الغرب في فكر هشام شرابي

Views: 533

وفيق غريزي

إن اللقاء بين العرب والحضارات الأخرى ممتد الجذور الى عصور قديمة، ولكن الصدمة التي تلقاها العرب بدءًا بالحروب الصليبية مرورا بحملة نابليون بونابرت على مصر، وصولا الى المرحلة الراهنة، كل هذا شكّل دافعا للمفكرين العرب لاختراق جدران الفكر الغربي، وكشف نواياه وابعاده وتطلعاته، واطماعه ازاء المنطقة العربية، ومن هؤلاء المفكرين العرب: ادوارد سعيد، ومحمد اركون، وهشام شرابي، قد تباينت الآراء ولكن انطوت في مجملها على مقارنة مباشرة او غير مباشرة مع الغرب في تكريس التقابل والتناظر، مما جعل التفكير في الذات العربية يتم باستحضار الآخر واقامة مقارنة معه، وكأن ماهية الأنا لا تتحدد الا وفقا لمقاييس الآخر ونظمه، وهذا بنظر المفكرين العرب ما ساهم في فرض المركزية الغربية ونفي الوجود خارج الأطر التي هيكلتها، وازداد تسرب الشك الى الذات العربية وسيطر عليها فقدان الثقة بالنفس وقدراتها مما دفعها الى تلمّس الطرق المؤدية الى بلوغ اسباب الحضارة الجديدة، وهو مبحث شغل جل المفكرين العرب المحدثين. 

الكاتبة والباحثة الزهرة بلحاج، تناولت في كتابها المعنون “الغرب في فكر هشام شرابي”، بحيث ان شخصية هذا المفكر تعبّر عن اهمية انتمائه الى ظرفية تاريخية شهدت تطورات سياسية على درجة كبيرة من الاهمية بالنسبة الى حاضر العالم العربي ومستقبله. 

 

الغرب ودلالته 

ترى الباحثة الزهرة بلحاج أن البحث عن ماهية الغرب ليس بالأمر اليسير، ذلك أن المصطلح قد اختلفت دلالته وتعدد الى دلالات عديدة، ولا سيما أن طرح السؤال حول الغرب لم ينبع من رحم الفكر العربي ولم يكن وليد رؤية عربية ذاتية وانما كان نتيجة الغرب من خلال بسط نفوذه على العرب وعلى غيرهم، فمولد السؤال في الحقيقة هو الغرب ومنجزاته الاقتصادية واجهزته المادية وبناه الفكرية، ولذلك قد اندرج تعامل العرب مع الغرب في نطاق المواجهة بين الدولة العثمانية والقوة الغربية. وتقول الباحثة: “إن هشام شرابي قد اجرى تمييزا واضحا بين البلدان المستعرة والبلدان التابعة، واعتبر أن ليبيا والجزائر من قبل، وفلسطين حاليا، هي مستعمرات من الدرجة الاولى. ويعني شرابي بالاستعمار المباشر الاستيطان، حيث تقع محاولة الحاق دولة ما بأراضي الدولة المستعمرة، وهكذا وفق رأي الباحثة، يمكن حصر انواع الهيمنة الغربية بالاستعمار الذي يتفرّع بدوره الى شبه استعمار وهي سيطرة ظرفية ترمي من خلفها القوى الغربية الى تحقيق اهداف اقتصادية، واستعمار مباشر يرمي الى تحطيم البنية الاجتماعية واقتلاعها من جذورها. ولا شك أن هشام شرابي قدّم الغرب، وهذه حقيقة واقعية، على انه استعمار متسلّط ومصدر للخوف والاحتراز، وهو يرى الحملة الاستعمارية الغربية ضد العرب لم تكن بداية صراعا بين الطرفين بل كثيرا ما ارجعت جذورها الى الحروب الصليبية.

وتشير الزهرة بلحاج الى أن الاستعمار لم يكن بالنسبة الى هشام شرابي حدثا خارجيا أو واقعة تاريخية، بل انه حدث هام في حياته الشخصية لا سيما أن بلده قد مورست عليه اشد انواع الاستعمار وافظعها، وهو الاستيطان، وها هو يؤكد أن الاستعمار بالنسبة اليه هو شيء حقيقي محسوس. كان يكره الاستعمار كما يكرهه جميع رفاقه، الا أن كراهيته كان لها، بالاضافة الى ذلك، بعد مباشر ينبع من تجربته الشخصية كفلسطيني. 

كما تؤكد بلحاج أن هشام شرابي يستنكر الوضع الذي وصلت اليه مجتمعات الغرب، فهي بالرغم من بلوغها الى مستوى حضاري ومادي يخوّل لها تحقيق ارقى درجات الانسانية، الا انها استغلت طاقاتها المادية في خلق نظام اقتصادي واجتماعي لا يزال يرتكز على استغلال الانسان وعلى قهره وعلى كبته. وتقول: “فالغرب في تعامله مع العرب لم يكن وفيا لمبادئه التي سنها والتي يمارسها في المجتمعات الغربية”. لقد الغى الغرب، بوصفه استعمارا، مفهوم تفاعل الحضارات والتعايش السلمي حيث كانت تستفيد الحضارة الواحدة من الاخرى فتتأثر بها وتؤثر فيها وذلك في اطار الندية لا تتجاهل القيم الاخلاقية والمثل الانسانية، ووضعت شعار صراع الحضارات وعملت على تطبيقه حاليا في الولايات المتحدة الاميركية مكان شعار حوار. 

 

الغرب والآخر

ثمة سؤال تطرحه الباحثة على نفسها: وهو كيف تطرّق هشام شرابي الى مفهوم الغرب باعتباره الآخر؟ وما هي ملامحه وما هي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تربط بين طرفي هذه الثنائية؟. وازاء هذه التساؤلات تشير الباحثة الزهرة بلحاج الى أن شرابي تعرّض لدراسة المواقف المختلفة لا بمعزل عن الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها، وانما معتبرا اياها وليدة الأطر الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تبنّاها المثقفون، فكانت مواقفهم ثمرة انتماءاتهم الاجتماعية وتوجهاتهم الفكرية. ولهذا فان الدراسة ، يقول شرابي: “ترتكز على الظروف التي تمت خلالها الاتصالات والصراع، وعلى الاشكال، وذلك هو السبب الذي دفعني الى أن اضع توكيدًا خاصًا على المكونات الاجتماعية والنفسية للافكار”. اما الباحثة فتؤكد أن هشام شرابي اسهب في وصف الانتماء الاجتماعي للمثقفين العرب، باحثا عن رابط بين الانتماء وانعكاساته في تحديد الموقف من الغرب بالآخر، معلنًا أن تحليل الافكار سيرتكز على الأرضية الاجتماعية. ومن وجهة نظرها فان تحديد طبيعة علاقة الآخر بالأنا من خلال فكر نشابي تمثلت بـ: 

1- الآخر العدائي: تمظهر الغرب في كتابات شرابي على انه عدو للشرق، ولا تنحصر هذه العدائية في الصيغة الاستعمارية التى رسمت اولى ملامحه، وانما تكمن اعمق اثارها على الصعيدين النفسي والحضاري.

2– مركزية الآخر وتزايد شعور الأنا بالنقص، تولّدت المركزية الغربية على عاملين اساسين: العمل الأول هو شعور الآخر بتفوقه الجنسي الاثني، نتيجة ما توصّل اليه من تقدم مادي خوّل له السيطرة على مختلف مجالات الحياة وتغيير مقوماتها. اما العامل الثاني: فانه ينبثق عن افتتان الأنا بالحضارة الغربية وانجذابه اليها في اعجاب بمفاهيمها الحديثة ورؤاها المختلفة. وهكذا تقول الباحثة: “يرى شرابي أن الاحساس بالنقص ازاء الآخر يودي الى التطرف في ردود الفعل، فتكون المواقف تبعا لذلك غير سليمة، فهي اما انحياز كلي لحضارة الآخر والانصهار فيها ومحاولة تقليدها، وهو ما يولّد اعجابا حاسدا لحضارة الآخر، وتكون العلاقة كما يصفها ابن خلدون في اقتداء المغلوب للغالب. واما ينبثق عن ذلك موقف عدائي متبجح بإنجازات الأنا في الماضي حتى يختلق بذلك الندية التي تجعله طرفًا في الإنجاز الحضاري الجديد او الحديث، “وكلا الموقفين لا يؤديان بنظر شرابي، الى رؤية واضحة وموقف سليم. لذلك فهو يدعو الى ضرورة التخلّص من عقدة النقص والابتعاد عن “سياسة الانبطاح امام الغرب، فكلمة صداقة لا تذكر الا عند السياسي العربي لمّا يتكلم عن الفرنسيين او الاوروبيين او الاميركان، بينما تعامل الغربيين معنا مبني على المصلحة…”.

مرجعيات شرابي الفكرية 

تعتبر دراسة المرجعية الاجتماعية والفكرية التي ينتمي اليها الكاتب او المفكر مبدأ مهما في الالمام بأهم المؤثرات الموضوعية والذاتية التي شكّلت منطلقا لمبادئه وآرائه الفكرية. فعن المرجعية الاجتماعية الشرقية تقول الباحثة: “ينحدر هشام شرابي من عيلة فلسطينية تنتمي الى طبقة الاعيان، حيث كان جده أحد كبار موظفي الدولة العثمانية، كما كانت جدته من الطبقة الارستقراطية. كما تربى هشام في كنف النظام البطريركي العائلي، حيث يعيش الفرد تحت رقابة الاسرة.. وبايجاز نشأ في بيئة عربية مسلمة ثرية، غلب عليها الحفاظ على طابعها البرجوازي الظاهري وتحكم في ممارساتها النظام البطريركي”. اما عن المرجعية الثقافية الشرقية، قيمكن اعتبار المدرسة المحيط الثقافي الأول الذي عرفه هشام شرابي، بحيث أن فضاء المدرسة لديه يمثل عالما مختلفا عن عالم الاسرة. وكان شرابي ينتقد النظام التربوي في ظل النظام البطريركي، ويرى أن التحولات المستقبلية في المجتمعات العربية تبدو وثيقة الصلة بالمؤسسة التربوية وبمدى ما تحققه من تأصيل لقيمها، وما تحققه من استقلال امام الاجتياح السياسي حتى تعود الى مهمتها الاصلية، مهمة تفتح الذهن، واعطاء نمط تفكير نقدي اكثر من تركيزها على تزويد الطلاب بمعلومات وقوالب جاهزة لا تساهم في القضاء على اميتهم وجهلهم بقدر ما تعمق اغترابهم. وبالاضافة الى تكونه الدراسي العربي الذي تلقاه، تأثر في بداية حياته الجامعية بناسك الشخروب ميخائيل نعيمة، الذي كان له اثره في تحوّل المسار الفكري له، وتخليصه في فترة ما من قلقه الفكري وحيرته الوجودية. ثم تأتي المرجعية الحزبية، والمرجعية الماركسية.

 

انعكاس المرجعيات في تحديد مواقفه 

تعتقد الباحثة بان الرغبة الملحة التي تملكت شرابي في رفض الواقع العربي، واقتناعه بضرورة تغييره تغييرا جذريا، دفعت به الى الارتماء في احضان العالم الغربي وتحديدا الاميركي معتقدا انه البديل عن واقعه، وفي هذه المرحلة كان موقفه من الغرب الليبرالي موقف الانبهار، متأثرا بما حققه الفكر الغربي من انجازات علمية ونظم عقلية، وديمقراطية سياسية. وفي هذا السياق تقول: “لقد بحث شرابي في المجتمع الاميركي عن ارضية لاحتضان افكاره المتحررة الرافضة لكل انواع القيود والمراقبة، فوجد العالم الغربي مختلفا عن العقليات العربية… وقد انغمست في عالمه الغربي الجديد”. وعندما نضج شرابي فكريا وتكوّنت لديه قوة نقدية، بدأ يرى الممارسات السلبية ونقائص المجتمع الاميركي الخطرة التي طغت على الجوانب الروحية والاخلاقية، واصبح كل شيء مباحا لا رادع له، فاستنكر شرابي كثرة الاماكن المخصصة لعرض الجمال والجنس، وكأن الجمال سلعة تباع وتشترى مثلها مثل بقية السلع دون مراعاة للجوانب الانسانية والأخلاقية، وقال: “الجمال كالخبرة والذكاء والموهبة في الولايات المتحدة سلع تباع وتشرى لا بالمعني الاخلاقي المادي الذي يفرض على الفتاة نمطا من الحياة والعمل لمجرد كونها جميلة”. وتشير الباحثة الى أن شرابي لاحظ أن المجتمعات الغربية انما اقيمت على اسس المغالطة والتمويه، من ذلك أن الشعارات والقيم المثالية التي ترفع في المحافل الدولية سرعان ما يقع التخلي عنها في الممارسات اليومية، كما أن الغربي يرفع شعارات الحرية في بلده ويمارس افظع انواع الاستغلال والاضطهاد على الشعوب الاخرى، قصد وضعها في دائرة التبعية والتخلف. والتحول الجوهري الذي طرأ على مواقف شرابي تجاه الغرب برز اثر نكسة العرب في حرب ١٩٦٧.

إن ما نلاحظه في المرجعية الفكرية لشرابي هو مدى تنوع هذ المرجعية، فهو لم يكن حبيس ثقافة احادية وانما تخلّص فكره من عائق الذاتية الانعزالية التي تنبني على نرجسية الذات في مقابل اقصاء معارف والاكتفاء بثقافة الأنا.

 إن كتاب بلحاج يكشف لنا مشروع هشام شرابي الاصلاحي للعالم العربي، بغية تحقيق بناء مجتمع عربي جديد…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *