّر المُدعَّم بالقراءة. فالقراءة تُمكّننا من أخْذِ مسافة بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين الآخرين، بيننا وبين الموضوع المطروح. هذا عدا عن أنّ الرأي العامّ بحاجة إلى أن يتبلور مع الزمن، ما يجعله يتّسم بشيءٍ من الاستقرار بين استحقاقٍ وآخر، أو بين حدثٍ وآخر. بالإضافة إلى أنّ ميزة الرأي العامّ هي أنّه يتجسد عبر القوى الوسيطة: المجلّات الفكريّة، المنظّمات، الأحزاب، النقابات، انطلاقاً من كونه مَصنعاً للمواطَنة. غير أنّ إجهاض شبكات التواصل الاجتماعي للرأي العامّ، وتراجُع دَور القوى الوسيطة لمصلحة الآراء المتسرّعة الطائشة الانفعاليّة، أضعف المشاركة السياسيّة، وسبَّب التحلُّل السياسي، وأضعفَ أيضاً الاهتمامَ بالشأن العامّ.

نهاية الفلسفة، نهاية الأخلاق، نهاية المعنى، كلّها نهايات تؤشّر إلى ضياع المعايير ونقاط الارتكاز، وعندما تغيب المعايير تحلّ الفوضى ويرسو العنف. الكلّ يتكلَّم ويبتُّ في كلّ شيء، لا أحد يسمع أحداً. لكلّ فرد مرجعيّته المتمثّلة في رأيه وفي انفعالاته وغرائزه، ثقته بالعلم وبالمعرفة العلميّة ضعفت نتيجة كمّيّة المعلومات المتداوَلة والمتضارِبة؛ ما يعني أنّه أصبح يجد نفسه أمام صعوبة التفكير الحرّ بعيداً من الانفعالات.

في سياقٍ كهذا، يتساوى العالِمُ مع الجاهل، الخبيرُ مع عديم الخبرة، الكلامُ النخبوي مع الكلام العادي، الكبير مع الصغير، الأستاذ مع التلميذ، الجلّاد مع الضحيّة.هذه المساواة المُخيفة الطبيعيّة والتلقائيّة وغير المقوْنَنَة، المتخطّية للتفاوتات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، يُنظر إليها اليوم على أنّها لمساواة الناس وليست للمساواة بين الناس، وهي تتطلّب بالتالي إلغاءً للتاريخ، ما يجعلها مصدراً للعنف، ونوعاً من الطبيعويّة التي تقترب من التفكير التوتاليتاري Redeker.R,2021))؛ وفي هذا ما يؤشّر على بعض المحاولات الدؤوبة للإطاحة بالهرميّات والتراتبيّات القائمة، ويفضي إلى تسطيح الإنسان، وتجريده من خصوصيّته. ضاعف من هذه الإشكاليّات تشابُك العالَم الواقعي بالعالَم الافتراضي، وضياع نقاط الارتكاز، واختلاط الحدود بين العوالم العامّة والخاصّة، بين عالَم العمل وعالَم الترفيه، بين الإعلام والإعلان والاتّصال، بين الإثارة والجديّة، بين المُرسِل والمتلقّي، بين الكلام النخبوي والكلام العادي.في أجواء كهذه حلّت الكراهيّة النّاعمة المتجلّية في أبشع صورها بالحروب الناعمة.

باختصار، فإنّ هذا الاتّصال الذي اقتحم حيواتنا لم يصنع تفاهماً بين الشعوب، وإنّما عزَّز أكثر فأكثر الذاتيّات المجنونة، المستبدّة، المتحرِّرة من كلاب الحراسة التي كانت تدفعها للاعتراف بالرضا الاجتماعي، بالكفاءات، بالتراتبيّة المعرفيّة، بشرعيّة المؤسّسات، بالنظام الاجتماعي، وأَنعش الشعبويّة وعزَّز الاصوليّة، وأضعَفَ الديمقراطيّة، وأسَّس لصراعاتٍ وعنصريّة وكراهيّة؛ فبتنا نجد أنّ الفردانيّة المتعاظمة في العصر النيوليبرالي أعدمتنا السبلَ في أن نتمكَّن من تعهُّدِ أنفسنا، لأنّها خطفت جوهرنا الإنساني وحوَّلتنا إلى مُستهلكين في حالة فراغ، عبيداً لشهواتنا، وغرقى في اللّامعنى.

***

*باحثة وأستاذة سابقة في كليّة الإعلام – الجامعة اللّبنانيّة

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *