خديجة الجهْمي: المرأة المُفردة بصيغة الجمع

Views: 367

فاطمة غندور*

في تاريخ الحركة النسويّة في ليبيا برزت طليعيّات، خضْنَ مسارهنّ المفارق مع راهنهنّ، أوّل عقد القرن العشرين، حين تصدّت نخبة الأُمّهات الرائدات لفكّ أميّتهنّ؛ وفيهنّ مَن ارتحلْنَ لأجل ذلك كحميدة العنيزي، وجميلة الإزمرلي، وصالحة ظافر المدني، وبديعة فليفلة. كانت وجهتهنّ معهد المعلّمات المُسلمات في تركيا، ومنهنّ مَنْ تسلّحن بمعطى الاندماج والتثاقُف مع محيطهنّ، وكنّ فاعلات إبّان هجرة الأهل القسريّة إلى مصر وتونس والشام والسعوديّة، وبلدان أوروبيّة متاخمة، مع الغزوة الاستعماريّة الإيطاليّة لأسوار ليبيا (تشرين الأوّل/ أكتوبر 1911)، فكانت أوبتهنّ لاحقاً دعامة مضافة للمسألة النسويّة، متفاعلات مع صداها، وقت أن كانت رحاها سجالات وكتابات تدور في مجتمعات بعيدة، تنادي بحقّ العِلم والمعرفة، ووجود النساء في الفضاءيْن العامّ والخاصّ.

ومن ذلك عُدّت حميدة العنيزي (1892 – 1982) رائدة ثوريّة في الحركة النسويّة اللّيبيّة، وذلك في مجال التأصيل التعليمي، ومأسَسة المجتمع المدني، فيما حازت خديجة الجهمي (1921 – 1996) وبجدارة، ريادة النضال التحرّري، من بوّابة الانشغال الدائم بقضيّة المرأة، دفاعاً واختراقاً للحجب، وهي تمثّل مرحلة تصاعديّة من التمرّد النسوي، معلنةً عن ذاتها، ومتجاوزةً التمييز الذي رسّخته التقاليد الأبويّة. نتلمّس ذلك في مسرودها الشخصي. طفولة، وعائلة، وجيرة حيّ، وثقل ظروف عايشتها: أمٌ نَبَذَها أبٌ في زواجٍ جبريّ، بَيت فارقه معيله مبكّراً حين تهدّدته إدارة استعماريّة فاشيّة، ما نتج عن ذلك ثقل مسؤوليّة تحمّلتها خديجة، وألقت بأثرها في نهجها الحمّال روح المغامرة، وشغف المُبادَرة، إذ شهدتْ، وهي صبيّة عشرينيّة في مدينتها بنغازي، أجواء الحرب العالَميّة الثانية مباشرة، وعاشت بين وابل الغارات وفعل المتفجّرات. وفي محاولة للنجاة، نزحت وأهلها في اتّجاهِ مَن التحفوا الخيام في أطراف المدينة، مُعتقدين أنّهم في مأمن، فعملت ممرّضة متطوّعة تتنقّل بين بيوت الفئات المهمَّشة، تُداوي مرضاها بما تعلّمته من مبادىء طبيّة في المدرسة الإيطاليّة، ومعارف تشرّبتها بعيْن المُحبّة للتعلُّم من ممرّضة الحيّ الأرمنيّة “جيجا”. كما خاطت الأثواب من مظلّات الطائرات الحربيّة لتوفّر المال لعيشها وأسرتها. جاء في سيرتها التي حملت عنوان “أنا خديجة الجهمي“: “لم يكُن هناك قماش، لكنّ المظلّات التي تُسقطها الطائرات في الحرب الدائرة، وهي من نسج الحرير الطبيعي، وتُخاط بشكل دائريّ، أوحت بالحلّ، فلم يكُن من الصعب فتق الخياطة الأصليّة وإعدادها قطعاً من القماش. كما كنتُ أصبغها بالألوان… فصار لديّ الكثير من المال الذي لا يُحقّق أيّ شيء؛ ففي السابق كان مبلغ الألف فرنك يمكِّن المرء من شراء منزل، إلّا أنّه في زمن الحرب، بات لا يأتي برغيف خبز!”.

ردّد عنها مجايلوها شجاعتها المفارقة، فمع صغر سنّها، وهي تلميذة، وجّهت رسالة إلى زعيم إيطاليا الفاشيّة “موسوليني”، عِبر مجلّة “ليبيا المصوّرة“، قالت له فيها: “احتلالكَ لبلادي أمرٌ غير صحيح، ولا بدّ لك من أن تفكّر بترك ليبيا لأهلها، وإلّا سيأتي يوم سيكون فيه تراب بلدي جحيماً على إيطاليا”. بعدها تعرَّض والدها، عامل المطبعة لجريدة “بريد برقة“، الشاعر الشعبي عبد الله الجهمي (أَورثها نَظْمَ الشعر الغنائي) للمُساءلة الأمنيّة من قِبَلِ مكتب الاستعلامات الإيطالي، فغادر على عجلٍ إلى مصر.

كان التمرّد على السائد، هو القرار الذي تميّزت به أناها الجسورة؛ فلم تكُ تؤمن بفوارق (غير البيولوجيّة طبعاً) تميِّز الرجل عن المرأة، فكلاهما، برأيها، مالك لقدراته ومهاراته وتوجّهاته، ويوظّفها كما يشاء؛ وكلاهما جدير بأن تُتاح له الفُرص ليستثمرها.

في سَفَرها الأوّل، وبمفردها، في العام 1946، وعلى الرّغم من أجواء الحرب والفقر والجوع والبؤس المحيق بمدينتها، ومن أجل اللّحاق بوالدها الذي طال غيابه في مهجره، قطعت خديجة الجهمي رحلة طويلة من بنغازي إلى مصر برّاً، بلا جواز سفر، ولا مال يذكر. بداية الرحلة كانت سَيراً على الأقدام، ثمّ كان انتقال من سيّارة إلى أخرى، متنكّرة بزيّ امرأة عجوز، ودائماً متوجّسة من الطامعين في فتاة تسافر وحدها.

وما لبثت أن أعادت كرّة السفر ثانية إلى مصر في العام 1952، ليستوقفها هذه المرّة، حراك المرأة والمجتمع المُنفتح في الإسكندريّة، فقابلَت بجرأة الشاعر بيرم التونسي. كما دخلت في القاهرة بَيت هند رستم وساجلتها في فنّها وحياتها. ثمّ قرّرت بعد ذلك البقاء في البلد والعمل فيه، فكان أن اشتغلت في مهنة الخياطة لتأمين مصروفها اليومي، وفي الوقت عَينه، التحقت بدوراتٍ دراسيّة ليليّة في عابدين. كما تدرّبت على العمل الصحافي لاحقاً، انطلاقاً من مناخٍ كانت قاربته أيّام عمل والدها في مطبعة بنغازي، واندغامه مع رفاق له من مثقّفي تلك المرحلة، ممَّن كانوا يتداولون صُحفاً مصريّة مُهرَّبة، كانت السلطات الإيطاليّة تحظّر تداولها. وفي “نادي الشباب اللّيبي” في القاهرة، ساجلت خديجة الجهمي في قضايا كانت تُعدّ من التابوات يومها: المرأة وتولّي القضاء، موقف الإسلام من تحرير المرأة، المرأة والعمل في التجارة الحرّة، مُحدثةً بآرائها آثاراً اجتماعيّة وثقافيّة مفارقة، ما جَعلها مرشّحة لإدارة النادي، وبقناعة من مرتاديه الرجال، الذين صوّتوا لها بحماسة في الانتخابات، لكنّ صوتاً واحداً كان فارقاً ليفوز منافسها بالمنصب، وهو رجل.

بعد غيابها سنوات في مصر، عادت خديجة الجهمي إلى بنغازي، فعهدت إليها معلّمتها حميدة العنيزي بمشروعٍ تنمويٍّ جديد. وكما سبق وشجّعت هذه الأخيرة تلميذتها عائشة زريق على خوض غمار مشروع التنمية الريفيّة في ليبيا، ها هي تُشجّع بدورها خديجة الجهمي على خَوض تجربة إعلاء الصوت النسائي من خلال العمل الإعلامي. ومع أوّل صدحٍ لصوت خديجة عبر الراديو (1956)، وما بثّته من خطابٍ كانت وِجهته الرجل، كما المرأة، وبصراحة مُطلقة، انقسم الرأي العامّ من حولها: بين مُحاربٍ شرس لها بالعنفٍ اللّفظي، بل والماديّ أيضاً، في الشارع، كما في وسطها العائلي حين هدّدها ابن عمّها بالقتل.. وبين مُستقبِلٍ بوعي لأطروحاتها المتقدّمة والمُتجاوزة على مستوى التوعية الاجتماعيّة ككلّ، إذ إنّها نادت بحقوق النساء والمُساواة وتكافؤ الفُرص، وسرّبت ذلك عبر قصص من الواقع روتها بالشواهد عبر مادّة “أضواء على المجتمع”، وهو عنوان برنامجها الإذاعي الاجتماعي الإصلاحي الذي استمرّ ثمانية عشر عاماً، مُسجِّلةً خلاله سبْقاً تنويريّاً متألِّقاً لأوّل برنامج إذاعي ليبي في محطّة الراديو الأولى على الجغرافيا اللّيبيّة.

مجلّة المرأة الجديدة”

ترأّست خديجة الجهمي إدارة أوّل مجلّة نسويّة ليبيّة “المرأة الجديدة” سنة 1965، وهي المجلّة التي دَفَعَ بها لقيادتها، وعن ثقةٍ عارمة، الكاتب والمفكّر اللّيبي المعروف الصادق النيهوم، وآزره في اقتراحه هذا يومها، وزير الأنباء والإرشاد، الأديب والمؤرّخ الكبير خليفة التلّيسي، كونها الشخصيّة النسويّة التي فَرضت حضورَها بمفاعيل ثقافيّة رياديّة، تخطّت فعلاً الرّاهن نحو المستقبل. وكانت أن عملت الجهمي في ضوء ذلك على استقطاب الكوادر النسائيّة بشكلٍ خاصّ، وتدريبها في مجالات العمل الصحافي، وحقّقت تميُّزاً استثنائيّاً بظهور المرأة/ المُصوّرة، والمرأة/ المُخرِجة الفنيّة، عدا المرأة الصحافيّة في كادر التحرير المركزيّ، والتحقيقات على الأرض، وفي مجال الترجمة أيضاً. وحين كَتبت الافتتاحيّة بقَلَمِها، راحت تعكس خلالها ما تتأمّله من مجتمعها من حراكٍ ذاتيّ جِدّي لكسْرِ طوق التقاليد البالية، وفضْحِ العوائق، واقتراح آليّات المواجهة على اختلافها.

أمّا ما كان يؤشّر إلى حسّها اللّيبرالي، وموقفها التحرّري، ففي المبدأ كان هو إيمانها بحريّة الصحافة، وتلك المساحة التي أفردتها لوجهات النّظر في قضيّة المرأة المُعبَّر عنها في المقالات المُتداوَلة بين جيلَيْ الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، حيث أوجدت فضاءً واحداً لتداوُل الرأي، والرأي المضادّ، التقليدي منه والحديث.

إنّ المُعاين للعديد من أغلفة مجلّتها، يلحظ، من فوره، ما أظهرته خديجة الجهمي من رؤية مغايرة للأمور في بيئتها الاجتماعيّة، إذ كان ثمّة جرأة في إظهار وجه المرأة اللّيبيّة وجسدها المُحتشم في مواقع عملها: الموظّفة، العاملة، الفنّانة، الطبيبة، الرياضيّة… إلخ. بدت المجلّة (بخاصّة في أعدادها الأولى) مُجاهِرة بالتطلّعات المُتصارع عليها، ومُناصرة لاستقلاليّة الرأي، والموقف من قضايا التحرُّر، وكلّ ما يصبّ في وعاء النضال الحقيقي لفرضِ المساواة المجتمعيّة وعدم التمييز.

ومجلّة “المرأة الجديدة“، التي تحوّلت إلى مجلّة “البيت” لاحقاً، ما عانت انقطاعاً في مسيرة إصدارها بعد غياب خديجة عنها. ومع غلبة ملامح توجّه السلطة الرسميّة عليها لاحقاً، فهي باتت تمثِّل اليوم إرثاً ثقافيّاً وسوسيولوجيّاً لم يلقَ – مع الأسف – أيّ انتباهة تُذكر من نظام القذّافي، لا على سبيل الأرشفة، ولا على مستوى الرصْد لتاريخ مرحلة مهمّة من صناعة أدوار خاصّة بالرائدات اللّيبيّات، وقراءة عميقة لفكرهنّ وتجاربهنّ التنويريّة على الأرض.

ومرجعيّتنا هنا، اعتمدت أكثر ما اعتمدت، على سبْرِ سيرتها الذاتيّة التي عنونتها بـ “أنا خديجة الجهمي”، مع من قابلتها وسجّلت معها، الشاعرة والباحثة أسماء الأسطى في الكتاب الثالث المُعدّ عنها، بعد كتابيْن مهمّيْن حولها أيضاً، الأوّل تحت عنوان: “بنت الوطن” من إعداد تلميذتها عزيزة الشيباني، والثاني بعنوان: “خديجة الجهمي ونصف قرن من الإبداع“، للإذاعيّة أمينة بن عامر، والكُتب الثلاثة محمّلة بعالَم رائدتنا الغنيّ، ووثائق بقلَمِها، كما نماذج من نصوصها، وآراء مُجايليها فيها، لتكون الشهادة الحقّة لخديجة الجهمي التي منحت المرأة في بلادها أساساً معرفيّاً وحقوقيّاً راسخ البنيان، ما ظهر أثره الفاعل والمتفاعل في مناخ ليبيا الحديثة، منذ أوّل الاستقلال وبعده؛ وظلّت هي الرمز الكبير، والمدرسة الوطنيّة التي لم تنشغل بأناها بالمعنى الضيّق والنرجسي للأمور، بل إنّها وهبت شبابها وحياتها بالكامل لمشروعٍ ثقافي نهضوي، قدّمت خلاله، ولعقود، النموذج النضالي غير المسبوق، وخصوصاً في مجال الإعلام المنتج، وكتابة الرأي الجريء، وتقديم الدراما الإذاعيّة المؤثّرة.

وعلى مستوى الثقافة والأدب، كَتبت خديجة الجهمي القصّة المسلسلة للأطفال، وترأّست لجنة عمل أوّل لقاء موسّع كان عقده كتّابُ وأدباءُ ليبيا سنة 1967، دافعة بتلميذاتها كمُرضية النعّاس، أوّل روائيّة ليبيّة، ورباب أدهم، أوّل خرّيجة ليبيّة من الجامعة الأميركيّة في بيروت، وخديجة عبد القادر، أوّل كاتبة ليبيّة لأدب الرحلات، إلى مزيدٍ من التألّق في فضاء حراكهنّ الإبداعيّ المنتج.

وكانت رائدتنا كذلك مدوِّنة ناجحة للكثير من القصائد الخاصّة بالشعر الغنائي، والتي كان لها إسهام طليعيّ فيه، مكّنها من أن تكون أوّل شاعرة ليبيّة يُلحّن لها، وتخرج كلماتها على متنِ أصوات المشاهير من فنّاني ليبيا يومذاك، ولاسيّما منهم سلام قدري ومحمّد مرشان.

خديجة الجهمي “بنت الوطن”، كانت أيضاً من أوائل المُطالِبات بالتمكين السياسيّ للمرأة اللّيبيّة، عبر تصدّرها مظاهرة لنخبة منهنّ جابت شوارع طرابلس في العام 1963، وترسّمت نتائجها في التعديلات الدستوريّة التي قضت بمنح حقّ التصويت للنساء.

كما حلمت رائدتنا مبكّراً بقناةٍ تلفزيونيّة تخصّ المرأة اللّيبيّة (لم يُترجَم حُلمها طبعاً)؛ وجاءت زيارتها إلى لندن في العام 1968، مدعوّة من مؤسّسة وراديو “البي. بي. سي.” لهذا الغرض، فعملت على مُعايَنة النشاط الإعلامي المتعلّق بالمختصّين المعنيّين، وتفقّدت بنفسها أجهزة تقنيّات الإرسال الحديثة، ومكوّنات الإستديو.

و”ماما خديجة” كما ناداها، وعرفها الجيل اللّاحق، أسّست أوّل مجلّة خاصّة بالطفل اللّيبي: “الأمل” في العام 1974، وكان رهانها على الطفولة كمصدر وعي تدريجيّ للنشء الجديد من خلال القراءة والتزوُّد بالمعرفة خطوة.. خطوة.

هكذا كانت خديجة الجهمي، امرأة ساطعة بمواقفها وقراراتها العاملة على الأرض، وبين الناس، في أوضاع الحرب والسِّلم، وخصوصاً في خضمّ حربٍ عالميّة أُقحمت فيها ساحة ليبيا، واستهدفت إنسانها الطيّب البسيط، وقبلها كان وباء الطاعون الذي حصد “الكثيرين” على قلّتهم في المدينة الصغيرة: بنغازي، وأعقبه استعمار فاشيّ تقصّد شطب الإنسان بالنفي والتشريد والمعتقلات المسوّرة بالأسلاك المُكهرِبة، والإعدامات بمحاكم صوريّة.. حقبة أخرجت ليبيا خالية الوفاض من كلّ الموارد.. كلّ ذلك عايشته خديجة الجهمي، وواجهته بمعارك صلبة ومُستدامة.. عمادها الكلمة والفعل والإرادة الفولاذيّة، حتّى وهي في قلب عزلتها المفردة والأخيرة، بداعي الهرم القسري الذي يفرضه سلطان الزمن، وبلا هوادة، على الكائنات كافّة.

***

*باحثة وكاتبة من ليبيا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *