في مفهوم العلاقات الإنسانية ومرتكزاتها
د. مصطفى الحلوة
مفهوم أو مصطلح العلاقات الإنسانية يتمحور حول أساليب التعامل بين الناس وتفاعلهم ، في شتى جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. هذه العلاقات ، مُرتكزها الإعتراف بكرامة كل فرد واحترامُها وصونُها ، وللجانب العاطفي حضورٌ في هذا المجال .
وإلى ذلك ، وبعيدًا من الجانب الإنساني العاطفي ، فإنّ هذه العلاقات محكومةٌ بقوانين وأعراف ومنظومات قيم .
تأسيسًا على ما تقدّم ، وفي رصدٍ للعلاقات الإنسانية ، في مجتمعاتنا العربية والشرقية ، نرى أنّ لمنظومات القيم الأخلاقية والدينية دورًا فاعلاً في هذه العلاقات ، التي يقوم بعضها على القرابة الأسرية (في الأسرة النواتية ، كما في الأسرة الممتدّة) . إضافةً إلى القرابة الناجمة عن المصاهرات المتبادلة. علمًا أن المجتمعات الغربية بعامة هي على خلاف ذلك ، إذْ تطغى لديها النزعة الفردية ، كما البراغماتية العملانية .
هذا التوصيف للعلاقات الإنسانية لدينا ، يُتيحُ فهم تعاطينا ملف النزوح أو اللجوء السوري إلى لبنان ، والذي بدأ مع انطلاق شرارة الأحداث الدموية في العام 2011 ، واستمرّ عبر موجات من النزوح ، بحيث بات عددُ النازحين الذي يقرب من نصف عدد اللبنانيين المقيمين ، بحسب الإحصاءات غير الرسمية . ولنا العودة ، في هذا المجال ، إلى العميد د. علي فاعور، فلديهِ الخبرُ اليقين . علمًا أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تتعاطَ بجديّة مع هذا الملف ، ولم تعتمد خطّة لإدارته ، فكان أن تركت الأمور على غاربها ، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه راهنًا .
في تاريخية العلاقات الإنسانية بين الشعبين اللبناني والسوري
لقد كان للجغرافيا ، كما للديموغرافيا ، أن تكرّسا علاقات متميِّزة بين سوريا ولبنان ، على مستوى الدولة ، وبين شعبيهما ، وهي علاقاتٌ ترقى إلى مئات السنين . فعلى المستوى الجغرافي ثمة تداخلٌ بين البلدات والقرى الواقعة على جانبي الحدود اللبنانية – السورية ، مما أسهم في تكريس عادات وتقاليد وأنماط عيش موحّدة ، ناهيك عن اقتصادٍ مُتداخل بين سكّان هذه البلدات والقرى. وكان جرّاء ذلك علاقاتٌ بينيّة ، عمّدتها زيجاتٌ متبادلة ، مما وثّق من علاقات القُربى بين قاطني هذه المناطق .
وإلى ذلك كان لسوريا ولبنان أن يُشكِّلا ، لدى فئات مجتمعية واسعة، لاسيما المسلمين ، العمق النفسي لكليهما ، إذا جاز التعبير . مع الأخذ بعين النظر أن المناطق التي نزح إليها السوريون في لبنان ، كانت تُشكِّل ، قبل قيام الكيان اللبناني، جزءًا من بلاد الشام . ويبدو ذلك جليًّا ، على سبيل المثال لا الحصر ، عبر العلاقة القائمة بين طرابلس وبين الداخل السوري (حمص ، حماة، حلب إلخ ) . ناهيك عن العلاقة القائمة بين وادي النصارى في سوريا والعديد من القرى العكارية ، ذات الحضور المسيحي .
وإذا كان للعلاقة الدولتية بين سوريا ولبنان أن تشهد مدًّا وجزرًا ، خلال العقود الماضية ، فإن ذلك لم يترك سوى أثر محدود على العلاقة بين الشعبين.
ففي الملمّات كانت سوريا تُشكِّل ملجأ للبنانيين ، وعلى سبيل المثال ، زمن الحرب الأهلية اللبنانية ، أو حرب السنتين 1975 – 1976 ، حيث لجأ الكثير من العائلات اللبنانية إلى سوريا . وبالمقابل ، هذا ما جرى عند اندلاع الحرب الدموية في سوريا ، في العام 2011 ، بين النظام السوري ومعارضيه، فتدفّق الآلاف من العائلات السورية إلى لبنان ، وتحديدًا للمناطق المحاذية ، والتي توفّر لهم إقامة مطمئنة .

إِستطالت الحرب السورية .. وكانت الطّامةُ الكبرى على لبنان
ما تصنعه الجغرافيا والديموغرافيا – والدينوغرافيا (التعبير للصحافي علي شندب) ، يمكنُ أن يِكبحَهُ تضاربُ المصالح ، كما المخاطر الوجوديّة، حالَ وُجدت ، أو بَدَت نُذرُها في الأفق !
لقد كان للبنانيين – وليس للبنان الغائب عن الرؤيا والسمع- أن يتعاطوا بإيجابية ، وبما تفرضه أصول الضيافة والحسّ الإنساني ، مع العائلات الهاربة من جحيم الحرب السورية في بلدها ، وذلك انطلاقًا من العلاقات الإنسانية المرسّخة بين الشعبين .
ولقد كانت الحصة الكبرى للنزوح (اللجوء) السوري لمحافظتيْ الشمال والبقاع ، وهما المحاذيتان ، جغرافيًا ، لسوريا . فبين عامي 2011 و 2014، أي إِبان تدفّق الموجات الأولى ، بلغ عدد النازحين إلى لبنان 38 % من مجمل عدد النازحين الذين قصدوا ، إلى لبنان ، الأردن وتركيا .
فعلى مستوى محافظة الشمال ، كان النصيب الأكبر لمنطقة عكار، إذْ تقاسَمَ العكاريون لقمة العيش مع النازحين ، ورأوا إليهم ضيوفًا ، بادئ الأمر، ظنًّا منهم أن إقامتهم لن تطول . علمًا أن لدى كثيرين من هؤلاء النازحين أواصر قُربى مع سكان المنطقة . ووفق الإحصاءات الأوّلية “التقديرية” ، فإن بعض القرى والبلدات العكارية ، تجاوزت أعداد السوريين فيها أعداد المقيمين اللبنانيين . وكذا الأمر بالنسبة لمنطقة البقاع . وعلى سبيل المثال – وهو مثال فاقع – فإن النازحين السوريين في بلدة عرسال يبلغ عددهم ثلاثة أضعاف أهل هذه البلدة من اللبنانيين .
ولقد كان لرعاية المنظمات الدولية أن تُسهم ، عبر المساعدات التي كانت تُقدِّمها ، من عينية ومالية ، أن تخلق دورة اقتصادية أفاد منها بعض سكّان المنطقتين (الشمال والبقاع ) من اللبنانيين .
مسألة ٌ ينبغي ألا تغيب عنّا ، في مقاربتنا العلاقة الإنسانية بين سكّان المنطقتين وبين النازحين ، وهي تتعلّق بطبيعة هذا النزوح وانتمائه الديني . فالنزوح السوري إلى لبنان هو ، بغالبيتِهِ الساحقة ، نزوحٌ إسلاميٌّ سُنِّي ، والمناطق التي حلَّ فيها هي مناطق يغلب عليها المذهبُ السُنِّي .
هذه المسألة يجب أن تُعار ما تستحقّه ، تعزيزًا لصُدقية ما نذهب إليه . فمن منظور الدين الإسلامي ، فإن من أهم تعاليمه رعاية حقوق الآخرين وتقديم الخير لهم . فكثير من النصوص الشرعية ، المستندة إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، يُعلي من شأن مراعاة المسلم لعلاقته بالآخر وأداء حقوقه . ومن هذه الأحاديث النبوية ، قول النبي محمد (ص) ، في شأن حقّ الجيران والضيوف : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرمْ ضيفه ! ” .
إذًا انطلاقًا من اعتبار السوريين ضيوفًا ، وإخوةً في الدين والمذهب ، كان التعاطي الإيجابي معهم ، بادئ الأمر . مع الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع المضيف ، هو مجتمع إسلامي محافظ ، أي أكثر استمساكًا بتعاليم الدين من المجتمع المديني .
من هنا وجد النازحون السوريون محضنًا لهم في المجتمعات الإسلامية، مع الإشارة إلى أن المجتمعات أو المناطق المسيحية تقبّلتهم في مناطقها ، كيدٍ عاملة رخيصة ، وكعاملين في مهن يبرعُ فيها السوريون أكثر من اللبنانيين!
الأزمة اللبنانية المصيرية الوجودية ودورها في تظهير ملف النزوح السوري !
مع الانهيار الذي يشهدُهُ لبنان راهنًا ، والذي شارف حدود الأزمة المصيرية الوجودية ، بفعل منظومة الفساد والإفساد ، التي أفلست الدولة ، بنَهبها المال العام ، والسطو على أموال المودعين ، من مقيمين ومغتربين، وتطفيش مئات آلاف الشباب اللبناني المتعلّم والمتخصّص ، في أربع جهات الأرض ، بحثًا عن فرص للعيش الكريم ، مع هذا الانهيار استفاق اللبنانيون على مخاطر النزوح السوري ، الذي أضاف عبئًا ثقيلاً على العبء الأكبر ، المترتِّب عن الأزمة العامة ، التي تتصاعد في وتائرها.
ومن تجلّيات هذا العبء السوري الازدياد المطّرِد لأعداد النازحين . وبمعزل عن دوّامة الأرقام ، في بلدٍ لديه جهلٌ عميم بالأرقام وحساسيةٌ أيضًا، فإن هذا النزوح بات يُشكِّلُ معضلة كأداء ، تتنازعها أطرافٌ عديدة ، من محليّة وإقليمية ودولية ، وصولاً إلى الأمم المتحدة ، بمنظّماتها ، التي يتهمها الجانب اللبناني بأنها تشجع النازحين على عدم العودة إلى مناطقهم ، طالما لم تتوفَّر الظروف الآمنة لهذه العودة . بل تسعى إلى دمجهم في المجتمع اللبناني .
في ظل دخول ملف النازحين بازار الأفرقاء السياسيين في لبنان ، راحت العلاقة الإنسانية بين النازحين ومضيفيهم تنقلبُ رأسًا على عقِب ، فإذا بضيوف الأمس حملٌ ثقيل على فئات واسعة من اللبنانيين ، ومصدرُ خطر وجودي ، لدى بعض الفئات ، التي تعيش هاجس الديموغرافيا ، عبر طغيان الطائفة السُنيّة ، في حال جرى دمج النازحين او توطينهم في لبنان .
هكذا استحالت العلاقات الإنسانية علاقات عدائية ، وكانت مُجاهرة في تطهير هذا العداء . وقد جاء من يصبُّ الزيت على نار هذه الحالة المستجدّة . فقد كان لأحد قادة المعارضة السورية د. كمال اللبواني ، المقيم في السويد، أن يدعو السوريين ، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، إلى حمل السلاح ، وذلك بعد إبعاد الأمن العام اللبناني عددًا من النازحين إلى سوريا . وقد جاءت هذه الدعوة “شحمة على فطيرة” ، وفق التعبير الشعبي ، فكان أن دعا نائب رئيس الاتحاد العمالي العام السيد مارون خولي “لمواجهة غطرسة المحتل” ، وذلك في إطار الحملة التي تم إطلاقُها تحت مُسمّى “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديمغرافي السوري ” . وهذه الحملة أتت في سياق الردّ على دعوة النازحين السوريين للتجمّع والتظاهر أمام المفوضية العليا للاجئين” في بيروت في 26 نيسان 2023 ، رفضًا لعمليات الترحيل التي تجري بحق بعضهم .
.. هذا التحوّل في العلاقات الإنسانية ليس مستجدًّا ، بل بدأت تباشيرهُ في العام 2014 . ففي سجل التوترات بين النازحين السوريين واللبنانيين ، يتبيّن أن “المفوضية السامية للأمم المتحدة” قامت ، في حزيران وتموز من هذا العام بدراسة 446 منطقة ، تستضيف النازحين في لبنان ، فوجدت أن 61 % من المخيمات أقرّت بحصول حوادث توتر أو عُنف ، مُتعلقة بالنازحين خلال الأشهر الستة السابقة لتاريخ الاستطلاع ، أي منذ بداية 2014 .
هكذا ، فإنّ تنامي مشاعر العداء للنازحين السوريين ، كانت تسير على إيقاع ضيق فرص العمل أمام اللبنانيين ، حتى وصلت الذروة مع تصاعد الأزمة الطاحنة ، التي لا زلنا نعيش فصولها المتدرجّة صعودًا .
في مواجهة المعضلة ، ما العمل ؟
في ظل المصالحات العربية العربية ، وتبريد أجواء الصراع الإقليمي ، وما تمخّض عنها من إعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية ، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية ، ومن منطلق الشعار ، الذي تجري تحته ورشة عملنا “خِدمةً لسوريا ولبنان” ، تتطارح معكم المقترحات الآتية :
أولاً : تحييد ملف النازحين السوريين عن السجال السياسي بين الأفرقاء المتصارعين ، وعدم إقحامه في “بازار” المزايدات الشعبوية ، إذْ من شأن ذلك تسعير النزوعات الطائفية والعصبوية ، من هنا وهناك .
وفي هذا المجال ، نستعيد كلمة للوزير ناصر ياسين ، في العام 2017، قالها قبل توليه وزارة البيئة : “تصوّر أن تخرج الأمور عن السيطرة ، تلك وصفة لحرب أهلية ! ” .
ثانيًا : دعوة الحكومة اللبنانية إلى حزم أمرها ، فتكون رؤيا موحّدة وجدِّية ، ولمرة أخيرة ، حول تعاطي هذا الملف ، والإفادة من الأجواء الإيجابية التي تسود المنطقة ، فيتمّ التواصل مع الدولة السورية ، بمساعدة عربية (جامعة الدول العربية) ، فالدولتان ، سوريا ولبنان ، هما المعنيتان أولاً وأخيرًا بمعالجة الملف .
ثالثًا : السعي إلى حلّ ملف النازحين بهدوء ورويّة ، وعدم تشنّج ، وبشيء من المحبة ، ذات البُعد الاستراتيجي ، ذلك أنَّ البلدين محكومان بأن يكونا على وئام وفي تعايش ، لاسيما أنَّ للجغرافيا والديموغرافيا الكلمة الفصل! .
***
*مُدليًا بمداخلة حول :”تداعيات النزوح السوري على العلاقات الإنسانية اللبنانية-السورية”، في”المركز الكاثوليكي للإعلام”، في إطار ورشة علمية متخصّصة، نظّمها “منتدى التفكير الوطني”.