المعلّم بطرس البستاني خطبة في آداب العرب في الذكرى المائة والأربعين لوفاته

Views: 707

صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “المعلّم بطرس البستاني خطبة في آداب العرب” في الذكرى المائة والأربعين لوفاته.  قدّم لهذه الطبعة وأعدّها سليمان بختي. في ما يلي ما جاء في الخطبة.

 

خطبة في آداب العرب للمعلم بطرس البستاني عُفي عنه

أيها السادة

الموضوع آداب العرب وإن شيتم فقولوا علوم العرب أو فنون العرب أو معارف العرب. ولكن قبل الشروع في الكلام على هذا الموضوع الذي ينبغي أن يكون لذيذا ومفيدا لكل من له رغبة في الوقوف مدققا على حقائق الأمور يلزمنا أن نذكر بعض قضايا نظير مقدمات له وذلك على وجه الإختصار فنقول.

أولا أن العلوم من شأنها النمو بالتدريج كالحيوان والنبات. ومع أن هذا النمو قد يكون جزئيا في عقل واحد لا بد من إجتماع عقول كثيرة للحصول على المطلوب على أحسن منوال بحيث تكون نتائج بحث وجهاد العقل الواحد في أمر ما ميسورة الحصول لعقل آخر أو اكثر. وهذا الإجتماع لا يتيسر الحصول عليه من دون إجتماع القبائل والشعوب وإمتزاجهم معا بحيث لا يفوت قوما فوائد قوم آخرين وكذلك من شأن العلوم أن لا تورث خلافا للأملاك والنقود بل إنما تستلزم إجتهادا شخصيا. وهي كالضيوف لا تثبت إلا عند من قام بحق ضيافتها.

ثانيا إن العقل البشري إنما يحصل العلوم بواسطة الحواس على سبيل التعلم والإستقراء ومن شأنه أن لا يسع أمورا متضادة في وقت واحد. ومن ثم كان لا يمكن إجتماع العلم والرذيلة معا وبما أن العقل لا يجد في تحصيل شيء إلا لغاية ولا يحتمل مشقة إلا إذا كانت لذة ما يطلبه أقوى منها قلما تطلب العلوم لذاتها. والعقل قد يكون في حالة السبات أو الإنتباه من هذا القبيل. ولا يخفى أن المناخ والعادات الخصوصية لها تأثير شديد في العقل من هذا القبيل وأنه يوجد تفاوت في العقول من جهة الإستعداد للعلوم بين قوم وقوم كما يوجد بين الأفراد. وما أشد تأثير الميل والحكم السابق في العقل من جهة تحصيل العلوم ومعرفة الحقايق.

ثالثا لا بد للعقل من وسايط إسعافية خارجة منه لإكتساب العلوم. فمن أعظم من هذه الوسايط الإنتقال والسياحة من مكان إلى مكان ومطالعة الكتب ووجود الآلات التي لا يمكن الحواس التوصل إلى المطلوب بدونها والأسباب المحركة التي تنبه العقل وترغبه في ذلك والمثال والحماسة المنغرسة طبعا في الإنسان. ولا يخفى أن حرية الفكر هي من أكبر المطلوبات لإدراك الحقايق وتحصيل العلوم لأن الفكر المستعبد لا يمكن أن يكون فيه إستعداد كما يجب للعلوم. وبما أن الخطب تحسب وقد وجدت في البلدان المتمدنة من اكبر الوسايط وأحسنها لنشر المعارف بين العموم قد تحرك البعض من الذوات المعتبرين من سكان هذه البلدة من إفرنج وأبناء عرب إلى الإنتظام في عمدة تعرف بعمدة الخطابات لأجل تمكين الطلبة الراغبين من الحصول على هذه الواسطة. وبإستدعاء وطلب هذه العمدة قد وقفت الآن أمام سيادتكم لأجل صرف حصة من الوقت في البحث عن الموضوع المتقدم ذكره وهو آداب العرب فأقول أننا كثيرا ما نسمع أبناء العرب يتباهون متفاخرين بكون أجدادهم الأقدمين هم الذين أنعموا على العالم بالعلوم والفنون مع ان الأكثرين منهم لم يتيسر لهم الوقوف على الحقيقة. ونحن شديدو الإعتقاد بصحة قول بعض الأفاضل:

لا تقل أصلي وفصلي أبدا  إنما أصل الفتى ما قد حصل

وبأن وصول أجدادنا إلى أعلى طبقة من العلوم لا يجعلنا علماء ولا يوجب لنا حق الإفتخار إذا لم نكن نحن أنفسنا كذلك. فقد رأينا أن نذكر بعض قضايا تاريخية من هذا القبيل يتبين منها مقدار جهاد المتقدمين ودرجة فضلهم في هذا الأمر ويستعين بها المتأخرون من أبناء هذا الزمان على الوقوف على الحقيقة وعسى أن تكون وسيلة لحثهم وترغيبهم في أقتفاء آثار أسلافهم. وقد قسمنا خطابنا هذا إلى ثلاثة أقسام وهي الآتية:

القسم الأول: في حالة العلوم بين العرب قبل ظهور الإسلام

إن العرب قبل ظهور الإسلام أي في أيام الجاهلية كانوا قوما أميين لا يعرفون القراءة والكتابة إلا القليل منهم. والعلوم التي كانوا يتفاخرون بها فهي علم لسانهم وأحكام لغتهم ونظم الأشعار وتأليف الخطب. وكان لهم مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لإحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا عن طريق تعلم الحقايق. ومع أن الله لم يمنحهم شيء من علم الفلسفة ولا هيأ طبايعهم للعناية به كانوا في أعلى طبقة من نباهة الفكر وفصاحة اللسان وسرعة الخاطر حتى أنهم كانوا يأتون إرتجالا بما لا يقدر عليه غيرهم بعد التروية والإستعداد. والذي ساعدهم على ذلك شدة محبتهم للغزو والغارات والمفاخرة في الكلام نظما ونثرا مع حسن البلاد التي قطنوها. وقد كانوا إذ ذاك أهل مدر وهم سكان المدن والقرى وكانوا يحاولون المعيشة من الزرع والنخيل والماشية والضرب في الأرض للتجارة وأهل بر وهم سكان الصحارى وكانوا يعيشون من ألبان الإبل ولحومها منتجعين لمنابت الكلأ مرتادين لمواقع النظر فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي ثم يتوجهون من هناك في طلب العشب وابتغاء المياه فلا يزالون في حل وترحال كما بعضهم عن ناقته:

تقول إذا ذرأت لها وضيني    أهذا دينه أبدا وديني
أكل الدهر حل وإرتحــــــــــــــــــال       أما يبقي علي ولا يقيني

وكان ذلك دأبهم زمان الصيف والربيع فإذا جاء الشتاء وإقشعرت الأرض وإنكمشوا إلى أرياف العراق وأطراف الشام فتشوا هناك مقاسين جهد الزمان ومصطبرين على بؤس العيش.

قيل وكان العرب في تلك الأيام يجتمعون كل سنة في سوقي مكة وعكاظ يقيمون هناك شهرا وقيل عشرين يوما يتبايعون ويتناشدون الأشعار ويتفاخرون فيها. وكانوا اذا إنتهوا من ذلك يكتبون أشعار الفيئة الظافرة بأحرف ذهبية على نسيج من الحرير المصري ويعلقون ذلك على الحجر الأسود في الكعبة. ومن ثم سميت تلك الأشعار بالمذهبات والمعلقات. ومما وصل إلينا من أشعارهم المعلقات السبع المشهورة وهي أشهرها. ولم يزل ذلك دأب العرب حتى ظهر الإسلام في أوايل القرن السابع للمسيح فآمن قوم منهم وحدثت بين من آمن ومن لم يؤمن حروب ومنازعات كثيرة لا محل لذكرها هنا. والتاريخ لا يساعدنا كثيرا على الوقوف جليا على حقيقة حالهم من هذا القبيل لتقادم عيدهم وعدم اعتنايهم في هذا الفن اللطيف.

 القسم الثاني في حالة العلوم بين العرب والإسلام

قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي أن العرب في صدر الإسلام لم تعتن بشيء من العلوم الا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا صناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا إليها. ولا يخفى أن إشتغال العرب في تلك الأيام بالحروب وفتح الأقاليم والبلدان وشدة ميلهم إلى الغزو والغارات وفرط عنايتهم في توسيع دايرة حكمهم آلهتهم عن الإلتفات إلى الآداب والعلوم. قيل أنه لما فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية سنة 640 للمسيح في خلافة عمر بن الخطاب وذلك بعد محاصرتها مدة مستطيلة تقد إليه يحيى الإسكندري اليعقوبي المعروف بالنحوي وقال له يوما بعد ملازمته إياه وتقربه إليه أنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأصناف الموجودة بها. فما لك به إنتفاع لا أعارضك فيه وما لا إنتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو وما الذي تحتاج إليه قال كتب الحكمة التي في الخزاين الملوكية فقال له عمرو لا يمكنني أن أمن بها إلا بعد إستئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكتب عمرو إلى عمر وعرفه قول يحيى فورد عليه كتاب عمر يقول فيه وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله غنى عنه وإن كان ما فيها يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها. فلما وصله كتاب أمير المؤمنين شرع في تفريقها على حمامات الإسكندرية واحراقها في مواقدها فإستوقدت بها مدة طويلة. قيل وكان عدد كتبها اربعماية الف كتاب. قال احد المؤرخين عند روايته هذ القصة ما جرى واعجب. واذا صح ان هذه الخزانة المسماة بتحف خانة سرابيون كانت تشتمل على كتب علوم الهند ومصر واليونان كان احراقها خسارة عظيمة لا يمكن تعويضها. ولا بد من ان العرب عندما استفاقوا من غفلة الجهل والغباوة بعد تلك الحادثة بقليل يكونون قد شاركوا بقية العالم في حاسيات الحزن والأسف على فقد هذه الخزنة المعتبرة التي بذل البطليموسية والقياصرة اموالا جسيمة في جمعها. وذلك برهان على صحة ما ذكرناه من كلام القاضي المذكور من ان العرب في صدر الإسلام لم تعتن بشيء من العلوم وانهم لم يكونوا يعتبرون شيئا من الكتب إلا القرآن. ولكن نفورهم من الامور العلمية كان يتناقض بالتدريج بقدر امتداد ديانتهم وملكهم. ولا ريب ان امتلاكهم للبلدان السعيدة التي كانت مقرا للذوق والرونق القديم ولدت فيهم روح لطف وتمدن. فكان تقدمهم في هذا الامر سريعا وعجيبا كما كان في ميادين الحرب. ولما كان الجهل والتبرير مستوليين بسطوة شديدة على كل قسم من البلدان الإفرنجية وذلك بسبب الحروب الثايرة والمنازعات المتمكنة بين ملوكها ورعاياها بحيث لم يبق للعلوم والآداب سوق ولا محام وجدت العلوم والفنون في مدارس العرب ملجأ تستظل فيه مرتاعة من غدر تلك الأزمان وغباوة تلك الأجيال المظلمة.  ومع أن آداب اليونان إقتضى لها اتعاب متوالية مدة ثمانماية سنة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أيام باركليس نرى أن رغبة العرب ونشاطهم في إكتساب العلوم ونجاحها كانا شديدين بهذا المقدار حتى أنه لم يمض إلا ماية سنة أو أكثر قليلا بين أعمق توحشهم وبربريتهم وبين إمتداد العلوم وإنتشارها في ممالكهم المتسعة. فإن عمر بن الخطاب أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية سنة 641 للمسيح وسنة 750 إرتقى العباسيون المحامون عن العلوم إلى تخت السلطنة. وذلك من أغرب وأعجب الحوادث التاريخية حتى أن أوروبا نفسها صارت مديونة لمخالفي ديانتها وحريتها بأثمن مثالاتها في العلوم والفنون.

فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية وفي أيام هؤلاء الخلفاء كانت حكمة اليونان قد أحدثت شيئا من التأثير في عقول العرب ولكن جيل العلوم العربية الذهبي لم يبتدئ في الشرق إلا بعد قسمة المملكة الإسلامية وقيام بغداد، ‏وذلك عندما تبوأ الخلفاء بنو العباس تحت السلطنة العربية سنة 750 كما تقدم فحينئذ ثابت الهمم من غفلتها وهبت الفطن من ميتتها فكان أول من إعتنى منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور باني مدينة بغداد والمشهورة بالفتوحات العظيمة وكان مع براعته في الفقه كلفا في علم الفلسفة وعلى الخصوص في علم النجوم. قيل وكان المنصور في اول أمره أدركه ضعف في معدته وسوء استمراء وقلة شهوة وكان كما عالجه الأطباء إزداد مرضه فقيل له عن جيورجيوس بن بختيشوع النيسابوري أنه أفضل الأطباء فاستحضره إلى بغداد فأخذ الطبيب المذكور يتلطف به ويعالجه حتى برئ من مرضه وفرح به فرحا شديدا وكان قد أحضر معه تلميذه عيسى بن شهلاتا وأقام عند المنصور حتى مرض ولما إشتد مرضه طلب الإنصراف إلى بلده فقال له أمير المؤمنين أنني منذ رأيتك وجدت راحة من الأمراض فقال أنا أخلف بين يدي أمير المؤمنين عيسى تلميذي فهو ماهر فأمر له بعشرة آلاف دينار وأذن له بالإنصراف وامر بإحضار عيسى بن شهلاتا فلما مثل بين يديه سأله عن أشياء فوجده ماهرا فاتخذه طبيبا. فصارت العرب بهذا الإتفاق مديونة لبختيشوع الطبيب اليوناني المذكور في دخول صناعة الطب الشريفة بينهم.

وكان لهرون الرشيد شهرة عظيمة في الرغبة والهمة والنشاط في إحياء العلوم والآداب ونشرها في مملكته المتسعة. وكان هو نفسه ماهرا في الشعر والموسيقى ومغرما بهذين الفنين المستظرفين. وقد كتب في أيامه تصانيف كثيرة في علوم المملكة الإسلامية. وقد جمع في بلاطه جمعا غفيرا من أكابر وفحول العلماء فكان أقرب الناس منه وأحبهم إليه العلماء. فكان يحسن مثواهم ويجزل عطاءهم ويرفع منزلتهم. فأضحت العرب مديونين كثيرا له في أمر تقدمهم السريع في الآداب لأنه سن شريعة أنه حيثما بني جامع في مملكته يبني بجانبه مدرسة للآداب. وكان كلما سافر إلى مكان أو قصد الحج يستصحب معه ماية من علماء زمانه. وكان يعتبر العلم أينما وجد والعلماء مهما كان مذهبهم فلم يكن يزدري بمعرفة من يخالفه في أمر المذهب. فان ريس مدارسه وأول مدير للعلوم في المدارس العالية في مملكته كان رجلا نصرانيا نسطوريا دمشقيا إسمه يوحنا بن ماسويه. وقد اقتدى بمثاله هذا الذي يدل على جودة عقله وكرم أخلاقه خلفاؤه. وهكذا لم يمض إلا قليل حتى امتدت الآداب التي كانت تعلم في العاصمة منتشرة إلى أقصاء الخلافة.

ولكن أوغسطوس الآداب العربية هو الخليفة عبدالله المأمون بن هارون الرشيد. فإنه لما أفضت الخلافة إليه تمم ما بدأ به جده المنصور فأقبل على طلب العلم في مواضعه وكان منذ نعومة أظفاره مولعاً بالمطالعة والدرس وقد اتخذ في حيوة والده صحابة له من مشاهير علماء اليونان والعجم والكلدان ولما تبوأ تخت السلطنة لم تلهه مهماتها وعظمتها عن الإعتناء بالعلوم والقيام بحقها وحق أربابها. فكانت الشعراء والفلاسفة والمهندسون تتوارد إليه إلى بغداد من كل بلاد وملة. وقد امر سفراءه ونوابه في أرمينية وسورية ومصر أن يجمعوا ما يمكن وجوده فيها من الكتب الأكثر إعتبار ويبعثوا بها إليه. فكانت ذخاير آداب الأقاليم التي تغلب عليها تجمع بكل اعتناء وتوضع امام عرشه كأعظم جزية وأفخر التحف والهدايا عنده. فكنت ترى مئات من الجمال داخلة بغداد حاملة كتبا من آداب اليونانيين والعبرانيين والعجم. وقد داخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه منها ما حضرهم فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حرض الناس على قرائتها ورغبهم في تعليمها. وهكذا كان بلاطه في بغداد مؤلفاً من المعلمين والشراح والمترجمين فكانت بغداد مدرسة علمية كما كانت عاصمة مملكة. وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده قد صرفوا عنايتهم إلى نيل فضايل النفس الناطقة وزهدوا في ما يرغب فيه أهل الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنايع العملية والتباهي بأخلاق النفس الغضبية والتفاخر بالقوى الشهوانية اذ علموا أن البهايم تشاركهم فيها وتفضلهم في كثير منها. ولهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر توحش الدنيا لفقدهم. قيل إن المأمون إذ كان يعلم بوجود خزاين متسعة من التصانيف العلمية في مكتبة القسطنطينية فلما عقد الصلح مع ميخائيل الثالث ملك الروم جعل أحد شروط الصلح والمعاهدة أن الملك ميخائيل يبعث إليه مجموعا من التصانيف المعتبرة النادرة الوجود الموجودة في المكتبة المذكورة وما صدق أن وصل ذلك إليه حتى أمر أحذق علماء بلاطه بترجمته إلى لغته العربية المشرفة. قيل وبعد تتميم ترجمة تلك الكتب المعتبرة فبغيرة مفرطة على شرف لغته أمر بإحراق النسخ الأصلية. وفي أيام المأمون أنشئت مدارس كثيرة كلية في بغداد والبصرة وأماكن أخرى وجمعت مكاتب شتى في مواضع مختلفة. قيل أن المأمون عرض مبلغا وافرا على ملك الروم ووعده بالصلح الدايم والمصادقة إذا بعث إليه بليو الفيلسوف اليوناني الشهير.

ومن الخلفاء الذين حاموا عن العلم والعلماء وصرفوا الهمة في إكتساب الآداب وإتقانها الواثق. وكان ماهرا في فني الشعر والموسيقى وكان له ميل زايد إلى التنجيم. قيل أنه لما إشتد مرضه أحضر المنجمين فنظروا في مولده فقدروا له أن يعيش خمسين سنة مستأنفة من ذلك اليوم إلا أنه لم يعش بعد قولهم إلا عشرة أيام. وآخر خليفة ألقى آخر نور على أبناء بلاده هو المستنصر فإنه زين بغداد بمدرسة عظيمة سماها بالمستنصرية. قيل ولم يكن في الممالك الإسلامية نظير لتلك المدرسة في صورتها وآلاتها وإتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها واوقافها وقد رتب فيها جمعا غفيرا من المدرسين والفقهاء وبنى لهم داخل المدرسة حماما خاصا ورتب للفقهاء طبيبا خاصا يفتقدهم كل يوم وأقام لهم من المشاهرات والخبز والطعام ما يكفيهم ويفضل عنهم.

هذا وإن كثيرا من الوزراء والنواب حذوا حذو ملوكهم في تقوية العلوم وإمتدادها في الأمكان البعيدة عن العاصمة. فإن مصر مثلا بقيت أجيالا كثيرة مزينة بالعلم والعلماء حتى كنت ترى فيها مدارس للعلوم في كل مدينة وبلدة وقرية. قيل أن أحمد بن طولون نايب مصر كان يوزع كل شهر على مشايخ بلاده ألف دينار وكان يرسل إلى بغداد لأجل التوزيع على علمائها وفقرائها نحو 2200000 دينار. وكانت فوايد التعليم في هذه المدينة تمتد في أوقات مختلفة إلى ستة آلاف تلميذ من كل رتبة من إبن الشريف إلى إبن الصناعي. وحسن مدارسها يظهر من كثرة عدد الشعراء والمؤرخين والأطباء والمنجمين الذين خرجوا منها. فقد كانت تنشأ مدارس صغيرة وكبيرة ومكاتب في كل بلدة. والبصرة والكوفة كانتا تساويان العاصمة نفسها في الشهرة نظرا إلى عدد المعلمين المشهورين الذين خرجوا منها وكثرة التصانيف المعتبرة التي ألفها علماؤها. وكذلك دمشق وحلب وبلح وأصفهان وسمرقند كان بها الكثير من المدارس والمكاتب المعتبرة منها جمع غفير من فحول العلماء المدققين الذين لا يسعنا الوقت لذكرهم. ولا ينبغي أن نغفل عن ذكر القيروان وفس ومراكش من أعمال المغرب التي كانت مزينة بمدارس سامية ومكاتب معتبرة لأجل تعليم المغاربة الذين كانوا قديما ولم يزالوا إلى الآن في أعلى طبقة من الحذق والنباهة. وبواسطة مدارس المغاربة ومكاتبهم المشهورة قد حفظ للغيرة الإفرنجية في القرون المتأخرة ذخاير ثمينة وكنوز فاخرة من العلوم والفنون. 

غير أن البلاد التي تلألأت فيها الآداب العربية بأكثر لمعان وإشراق وبقيت فيها مدة طويلة بعد أن درست في البلدان المشرقية هي بلاد أسبانيا. فإن كردوفا وسيفيلي وغرنادا كانتا تفاخر إحداهما الأخرى في عظمة مدارسها ومكاتبها. وقد كان في مدينة كردوفا وحدها نحو ماية وسبعين رجلا من فحول العلماء من أهاليها. وكان فيها مكتبة عظيمة تحتوي على نحو أربعماية ألف كتاب. وكان في حوزة المتوكل الذي تسلم زمام الحكومة في الجيل الثاني عشر مكتبة معتبرة تحتوي على كتب نفيسة كان منها ماية وعشرون مؤلفا في الإلهيات والتاريخ والفلسفة ولم تزل نسخ منها محفوظة إلى الآن في مكاتب اوروبا المعتبرة. وكان في مملكة الأندلس وحدها سبعون مكتبة وسبع عشرة مدرسة كلية.

فمما تقدم بيانه يتضح لنا شدة حرص العرب في تلك الأيام على إكتساب العلوم والآداب وإجتهادهم في نموها وإنتشارها. وإذا حققنا النظر في ما وصل إلينا من فضلات علومهم وآثار جهادهم نرى أنهم وأن يكونوا قد أخذوا علوما وفنونا كثيرة عن اليونان والعجم والكلدان بواسطة الترجمة والإقتباس لا يمكن أن يسلم بأنهم أنما كانوا متقلدين لا مخترعين كما يزعم بعضهم، لأننا نرى أن نفس العلوم التي سبقت الإشارة إلى أنهم ترجموها من لغات أجنبية قد أخترعوا فيها وزادوا عليهاأمورا كثيرة جدا. فإن فن الطب مثلا الذي وجد قبل انتباه العرب الى العلوم بأجيال كثيرة وينسب إختراعه إلى أبقراط اليوناني وتوسيعه إلى جالينوس كان لم يزل ناقصا حتى كمله إبن سينا بعد أن كان الرازي قد جمع أبوابه المتفرقة في كتاب سماه بالحاوي. وصناعة الكيميا فإنها كانت قبل العرب فنا قد سرت إليه الأوهام الفاسدة وداخلته الشعبذيات الكاسدة فأخذته العرب واخترعت فيه أمورا كثيرة حقيقية وأدخلته في علم الطب مع أنه كان قبل أيامهم من أبواب السحر يستخدم لأجل تحويل المعادن إلى ذهب بواسطة حجر الفلاسفة الذي كان الأقدمون يظنون أنه ذو خاصية لسحر الأرواح الخبيثة وشفاء الأمراض وإطالة الحيوة إلى ما شاء الله. وهكذا القول في أكثر العلوم الاخر التي أخذتها العرب عن الأجانب. وأما العلوم التي لا يشك في كونها من أختراعات العرب فهي كثيرة يحتاج إلى وقت مستطيل لتعداد مفرداتها وتصانيفها. فإننا اذا أمعنا النظر في العلوم المتعلقة باللغة العربية التي كانت قبل الإسلام لغة عديمة الضوابط والقوانين ومتفرقة على ألسنة قوم لم يكن لهم إلتفات إلى العلوم والفنون ولا حظ في صناعة الحروف والتأليف نرى أن العرب قد أصرفوا الهمة في إيجادها. فوضعوا لهذه اللغة العجيبة ضوابط وقوانين لأجل صيانتها من الفساد ورتبوا لها كتب لغة مشهورة قد جمعوها من ألسنة العرب لأجل حفظها وجعلوا لها فنونا كثيرة مستظرفة كالمعاني والبيان والبديع والعروض وهلم جرا لأجل تهذيبها وتحسينها. وكذلك الأشعار التي وجد عند العرب منها أكثر مما وجد عند باقي شعوب العالم جميعا لم تكن الا من نتائج إجتهادهم وجودة قريحتهم. ومن الغريب أنه مع وجود أشعار هوميروس وورجيليوس وغيرهما من شعراء اليونان واللاتينيين المشهورين لا يوجد في أشعار العرب شيء مقتبس منها. وقد ألفوا كتبا شتى في علم الفلك والتاريخ ورسم الأرض والفلسفة والإلهيات والطبيعيات والحساب والجبر والمساحة والخطب والزراعة والنباتات والموسيقى والفقه وبين ذلك فنون قد تعللوا بها كالكهانة والغرافة وضرب الرمل وزجر الطير وقيافة الأثر والسحر والطوالع ونحو ذلك وقد كثرت في جميع ذلك تصانيفهم ومحاوراتهم كما يتضح لمن وقف على فهرست التآليف العربية التي بقيت مع مرور الأيام وتقلب الأزمان محفوظة لتكون دستورا ومنخسا للمتأخرين. قيل أنه يوجد في مكتبة باريز الملكية أكثر من مايتي مؤلف في صناعة النحو وحده. وممن كان فرد زمانه في فنه أبو بكر الصديق في النسب وابن أبي طالب في القضاء وإبن كعب في القراءة وإبن ثابت في الفرايض وإبن عياش في التفسير ووهب في القصص وإبن سيرين في التعبير وأبو حنيفة في الفقه ومقاتل في التأويل والخليل في العروض والمنتبي في الشعر والأشعري في الكلام والحريري في المقامات والرازي في الطب وإبن حنبل في السنة وأبو معشر في النجوم وإبن نباتة في الخطب والقاضي الفاضل في الإنشاء والأصمعي في النوادر وابن سينا في الفلسفة وابن جابر في الكيميا وأبو الفدا في التاريخ والفارابي في الطبيعيات والإدريسي في الجغرافيا والغزالي في الإلهيات وغيرهم في غيرها. هذا ولا ينبغي ان ننسى إخوتنا الأعجام الذين تعلموا لغتنا العربية وزينوها بتصانيفهم المدققة. ومع أن الإفرنج قد اخذوا تلالا لا بل جبالا من الكتب العربية مما لم يبق له عين ولا أثر عند العرب نرى أن التصانيف التي ابقتها لنا صروف الأيام هي وحدها كافية لأن تبرهن لمن وقف عليها الأمور التالية وهي:

أولا: جودة العقل العربي وحسن إستعداده لتحصيل العلوم ولاسيما ثلاثة أنواع منها وهي العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية والعلوم اللغوية حتى أنه لا يوجد في العالم قوم يقدرون أن يفوتوا العرب حتى لا نقول أن يدركوا طبقاتهم فيها.

ثانيا: ثبات العرب وتجلدهم في مقاساة المشقات والمصاعب المقترنة طبعا بتحصيل العلوم وذلك لدى وجود الأسباب المحركة اليها. ويزيد ذلك وضوحا اذا اعتبرنا قلة الوسايط وضعفها في تلك الأيام. فان البخار والسيال الكهربائي كانا حينئذ غير خاضعين للإنسان وكانت المطبعة التي تحسب من أكبر قوات العالم والنظارة المكبرة التي قلبت كثيرا من مبادئ الأولين من أساساتها ولم تزل مستورة تحت ظل الغوامض. وكانوا مع فقد صناعة الطبع يلتزمون أن يوجدوا كل ما اوجدوه من هذا القبيل بواسطة رأس قناة صير الجرم ضعيف العزم. وكذلك قوة الأنثى التي هي أكبر قوة في الدنيا كانت في تلك الإعصار محصورة في لجج بحار الجهل العميق والغباوة الشديدة. وكثيرا ما كانت هذه القوة تستخدم لأجل الضرب على رأس العلم في نعومة أظفاره. وعدم تحزب هذه القوة للعلم والعلماء كان من أكبر الأسباب لفقد العرب العلوم بهذا المقدار من السرعة.

ثالثا: فضل العرب على العالم في هذا الامر وذلك من اوجه عديدة. منها انه فيما كانت العلوم والاداب في خطر الفقد والتلاشي بسبب الحروب والمنازعات والفتن الاهلية في العالم الغربي وجدت لنفسها في مدارس العرب ملجأ تأوي إليه فحافظ العرب على الحلقة المتوسطة من سلسلة العلوم التي تربط العلوم القديمة بالعلوم الجديدة ولولا وجود هذه الحلقة لكنت ترى خلاء متسعا بين العلوم القديمة والحديثة لم يكن سبيلا الى ملئه.

ومنها انه فيما كانت اوروبا غايصة في لجج الجهل والغباوة في اجيالها المظلمة فتح العرب مدارسهم لقبول شبان الإفرنج عندما استفاقوا من غفلتهم ووصلت العلوم تحت ظل وحماية الهلال الإسلامي الى حدود بلادهم. وهناك ناولتهم الإسلام باليد اليسرى أضعاف ما كانوا قد نتاولوه منهم منذ نحو خمسماية سنة باليد اليمنى. وهكذا شربت شبان فرنسا وايطاليا وجرمانيا وانكلترا في مدارس اسبانيا من ينابيع آداب العرب المتدفقة. وفي سالرنو ومنتبلر وقفت تلاميذ النصارى المتواردة الى هناك من جميع اقسام اوروبا لأجل تعلم الطب على تصانيف ابقراط وجالينوس حتى ان اليهود واليونان لم يأنفوا من تعلم صناعة الشفاء من العرب. ومن ذلك ان العرب هم الذين بواسطة قدوتهم وحسن صنايعهم نبهوا الإفرنج في أجيالهم المظلمة من سباتهم الثقيل الى طلب العلوم والصنايع وذلك يسلم به الإفرنج انفسهم ولا ينكرونه.

رابعا: فضل اللغة العربية وطواعيتها في قبول العلوم من دون إحتياج إلى إستخدام لغات أجنبية إلا في ما ندر. وبما أن هذه اللغة من ألسنة العرب فلأجل شدة إهتمامهم وحرصهم على حفظها كاملة من دون أن يفقد منها شيء جمعوا كل ما وجدوه من موادها بين العرب الذين كان لكل قبيلة منهم لغة خاصة وإصطلاحات جارية عندها دون غيرها. والبعض يحسبون أن كثرة المرادفات في العربية غنى لها والحال أن ذلك لا يجب أن يحسب غنى لأنه لا يفيد زيادة في المعاني التي هي المقصود الأصلي من اللغات. واللغة التي يوجد فيها ألفاظ كثيرة لمعنى واحد مع أنه يوجد معان كثيرة لا يوجد لها فيها ألفاظ للتعبير بها عنها هي في الحقيقة فقيرة لا غنية وأهلها فقراء لا أغنياء. ويتضح مقصودنا في ما تقدم مما يأتي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *