المدى

Views: 345
بورتريه (لامع الحر) رسم المُبدع محمد علي الخطيب بأقلام التلوين الخشبية (“crayon de couleur”)، 1989

لامع الحُرّ

 

إلى المُبدع الراحل محمد علي الخطيب

 

 

الأرضُ تسألُ و السما نورٌ يجيبُ

هل ماتَ قبلَ الفجرِ شاعرُنا الحبيبُ؟

جيشٌ من الآهاتِ يسكبُ أدمعا ً

عصفَتْ كأنَ الرّيح أبدعَها النّحِيبُ

ما ماتَ بل بثَ الفراقَ شجا

ينادمُهُ فضاءٌ كالمدى الشّافي رحيبُ

 

من دمعةِ الحبِّ العتيِّ قصائدٌ

تروي … و في أبياتِها زهرٌ و طيبُ

دمعٌ تفجّرَ في الفضاءِ جداولا ً

منها عذاباتٌ تناتشَها الصليبُ

من ها هنا أمضي إليكَ كأنّني

عزمٌ .. تصدّعَ في مسيرتهِ المشيبُ

من ها هنا أمضي كأنّكَ واحدٌ

في طيّهِ جيشٌ منَ الرؤيا قشيبٌ

 

جبريل أهداهُ ضياء ً ساطعا ً

ينبثُّ روحا ً لم تلامسها ذنوبُ

جيشٌ من الرؤيا يذوبُ جنائنا ً

قد حلّ فينا من صداها العندليبُ

روحٌ تخضّبُهُ الأماني روعة ً

و يموجُ في أغوارِهِ بحرٌ سليبُ

روحٌ تجلّت في المعاني وردة ً

ينهلُّ منها مرهمٌ شافٍ ٍ طبيبُ

 

جبريلُ أطلقَهُ رؤىً أسمى

تجمهرَتِ العقولُ على هواهُ و القلوب

روح ٌ تسافرُ في العُلى نجما ًسماويّا ً

تُناجيهِ على البعدِ الخطوبُ

مع شعرِهِ زاد َ الوجودُ توهّجا ً

و أضاء أفقا ً لم تخالطْه ثقوبُ

مع رسمِهِ أضحى المدى ومضا ً يسوِّرُ 

ضوءَهُ الوهّاجَ إعصارٌ مَهيبُ

 

مع فنّهِ الوثّابِ إدهاشٌ غريبٌ

كيفَ أدهشَ وعيَنا الفنُ الغريبُ؟

ترسو الغرابةُ في مدائنِهِ هُدَى ً 

بكرا ً.. عن الإبداعِ حقا ً لا يتوبُ

عَلَمٌ تطوفُ ببحرِه أممٌ كبارٌ

قد تراكم عندَها زمنٌ لعوبُ

تدنو إلينا مثلَ برقٍ باهرٍ

يحنو… فتكثرُ في ثناياه النُّدوبُ

 

أممٌ مضتْ لمجالهِ الكونيِّ حاضنةً

سطوعاً ليسَ  يدركهُ الغروبُ

هذي جراحي أمطرَتْ حمماً ومن

بركانِها.. فجرٌ سماويٌّ طروبُ

من ذا يُضيءُ الأرضَ بعدَ قتامةٍ

حتى يفرَّ العتمُ والحقلُ الجديبُ؟

يمضي إلى الفنِّ المُضَّرج بالسنا

حتَّى يخضِّبَ نايَهُ الغصنُ الرَّطيبُ

 

يمضي.. ليكتبَ ما يشاءُ منَ السُّهى

حتى يزولَ الكربُ والوقتُ العصيبُ

تمضي جحافلُ حزنهِ غيماً رمادياً

وفي احشائِه إنتصبالوجيبُ

قد كان للأمطارِ مملكةً يناجي

شجوَها المشطورَ إعصارٌ رهيبُ

كيفَ الرحيلُ.. وأنت أجملُ جذوةٍ

فتكَتْ بنا.. فأنارَ صحوتَنا اللهيبُ

 

كيف الرحيلُ.. وأنتَ نبعُ نضارةٍ

قد زانها خصبٌ.. وجافاها نضوبُ؟

كيفَ الرحيلُ إلى فضاءٍ غامضٍ

والأرضُ سوَّرها من الكرم الزبيبُ؟

كيف الرحيلُ.. وأُفُقُكَ الريَّان

أشجارٌ.. ذوى مع نُسغِها الداوي حليبُ؟

كيف الرحيلُ.. وأنت دمعةُ عاشقٍ

قد صانها قبلَ الرَّدى المجدُ الربيبُ؟

 

حبي إليكَ صواعقٌ تطفو على

جنَّاتِها الأبقى من القدر الغيوبُ

حبٌ يسافرُ في المدى بحراً يُداوي

جذرَهُ قبلَ الضُّحى موجٌ أريبُ

حبٌ يحاضن معْ بزوغِ شموسِكم

زمناً غريباً لا يزولُ ولا يخيبُ

حبٌّ تألَّقَ في البُعادِ جوانحاً

تدنو.. و مع خطواتها قمرٌ خَلُوبُ

 

يدنو كأنَّ حضورَهُ كونٌ تجلَّى

والثرى منْ حولِه بدرٌ مُنيبُ

يدنو و في عينيهِ نورٌ باهرٌ

يمضي و في أحشائِه شمعٌ يذوبُ

كالبرقِ غادرَ بيتَه.. و ثوى على

أرضٍ يجفِّفُ قحطَها الرَّعْدُ الدؤوبُ

كالرُّوحِ يمضي في السما نفحاً

رسولياً.. و خلفَ الغيبِ أحياناً يجوبُ

 

يمضي إلى إبداعِهِ شمساً تناسلَ

من معادنِها ذُكاءاتٌ عَروبُ

في حُبِّها الدَّاوي وفاءٌ صارخٌ

قد صالَ في أرجائِهِ القدرُ الكئيبُ

هذي ظلالٌ تحتفي بعرينِهِ

ريحاً يُذَكِّي صوتَها الدَّاوي هبوبُ

من أنتَ يا ضرباً تعبِّدُ ليلَهُ

ليلى؟ على منوالِها سارَتْ ضُروبُ

 

ليلاكَ مازالت إلى وعدِ اللقا

تعدو.. فهل جافى الهوى وعدٌ كذوبُ؟

في الحبِّ كانَتْ شُعلةً يزهو بها

الأعلى من الأعلى.. ويصحبُها وثوبُ

قد أبدعَتْ من عِشقِها وطناً لها

ودموعُها نهرٌ خريفيٌّ صبوبُ

تعدو إليهم معْ عوالمَ عدّةٍ

عيبُ القوافي أنها دوماً تصيبُ

 

كيف اصطفى الإرثَ البعيدَ إيادُنا

إن البعيدَ إلى مرامينا قريبُ

يدنو.. فينقشعُ الضباب بلا ونىً

و يسيرُ معْ آهاتِهِ النَّجْمُ العذوبُ

أهواك يا قمر الدُّجى ورحيقَهُ

من دفء عينك ينجلي السِّرُّ العجيبُ

ما ماتَ شاعرُنا الحبيبُ.. و ما ثوى

مجدٌ.. يظلِّلُ نابَه الأفقُ الرَّغيبُ

 

ما ماتَ سيِّدُ فنِّنا الرّاقي.. وما

هجرت ملاحمَهُ المعاركُ و الحروبُ

أبنى على أرضِ الجمالِ مدينةً

منها دنا الإعصارُ عزماً لا يشيبُ؟

حتَّى أتى بالسَّهْلِ ممتنعاً.. فغادرَ

أفقنا مع عتمِهِ الأدبُ المُعيبُ

قد جاء بالألوانِ منفتحاً على

زمنٍ تحاصرُه جبالٌ أو سهوبُ

 

قد جاء بالأحلامِ منتصراً على

رؤيا يكلِّلُ عِطرَها سيرٌ دبيبُ

إبداعُهُ فَنٌّ زها.. منْهُ تعلَّمَ

في مجاهِلِهِ رئيسٌ.. أو نقيبُ

أضفى على أرضِ الجمالِ تراثَهُ

وأفتنَّ في تخليدِه الدَّهْرُ الصَّخُوبُ

من فيئه زادَ القريضُ نضارةً

أيّوْبُ صبَّرَهُ.. و ثمَّرَهُ الحبيبُ

 

من راحِهِ جاءَ النُّهى مُتبختراً

وعلى يديهِ تطهَّرَ النَّبْعُ السكوبُ

فنٌّ على برجِ الخلودِ متوَّجٌ

و له مع القممِ التي بَرَقتْ نصيبُ

يمضي إلى فردوسِهِ علماً.. ولم

يوقفْ مسيرتَهُ حسيبٌ أو رقيبُ

قد كانَ يشمخُ مع نداوتِهِ شموخاً

ما دنا من فيئِهِ الطَّاغي شحوبُ

 

قد كان يعشقُ في متاهتِهِ المدى

حتَّى تداعَتْ معْ شجاعتِهِ النُيوبُ

قد كان في عرسِ الهوى قدراً.. فلا

إثمٌ تململ في ثراهُ ولا عيوبُ

أرسى على درب الكتابةِ معلماً

حُراً.. تشظَّتْ في بواطنِهِ الدُّروبُ

دَرْبٌ إلى النُّورِ المبينِ.. وآخرًٌ

لم يبقَ من صهبائه السَّرَّاء كوبُ

 

 رجلٌ تنامى عنده المسرى نجاحاتٍ

و خانَ محالَه الرَّائي الرسوبُ

مصباحُكَ الوافي رنيمٌ جاءَ منها

معْ ضُحى الإبداعِ أيامٌ تطيبُ

مصباحُك الوافي رنيمٌ قد تناءَتْ

عند طلعتِها المظالمُ والكروبُ

وأنا على وقعِ الرّحيلِ أضعْتُ بو

صلتي.. فَضاعَ الماء و الحقلُ العشيبُ

 

هذا زمانٌ ينتهي.. و به انتهى

صبرٌ يظلِّلُ طهرَهُ طهرٌ مُثيبُ

دهرٌ يفاجئُ حلمنَا بخوائِه

لا.. ليس منه.. و من مكائده هروبُ

حلمٌ يداوي حلمَه ببسالةٍ

منَّا الصَّدى صوتٌ يخالطُه نعيبُ

نحيا و في كلماتِنا روحٌ تظلِّها

و يجرفُ ماءَنا الرَّملُ الكثيبُ

 

صرحٌ كتابيٌ بناهُ مجنَّحاً

قد شادَ قِبلَتَهُ بقاعٌ أو جنوبُ

جمرٌ تشظَّى في بطونِ الأرض مَلَّتْهُ

اللَّظى الحمراءُ.. و الليل الرتيبُ

من ذا يُداجي ضحكةَ الأيامِ لو

منها دنا مع عتمِها العقلُ النَّجيْبُ

هذا الجميلُ مُسافرٌ في الغيبِ

أرواحاً تناسلَ من غوامِضِها الأديبُ

 

إنْ قيلَ منْ ابنُ المدى الشَّافي

أجابَ الدَّهْرُ: من رحمِ المدى وُلِدَ الخطيبُ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *