في مفهوم العلاقات الإنسانية ومرتكزاتها

Views: 351

د. مصطفى الحلوة

مفهوم أو مصطلح العلاقات الإنسانية يتمحور حول أساليب التعامل بين الناس وتفاعلهم ، في شتى  جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. هذه العلاقات ، مُرتكزها الإعتراف بكرامة كل فرد واحترامُها وصونُها ، وللجانب العاطفي حضورٌ في هذا المجال .

وإلى ذلك ، وبعيدًا من الجانب الإنساني العاطفي ، فإنّ هذه العلاقات محكومةٌ بقوانين وأعراف ومنظومات قيم .

تأسيسًا على ما تقدّم ، وفي رصدٍ للعلاقات الإنسانية ، في مجتمعاتنا العربية والشرقية ، نرى أنّ لمنظومات القيم الأخلاقية والدينية دورًا فاعلاً في هذه العلاقات ، التي يقوم بعضها على القرابة الأسرية (في الأسرة النواتية ، كما في الأسرة الممتدّة) . إضافةً إلى القرابة الناجمة عن المصاهرات المتبادلة. علمًا أن المجتمعات الغربية بعامة هي على خلاف ذلك ، إذْ تطغى لديها النزعة الفردية ، كما البراغماتية العملانية .

هذا التوصيف للعلاقات الإنسانية لدينا ، يُتيحُ فهم تعاطينا ملف النزوح أو اللجوء السوري إلى لبنان ، والذي بدأ مع انطلاق شرارة الأحداث الدموية في العام 2011 ، واستمرّ عبر موجات من النزوح ، بحيث بات عددُ النازحين الذي يقرب من نصف عدد اللبنانيين المقيمين ، بحسب الإحصاءات غير الرسمية . ولنا العودة ، في هذا المجال ، إلى العميد د. علي فاعور، فلديهِ الخبرُ اليقين . علمًا أن الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تتعاطَ بجديّة مع هذا الملف ، ولم تعتمد خطّة لإدارته ، فكان أن تركت الأمور على غاربها ، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه راهنًا .

في تاريخية العلاقات الإنسانية بين الشعبين اللبناني والسوري

لقد كان للجغرافيا ، كما للديموغرافيا ، أن تكرّسا علاقات متميِّزة بين سوريا ولبنان ، على مستوى الدولة ، وبين شعبيهما ، وهي علاقاتٌ ترقى إلى مئات السنين . فعلى المستوى الجغرافي ثمة تداخلٌ بين البلدات والقرى الواقعة على جانبي الحدود اللبنانية – السورية ، مما أسهم في تكريس عادات وتقاليد وأنماط عيش موحّدة ، ناهيك عن اقتصادٍ مُتداخل بين سكّان هذه البلدات والقرى. وكان جرّاء ذلك علاقاتٌ بينيّة ، عمّدتها زيجاتٌ متبادلة ، مما وثّق من علاقات القُربى بين قاطني هذه المناطق .

وإلى ذلك كان لسوريا ولبنان أن يُشكِّلا ، لدى فئات مجتمعية واسعة، لاسيما المسلمين ، العمق النفسي لكليهما ، إذا جاز التعبير . مع الأخذ بعين النظر أن المناطق التي نزح إليها السوريون في لبنان ، كانت تُشكِّل ، قبل قيام الكيان اللبناني، جزءًا من بلاد الشام . ويبدو ذلك جليًّا ، على سبيل المثال لا الحصر ، عبر العلاقة القائمة بين طرابلس وبين الداخل السوري (حمص ، حماة، حلب إلخ ) . ناهيك عن العلاقة القائمة بين وادي النصارى في سوريا والعديد من القرى العكارية ، ذات الحضور المسيحي .

وإذا كان للعلاقة الدولتية بين سوريا ولبنان أن تشهد مدًّا وجزرًا ، خلال العقود الماضية ، فإن ذلك لم يترك سوى أثر محدود على العلاقة بين الشعبين.

ففي الملمّات كانت سوريا تُشكِّل ملجأ للبنانيين ، وعلى سبيل المثال ، زمن الحرب الأهلية اللبنانية ، أو حرب السنتين 1975 – 1976 ، حيث لجأ الكثير من العائلات اللبنانية إلى سوريا . وبالمقابل ، هذا ما جرى عند اندلاع الحرب الدموية في سوريا ، في العام 2011 ، بين النظام السوري ومعارضيه، فتدفّق الآلاف من العائلات السورية إلى لبنان ، وتحديدًا للمناطق المحاذية ، والتي توفّر لهم إقامة مطمئنة .

مع سيادة المطران أنطوان العنداري، والشيخ منصور خوري، والعميد.علي فاعور، ود. ليندا غدّار، ود. نبيل سرور، وسعادة السفير منصور عبد الله.

 

إِستطالت الحرب السورية .. وكانت الطّامةُ الكبرى على لبنان

ما تصنعه الجغرافيا والديموغرافيا – والدينوغرافيا (التعبير للصحافي علي شندب) ، يمكنُ أن يِكبحَهُ تضاربُ المصالح ، كما المخاطر الوجوديّة، حالَ وُجدت ، أو بَدَت نُذرُها في الأفق !

لقد كان للبنانيين – وليس للبنان الغائب عن الرؤيا والسمع- أن يتعاطوا بإيجابية ، وبما تفرضه أصول الضيافة والحسّ الإنساني ، مع العائلات الهاربة من جحيم الحرب السورية في بلدها ، وذلك انطلاقًا من العلاقات الإنسانية المرسّخة بين الشعبين .

ولقد كانت الحصة الكبرى للنزوح (اللجوء) السوري لمحافظتيْ الشمال والبقاع ، وهما المحاذيتان ، جغرافيًا ، لسوريا . فبين عامي 2011 و 2014، أي إِبان تدفّق الموجات الأولى ، بلغ عدد النازحين إلى لبنان 38 % من مجمل عدد النازحين الذين قصدوا ، إلى لبنان ، الأردن وتركيا .

فعلى مستوى محافظة الشمال ، كان النصيب الأكبر لمنطقة عكار، إذْ تقاسَمَ العكاريون لقمة العيش مع النازحين ، ورأوا إليهم ضيوفًا ، بادئ الأمر، ظنًّا منهم أن إقامتهم لن تطول . علمًا أن لدى كثيرين من هؤلاء النازحين أواصر قُربى مع سكان المنطقة . ووفق الإحصاءات الأوّلية “التقديرية” ، فإن بعض القرى والبلدات العكارية ، تجاوزت أعداد السوريين فيها أعداد المقيمين اللبنانيين . وكذا الأمر بالنسبة لمنطقة البقاع . وعلى سبيل المثال – وهو مثال فاقع – فإن النازحين السوريين في بلدة عرسال يبلغ عددهم ثلاثة أضعاف أهل هذه البلدة من اللبنانيين .

ولقد كان لرعاية المنظمات الدولية أن تُسهم ، عبر المساعدات التي كانت تُقدِّمها ، من عينية ومالية ، أن تخلق دورة اقتصادية أفاد منها بعض سكّان المنطقتين (الشمال والبقاع ) من اللبنانيين .

مسألة ٌ ينبغي ألا تغيب عنّا ، في مقاربتنا العلاقة الإنسانية بين سكّان المنطقتين وبين النازحين ، وهي تتعلّق بطبيعة هذا النزوح وانتمائه الديني . فالنزوح السوري إلى لبنان هو ، بغالبيتِهِ الساحقة ، نزوحٌ إسلاميٌّ سُنِّي ، والمناطق التي حلَّ فيها هي مناطق يغلب عليها المذهبُ السُنِّي .

هذه المسألة يجب أن تُعار ما تستحقّه ، تعزيزًا لصُدقية ما نذهب إليه . فمن منظور الدين الإسلامي ، فإن من أهم تعاليمه رعاية حقوق الآخرين وتقديم الخير لهم . فكثير من النصوص الشرعية ، المستندة إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، يُعلي من شأن مراعاة المسلم لعلاقته بالآخر وأداء حقوقه . ومن هذه الأحاديث النبوية ، قول النبي محمد (ص) ، في شأن حقّ الجيران والضيوف : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرمْ ضيفه ! ” .

إذًا انطلاقًا من اعتبار السوريين ضيوفًا ، وإخوةً في الدين والمذهب ، كان التعاطي الإيجابي معهم ، بادئ الأمر . مع الأخذ بعين الاعتبار أن المجتمع المضيف ، هو مجتمع إسلامي محافظ ، أي أكثر استمساكًا بتعاليم الدين من المجتمع المديني .

من هنا وجد النازحون السوريون محضنًا لهم في المجتمعات الإسلامية، مع الإشارة إلى أن المجتمعات أو المناطق المسيحية تقبّلتهم في مناطقها ، كيدٍ عاملة رخيصة ، وكعاملين في مهن يبرعُ فيها السوريون أكثر من اللبنانيين!

الأزمة اللبنانية المصيرية الوجودية ودورها في تظهير ملف النزوح السوري !

مع الانهيار الذي يشهدُهُ لبنان راهنًا ، والذي شارف حدود الأزمة المصيرية الوجودية ، بفعل منظومة الفساد والإفساد ، التي أفلست الدولة ، بنَهبها المال العام ، والسطو على أموال المودعين ، من مقيمين ومغتربين، وتطفيش مئات آلاف الشباب اللبناني المتعلّم والمتخصّص ، في أربع جهات الأرض ، بحثًا عن فرص للعيش الكريم ، مع هذا الانهيار استفاق اللبنانيون على مخاطر النزوح السوري ، الذي أضاف عبئًا ثقيلاً على العبء الأكبر ، المترتِّب عن الأزمة العامة ، التي تتصاعد في وتائرها.

ومن تجلّيات هذا العبء السوري الازدياد المطّرِد لأعداد النازحين . وبمعزل عن دوّامة الأرقام ، في بلدٍ لديه جهلٌ عميم بالأرقام وحساسيةٌ أيضًا، فإن هذا النزوح بات يُشكِّلُ معضلة كأداء ، تتنازعها أطرافٌ عديدة ، من محليّة وإقليمية ودولية ، وصولاً إلى الأمم المتحدة ، بمنظّماتها ، التي يتهمها الجانب اللبناني بأنها تشجع النازحين على عدم العودة إلى مناطقهم ، طالما لم تتوفَّر الظروف الآمنة لهذه العودة . بل تسعى إلى دمجهم في المجتمع اللبناني .

في ظل دخول ملف النازحين بازار الأفرقاء السياسيين في لبنان ، راحت العلاقة الإنسانية بين النازحين ومضيفيهم تنقلبُ رأسًا على عقِب ، فإذا بضيوف الأمس حملٌ ثقيل على فئات واسعة من اللبنانيين ، ومصدرُ خطر وجودي ، لدى بعض الفئات ، التي تعيش هاجس الديموغرافيا ، عبر طغيان الطائفة السُنيّة ، في حال جرى دمج النازحين او توطينهم في لبنان .

هكذا استحالت العلاقات الإنسانية علاقات عدائية ، وكانت مُجاهرة في تطهير هذا العداء . وقد جاء من يصبُّ الزيت على نار هذه الحالة المستجدّة . فقد كان لأحد قادة المعارضة السورية د. كمال اللبواني ، المقيم في السويد، أن يدعو السوريين ، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، إلى حمل السلاح ، وذلك بعد إبعاد الأمن العام اللبناني عددًا من النازحين إلى سوريا . وقد جاءت هذه الدعوة “شحمة على فطيرة” ، وفق التعبير الشعبي ، فكان أن دعا نائب رئيس الاتحاد العمالي العام السيد مارون خولي “لمواجهة غطرسة المحتل” ، وذلك في إطار الحملة التي تم إطلاقُها تحت مُسمّى “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديمغرافي السوري ” . وهذه الحملة أتت في سياق الردّ على دعوة النازحين السوريين للتجمّع والتظاهر أمام المفوضية العليا للاجئين” في بيروت في 26 نيسان 2023 ، رفضًا لعمليات الترحيل التي تجري بحق بعضهم .

.. هذا التحوّل في العلاقات الإنسانية ليس مستجدًّا ، بل بدأت تباشيرهُ في العام 2014 . ففي سجل التوترات بين النازحين السوريين واللبنانيين ، يتبيّن أن “المفوضية السامية للأمم المتحدة” قامت ، في حزيران وتموز من هذا العام بدراسة 446 منطقة ، تستضيف النازحين في لبنان ، فوجدت أن 61 % من المخيمات أقرّت بحصول حوادث توتر أو عُنف ، مُتعلقة بالنازحين خلال الأشهر الستة السابقة لتاريخ الاستطلاع ، أي منذ بداية 2014 .

هكذا ، فإنّ تنامي مشاعر العداء للنازحين السوريين ، كانت تسير على إيقاع ضيق فرص العمل أمام اللبنانيين ، حتى وصلت الذروة مع تصاعد الأزمة الطاحنة ، التي لا زلنا نعيش فصولها المتدرجّة صعودًا .

في مواجهة المعضلة ، ما العمل ؟

في ظل المصالحات العربية العربية ، وتبريد أجواء الصراع الإقليمي ، وما تمخّض عنها من إعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية ، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية ، ومن منطلق الشعار ، الذي تجري تحته ورشة عملنا “خِدمةً لسوريا ولبنان” ، تتطارح معكم المقترحات الآتية :

أولاً : تحييد ملف النازحين السوريين عن السجال السياسي بين الأفرقاء المتصارعين ، وعدم إقحامه في “بازار” المزايدات الشعبوية ، إذْ من شأن ذلك تسعير النزوعات الطائفية والعصبوية ، من هنا وهناك .

وفي هذا المجال ، نستعيد كلمة للوزير ناصر ياسين ، في العام 2017، قالها قبل توليه وزارة البيئة : “تصوّر أن تخرج الأمور عن السيطرة ، تلك وصفة لحرب أهلية ! ” .

ثانيًا : دعوة الحكومة اللبنانية إلى حزم أمرها ، فتكون رؤيا موحّدة وجدِّية ، ولمرة أخيرة ، حول تعاطي هذا الملف ، والإفادة من الأجواء الإيجابية التي تسود المنطقة ، فيتمّ التواصل مع الدولة السورية ، بمساعدة عربية (جامعة الدول العربية) ، فالدولتان ، سوريا ولبنان ، هما المعنيتان أولاً وأخيرًا بمعالجة الملف .

ثالثًا : السعي إلى حلّ ملف النازحين بهدوء ورويّة ، وعدم تشنّج ، وبشيء من المحبة ، ذات البُعد الاستراتيجي ، ذلك أنَّ البلدين محكومان بأن يكونا على وئام وفي تعايش ، لاسيما أنَّ للجغرافيا والديموغرافيا الكلمة الفصل! .

***

*مُدليًا بمداخلة حول :”تداعيات النزوح السوري على العلاقات الإنسانية اللبنانية-السورية”، في”المركز الكاثوليكي للإعلام”، في إطار ورشة علمية متخصّصة، نظّمها “منتدى التفكير الوطني”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *