منظومة القيَم والسلوك في زمن كورونا

Views: 445

د. بشرى البدّاوي

منذ أن اجتاح وباء كورونا أو كوفيد-19 عالَمَ الإنسان بهذه الطريقة المُفاجِئة وأُعلن عنه من طرف منظّمة الصحّة العالَميّة باعتباره جائحة وبائيّة في 11 آذار (مارس) 2020، والإنسان في العالَم يعيش حالةَ ذهولٍ وترقُّب وتردُّد وكأنّ الكون قد تعطّل من حوله. فعلى حين غرّة، ومن دون سابق إنذار، شُلَّت الحركة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للعالَم، وما عاد هناك فرقٌ بين الدول “العظمى” وبين ما دونها من الدول، سواء النامية منها أم الفقيرة.

لم يعُد هناك فرقٌ أيضاً بين مَن يقود من الدول عالَم التكنولوجيا ووسائل الرقْمَنة والعوالِم الافتراضيّة ويتحكّم فيها، ويمتلك الأسلحة الفائقة التطوّر، ويستحوذ على الطّاقة النوويّة، بل والنانونيّة، وتتوافر لديه مَوارِد الطاقات المُختلفة كالنفط والطاقات البديلة، وبين مَن يفتقر إلى أدنى وسائل العيش الكريم من مأوى وغذاء وحتّى ماء في عشرات البلدان الفقيرة التي ترزح تحت نير الحاجة والعَوز، حيث قُدِّر عدد الفقراء الذين يعيشون تحت سقف الدخل الفرديّ الكفيل بحفْظ كرامة الإنسان بنصف عدد سكّان العالَم تقريباً.

هزّات نفسيّة غير مسبوقة

ما إنْ استفاق العالَم من هول الدهشة إثر شهوده ميلاد هذا الوباء في الصين، انطلاقاً من تكاثُر عدد الإصابات المسجَّلة، وتلاحُق أعداد الوفيّات المُعلَنة، حتّى وجدَ الواقعَ يلحُّ عليه في الاعتراف بالوباء حينما اجتاح كلّ مساحات الخريطة الجغرافيّة في العالَم، مُكتسِحاً البلاد من المحيط إلى المحيط: شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، عظمى الدول وغير العظمى منها، ليقرّر حقيقة الجائحة على أرض الواقع الملموس بلفظها ومعناها، ويسطِّرها على خريطة ملايين الأجساد البشريّة: حُمّى وسُعال وتَعَب واختناق وغيرها من الأعراض التي تشي بالإصابة بهذا الوباء وتُعلن عنه.

ما عاد للشكّ مَوضِعٌ بعد ولا للتردُّد أيضاً حاجة في الاعتراف بالجائحة الوبائيّة، وهنا تسارعت الدول لاتّخاذ احتياطاتها التي اعتقدتها كفيلة بمُواجَهة هذا الإعصار، انطلاقاً من وضع قوانين الطوارئ الصحيّة أو العمل على تفعيلها فحسب، وفرْض حالات الحجْر الصحّي، والمُبادَرة إلى تنزيل ترساناتٍ من التدابير والإجراءات لصدّ هذا الاجتياح؛ ومع ذلك ظلّت الإحصاءات تكشف كلّ يوم عن استمرار عدد الإصابات وحدوث الوفيّات، ما جعلَ الإنسان في مختلف بقاع العالَم يشهد هزّاتٍ نفسيّة لم يشهدها من قبل، ويُعاين أوضاعاً اجتماعيّة أغلب معالِمها لم تطرأ على تفكيره في ما مضى من حياته، فما عاد أمامه غير الخضوع لما تمليه عليه احتياطات السلامة الصحيّة والاستسلام للقدر.

بهذا أسهمت هذه الجائحة في إعادة تشكيل نفسيّة الإنسان تجاه نفسه ذاتها وتجاه الآخر: رغبة منه أو رهباً، فساقته تارة عقيدته للبحث عن مرافئ الأمان في واقعَيه النفسي والعقلي ليرسو فيها فيُعيد بَرمَجة مَساره بما يحفظ له السكينة في أعماقه ويحقِّق له الأمان في واقعه الخارجي، كما جرَّته نزعاته الماديّة النفعيّة تارة أخرى صوب ما يعتقد أنّه يضمن له حقوقه، وأوّلها عنده حقّه في الاستمرار في الحياة، فأنشأ يُدافع لتحصيله بكل ما أوتي من قوّة قد تكون مشروعة تارة أو غير مشروعة تارة أخرى.

وهنا طفت على السطح مجموعة من السلوكات الإنسانيّة في خضمّ الصراع مع هذا الوباء: السلوك المتشبِّع بالدّين، والسلوك المتشبِّع بالفردانيّة، والسلوك المتوحِّش، والسلوك الاعتباطي، والسلوك التمرُّدي… وغيرها من أنماط السلوك التي تُعلن في عمومها عن مَعدن الإنسان وطبيعته، وتُفصِح في الآن ذاته عن تصوُّره لمنطق التعايُش بين الناس، أفراداً وجماعات، سواء في إطار المُجتمع الواحد، أم في إطار المُجتمعات الإنسانيّة التي تشكِّل إطار العالَم الجامع.

وفي سياق ما فُرض للضرورة الصحيّة من تباعُدٍ اجتماعي في مُختلف المُجتمعات الإنسانيّة، ظلّت تُطرح أكثر من تساؤلات عن تداعيات ذلك، وبخاصّة على الذات الإنسانيّة، تلك الذات التي طالما تحكّمت فيها رغباتها، ووجَّهتها احتياجاتها ومَطامعها، وحفَّزتها طموحاتها:

فما تداعيات ذلك على الذّات/الأنا/الفرد: نفسيّاً وفكريّاً وسلوكيّاً؟

وما التأثير الذي سيخلّفه تجاوُز الجائحة في الفضاء العامّ، وحصراً في ما يهمّ فضاء العلاقات الإنسانيّة تحديداً؟

وهل سيستمرّ ما استجدّ من نمط في السلوكات الإنسانيّة التي تنأى عن الفردانيّة، وتتّجه نحو نظم العلاقات في إطارٍ من التعاوُن المُشترك، والتضامُن والتفاعُل المتعدّد الأطراف، خدمةً للتعايُش الاجتماعي الموحَّد الأهداف والمَقاصد؟

فبالتأمُّل في الواقع المُستجِدّ، قد يُلاحَظ أنّ من الناس مَن صادفت حالة الطوارئ وظرفيّة الحجْر الصحّي هوىً في نفسه بالخضوع للراحة التي كثيراً ما افتقدها في مُعترك الحياة بموجب تكلفتها الباهظة ولو أنّها تظلّ مشوبة بالترقُّب للمآل؛ ومنهم من تمثَّلت له قَيداً يحجر على حريّته وتمنعه من حريّة تصرّفه وفق ما شاء وأراد، ومنهم مَن انصرفَ لخلْق عوالم أخرى بديلة لنفسه تارة وللمُحيطين به تارة أخرى، ومنهم مَن مثَّلت حالة الطوارئ بالنسبة إليهم عملاً إضافيّاً، كالطواقم الطبيّة والتعليّمة والعِلميّة والأمنيّة وغيرها، ومنهم من اتّجه صوب تثقيف الذّات، بخاصّة بعدما ما بادَر العديد من الجامعات ومَراكز البحث والمَكتبات الإلكترونيّة لفتْح مجال الاطّلاع على مدخّراتها الفكريّة العِلميّة للعموم، ومنهم مَن أحيت فيهم هذه الظرفيّة الوبائيّة طاقة المُبادَرة والإحسان وغيرها.

كورونا وإحياء القيَم الاجتماعيّة

قد لا يُجادِل اثنان أنّه في هذا الواقع المُستجِدّ انتعشت أو نمت وتطوّرت مجموعة من القيَم الاجتماعيّة في حياة الناس أساسها المُشارَكة، والتعاوُن، والتآزر، والتعاضُد، وشملت مُختلف الشرائح انطلاقاً من ظروفٍ مُستجدّة أملتها هذه الوضعيّة الخاصّة، تمثّلت في:

– تحمُّل الآباء مسؤوليّة الإشراف على تدريس أبنائهم، على تفاوت في درجاتِ هذا التحمُّل وتنوُّع صوره ومخلّفاته النفسيّة والعقليّة بحسب الأُسر والمُجتمعات؛

– تولّي المُتعلِّمين من التلاميذ والطَّلبة والباحثين، على اختلاف مستوياتهم وتعدُّد تخصّصاتهم وتنوُّع توجّهاتهم الاستشرافيّة، مسؤوليّة الانضباط في الخضوع لعمليّة استقبال الموادّ التعليميّة والتربويّة والتكوينيّة عن بُعد، مع ما يفرضه ذلك من انطلاقٍ نحو تفعيل المُراجَعة الذاتيّة والتثقيف الذاتي بعد ذلك؛

– إقرار مسؤوليّة المجموعات التعليميّة في تولّي التدريس عن بُعد للمتعلّمين في مختلف المستويات، وعبر وسائل فَرضت وجودها بالضرورة وللضرورة، وبخاصّة منها الهواتف الذكيّة، والحواسيب، وتفعيل الإنترنت؛

– إنزال مجموع الطواقم الطبيّة والمسؤولين عن تلبية الخدمات الصحيّة إلى أرض الواقع، واستنفارهم للإسهام في مُواجَهة آثار هذا الوباء بفعل ما يخلّفه باستمرار من إصاباتٍ وضحايا من جرّاء انتشاره السريع؛

– استنفار الطواقم الأمنيّة لفرْض احترام مُقتضيات حالة الطوارئ الصحيّة والسهر على تصريفها على أرض الواقع، فضلاً عمّا استجدَّ من تقليد الروبوتات في غير قليل من الدول الغربيّة مهمّة تولّي مجموعة من المَهامّ التوجيهيّة وذات الطابع التحذيري بالأساس، كالطائرات الصغيرة الروبوتيّة الدرونز (Drones) المُحلِّقة في مستوياتٍ قريبة من المتردّدين على الفضاءات العامّة والشوارع لدواعٍ وأسبابٍ مُختلفة، حيث تحفِّز على لزوم أماكن الحجْر، أو تحثّ على احترام مسافات التباعُد الآمن…؛

– تحفيز الباحثين من العُلماء المخبريّين والأطبّاء للإسهام في التنقيب والبحث عن حقيقة هذه الظاهرة وأصلها وسُبل القضاء على هذا الوباء، أملاً في استخلاص لقاح فعّال تُواجِه به هذه الجرثومة التي حيَّرت العالَم.

غير أنّه بغضّ النّظر عن السلوكات الإنسانيّة السلبيّة التي شابت فترات الحجْر الصحّي في هذه الظرفيّة، والتي تظلّ قليلة مُقارَنة بالسلوكات الإيجابيّة الطافية على سطح المُعاملات البشريّة، فإنّ الكثير من الصُّور والمَواقف والمُعاملات والأقوال والتصريحات تشي بأنّ النَّفس الإنسانيّة بدأت تتّجه صوب منحى جديد لترسيخ القيَم السمحة في واقعها الداخلي والخارجي على حدّ سواء، وعبر منطلقات التعاطُف والتراحُم والتعاوُن والمُساندة، وعلى تفاوتٍ في درجات ذلك وانطلاقاً من أبعاد مُختلفة؛ فمن وَعْيٍ بأنّ احترام التدابير الوقائيّة فيه حفْظ للذات من الإصابة وحفْظ للذوات المحيطة، ومن إحساسٍ ترسَّخ بأنّ في احترام مسافة التباعُد الآمن حفْظٌ لسلامة الذّات والآخر سواء بسواء، ومن تدفُّق الرغبة في إدخال البهجة على الماكثين في منازلهم وفي أماكن الحجْر الصحّي نحو مختلف مؤسّسات ومَراكز الاستشفاء وغيرها، أبدعت إسهاماتٌ شتّى من قِبَلِ الناس في مجالات التخصّص ومَيادين الإبداع المُختلفة، ومن شيوعٍ لشتّى صُور التفاعُل الإنساني النبيل عبر مَواقع التواصل الاجتماعي، ومن عُمق الإحساس بتأثير الجائحة وما خلَّفته من آثار في مُحيط الناس، نمت الإرادة وشحذت العزيمة بتصريف مُختلف مظاهر الإحسان العمومي، كلٌّ بحسب طاقته ووفق ما يعتقده الأصوَب والأنجَع في الإسهام في تجاوُز مخلّفات الوباء.

وهكذا فمع أنّ التفكير في ترسيخ القيَم الإنسانيّة في الواقع المعيش للإنسان ظلَّ يُمثِّل دَوماً هاجساً مُلحّاً بالنسبة إليه وإلى المسؤولين عن تدبير الشأن العامّ والخاصّ على حدّ سواء، باعتبار ذلك ركيزة أساسيّة لضمان الاستقرار، وعاملاً من العوامل الرئيسة لشيوع الأمن والسلام في محيط الأفراد والجماعات، إلّا أنّ حضور هذه القيَم في المَعيش اليومي للإنسان ظلَّ مع ذلك، وعلى الرّغم من المحاولات المُتلاحقة والمتكرّرة لتعزيزه وترسيخه، يطبعه الفتور في أحيان كثيرة إلى أن اجتاحت هذه المحنة الإنسان، فحفّزته لإذكاء جذوة العديد من القيَم وفي مقدّمتها القيَم الاجتماعيّة، فأضحينا أمام فئاتٍ إنسانيّة بمُواصفات مُستجدّة أو بالأحرى متحفّزة في هذه الظرفيّة، من حيث قوّتها، ودرجة فعاليّتها، ومستوى تفاعلها وانخراطها في ما يخدم مصلحتها، ويُسهم بالتالي في ضمان ما يخدم المصلحة العامّة سواء بسواء.

***

(*)  أكاديميّة وباحثة من المغرب

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *