التعليم في عصر الثورة الصناعيّة الرّابعة

Views: 320

د. خالد صلاح حنفي محمود*

واجَهت البشريّةُ طفراتٍ غير مسبوقة. فكيف عسانا نستعدّ ونُعِدّ أولادنا لعالَمٍ يعجّ بتلك التحوّلات غير المسبوقة والشكوك المتعمّقة؟ سيبلغ مولود اليوم نحو الثلاثين من عمره بحلول العام 2050، وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسيكون هذا الطفل على قَيد الحياة في العام 2100، فما الذي يجب أن نعلِّمه لهذا الطفل لنعينه على البقاء والازدهار في عالَم 2050 أو ما بعده؟ وما نَوع المهارات التي سيحتاجها هؤلاء الأطفال كي يحصلوا على وظيفة، ويفهموا ما يدور حولهم، ويسيروا على هدىً في متاهات الحياة؟

يرجع مسمّى “الثورة الصناعيّة الرّابعة” إلى التسمية التي أطلقها المنتدى الاقتصادي العالَمي في مدينة دافوس في سويسرا في العام 2016، على الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورات الصناعيّة. وتتميّز الثورة الصناعيّة بدمْجِ التقنيّات التي تطمس الخطوطَ الفاصلة بين المجالات الماديّة والرقميّة والبيولوجيّة، من خلال اختراق التقنيّة الناشئة في عددٍ من المجالات، بما في ذلك الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والبلوك تشاين، وتقنيّة النانو، والتقنيّة الحيويّة، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثيّة الأبعاد، والمركّبات المستقلّة، وغيرها من العلوم والمفاهيم التي أصبحت أساسيّة في مواكبة العالَم والمضيّ نحو عالَمٍ رقميّ بعيداً من العلوم التقليديّة التي أصبحت متهالكة في هذا العالَم الرقمي الجديد.

يرى الخبراء أنّ المزيد من التغييرات تلوح في الأُفق، كما تشير الدراسات إلى تحوُّل عالَم الأعمال بوتيرةٍ ثابتة لم يشهدها العالَم من قَبل، وذلك بفضل التطوُّرات الهائلة في التكنولوجيا التي ستحلّ محلّ المهارات والبراعة البشريّة المُعتادة، ومواجهة مجموعة من السيناريوهات التي تسيطر فيه الأتْمَتَة على عالَم الأعمال، واحتمال استحواذ الأتْمَتَة أو الذكاء الاصطناعي على جوانب كبيرة من القوى العاملة الحاليّة، لتمحو مجموعاتٍ كاملة من المِهن وتجعل العديد من الوظائف من الماضي.

وطبقاً لدراسةٍ أجراها معهد ماكينزي العالَمي في 46 دولة، فإنّ هناك أكثــر مــن مليون موظّف من حَول العالَـم سوف يفقدون وظائفهم، وهو ما يقارب خُمس القوى العاملة عالميّاً، ويحلّ محلّهم الروبوت حتّى العــام 2030. ليست التكنولوجيا هي التي تؤثِّر بشكلٍ عميق على عالَم الأعمال فقط، بل تتصادم التغييرات التي تحدث في التكنولوجيا مع مجموعةٍ من المتغيّرات المؤثّرة في أماكن العمل وفي طبيعة العمل.

ولأنّ عجلةَ الثورة الصناعيّة الرّابعة بكلّ تجلّياتها تدور بشكلٍ متسارع، كان لا بدّ من التيقُّظ لها، ومواكبتها، أو حتّى اتّخاذ خطواتٍ استباقيّة، لجهة الإعداد والتأهيل والتحديث، للاستفادة ممّا تقدّمه من مزايا تخدم منظومة العمل بشكلٍ خاصّ، وتُساعد الشعوب والحكومات على التقدُّم والتحضُّر، وتقديم خدماتٍ أفضل، ترفع من مستويات إسعاد الناس، وتسهِّل حياتهم.

هناك بعض المهارات التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي والروبوتات الحصول عليها (حتّى هذه اللّحظة). فلا يزال البشر متميّزين في المهارات البشريّة ذات القيمة العالية، مثل القيادة، والإبداع، والذكاء العاطفي والأحكام التقديريّة ونقْل المعرفة، وسيظلّون متميّزين في هذه الجوانب حتّى مع استحواذ الذكاء الاصطناعي وعِلم الروبوتات على الكثير من جوانب حياتنا. فهذه هي المهارات التي سيبحث عنها أصحابُ العمل في مستقبلٍ ليس ببعيد في مجال العمل، ومن ثمّ فمن المنطقي أن يسلِّح الأفرادُ أنفسَهم بهذه المهارات إن أرادوا الاستمرار كجزءٍ مهمٍّ ومطلوبٍ في القوى العاملة في المستقبل.

وسوف تخلق الثورةُ الصناعيّة الرّابعة مجالاتٍ جديدة للعمل، مرتبطة بتقنيّاتها مثل تحليل البيانات الكبيرة، وأسواق التطبيقات والويب، وإنترنت الأشياء، وتقنيّة التعلُّم الآلي، والحَوسبة السحابيّة، والتجارة الرقميّة، وتكنولوجيا الواقع المعزّز، وتقنيّات التشفير، وتقنيّة الموادّ الجديدة، والبلوك تشين، والطباعة ثلاثيّة الأبعاد، والروبوتات الثابتة، وتقنيّات التكنولوجيا الحيويّة، والروبوتات البشريّة.. وغير ذلك من المجالات الواعدة التي تتطلَّب بدورها مهارات، وتحتاج إلى إيجاد مهنٍ ووظائف جديدة في سوق العمل.

في مُواجهة تحدّيات الثورة الصناعيّة الرّابعة

الحقيقة أنّ البشر لا يستطيعون التنبّؤ بالمستقبل بدقّةٍ، فليس لدينا أدنى فكرة الآن كيف ستبدو الصين أو باقي بلاد العالَم في العام 2050، كما أنّنا لا نعرف ماذا سيفعل الناس كي يكسبوا قوت يومهم في المستقبل، ولا نعرف كيف ستعمل الجيوش أو الأنظمة البيروقراطيّة، ولا نعرف كيف ستكون العلاقات بين الجنسَيْن. ربّما سيعيش بعض الناس حياةً أطول بكثير ممّا يعيش الناس الآن، وقد يَشهد الجسم البشري نفسه طفرةً غير مسبوقة بفضل الهندسة الحيويّة ووسائل الاتّصال المباشر ما بين الدماغ البشري والحاسوب. ومن المرجَّح بحلول العام 2050 أن يكون كثير ممّا يتعلّمه أولادنا اليوم عديم الصلة بالواقع العلمي.

تُركِّز مدارس كثيرة جدّاً في الوقت الحالي على حشو أمخاخ الأطفال بالمعلومات. كان هذا مفيداً في الماضي لأنّ المعلومات كانت شحيحة، وعلى النقيض من ذلك، أصبحنا في القرن الحادي والعشرين مغمورين بكميّاتٍ هائلة من المعلومات، فإذا كان الفردُ يمتلك هاتفاً ذكيّاً فسيكون بإمكانه قضاء فترات طويلة عديدة من عمره وهو يُطالع ويكيبيديا وحسب، أو يشاهد مُحاضرات تيد TED التقنيّة، أو يتلقّى دوراتٍ تدريبيّة مجّانيّة على الإنترنت. وكلّه يعتمد على نقرة زرّ، ولكن ثمّة معلوماتٍ متناقضة كثيرة لدرجة تجعل من الصعب معرفة ما يُمكن تصديقه، كما أنّ هناك أشياء أخرى لا تحصى تجعل التركيز أمراً صعباً.

في عالَمٍ كهذا، تكون المعلومات آخر ما يحتاجه المعلِّم لتقديمه لتلاميذه، فهُم مُتخمون بكمٍّ هائل منها بالفعل. وبدلاً من الحصول على المعلومات، يحتاج الناس إلى الاستفادة منها، وإلى التمييز بين المهمّ وغير المهمّ، لكنّ الأهمّ من هذا وذاك هو تجميع كلّ هذه المعلومات المتفرّقة لتكوين صورة كبرى للعالَم.

لقد افترضت تلك المدارس أنّه طالما أعطينا الطلّابَ الكثير من المعلومات والقليل من الحريّة، فسيرسمون صورتهم الخاصّة بالعالَم، وحتّى لو فشل هذا الجيل في التأليف بين جميع البيانات في حكايةٍ متناسقة وذات مغزىً عن العالَم، فسيكون هناك متّسعٌ من الوقت لعمل توليفةٍ أفضل منها في المستقبل.

لقد نفدَ منّا الوقت، وستُشكِّل القراراتُ التي نتّخذها خلال العقود القليلة القادمة مستقبلَ الحياة نفسها، ولا يسعنا أن نتّخذ هذه القرارات إلّا بناءً على رؤيتنا الحاليّة للعالَم. فإذا ما افتقر الجيلُ الحالي إلى رؤيةٍ شاملة للكون، سيتحدَّد مستقبل العالَم بشكلٍ عشوائي.

بالإضافة إلى المعلومات، تركِّز معظم المدارس بشكلٍ مُبالغٍ فيه على تزويد الطلّاب بمجموعةٍ من المهارات المحدَّدة مسبقاً، مثل حلّ المعادلات التفاضليّة، وكتابة شفرة الحاسوب بلغة ++C، والتعرُّف إلى الموادّ الكيميائيّة في أنابيب الاختبار، أو التحدُّث باللّغة الصينيّة. ولكن، بما أنّنا لا ندري كيف سيبدو العالَم وسوق العمل عام 2050، فإنّنا لا نعرف حقّاً ما المهارات الخاصّة التي سيحتاج الناسُ إليها.

ماذا عن أطفالنا وتحدّيات الثورة الصناعيّة الرّابعة؟

يكمن الحلّ في “تمكين الطفل في عصر الثورة الصناعيّة الرّابعة” ليتفاعل مع فكرٍ وقيَمٍ ومهاراتٍ كونيّة في حضارة جديدة تحيط بنا، ليتحقَّق بذلك شعار “عقل جديد.. لإنسانٍ جديد.. في مُجتمع جديد”.

ويرى كثير من الخبراء التربويّين أنّ المدارس يجب أن تتحوَّل إلى تعليم (المهارات الأربع) المتمثّلة في التفكير النقدي، والتواصُل، والتعاوُن، والابتكار. ويؤمن هؤلاء الخبراء بأنّ المدارس يجب أن تُقلِّل من المهارات التقنيّة وتركِّز على المهارات الحياتيّة ذات الأغراض العامّة. والأهمّ من ذلك كلّه هو القدرة على التعامل مع التغيير، وتعلُّم أشياء جديدة، والحفاظ على التوازُن العقلي في المواقف غير المألوفة. ولمُواكَبة عالَم 2050، لا بدّ أن تفعل ما هو أكثر من مجرّد ابتكار أفكار أو منتجات جديدة، لا بدّ أن تُعيد اختراع نفسكَ مراراً وتكراراً قبل أيّ شيء. وهناك حاجة إلى إعداد الطفل وتنمية قدرته على التعامل مع مهارات الثورة الصناعيّة الرّابعة من خلال:

  • تعليم الطفل، في المراحل الأولى للتعليم، المهارات التكنولوجيّة الأساسيّة، وكيفيّة التعامُل مع شبكة الإنترنت، وتمكينه من الرقْمَنة؛ فالطفل الرقمي هو الطفل الذي يملك ذكاء الرقْمنة، ويُجيد استخدام التقنيّة، ويقوم على إتقانها وتطوير مهارته فيها.
  • الكشف عن الأطفال الموهوبين رقميّاً وتعهّدهم بالرعاية والاهتمام من خلال الأسرة أو المؤسّسات التعليميّة.
  • دمْج مهارات الثورة الصناعيّة الرّابعة في المناهج وتطوير ودعْم المَوارد التدريسيّة، والحاجة إلى تغيير طُرق التدريس مع مزيدٍ من التركيز على المنهجيّات المُستنِدة إلى المشروعات أو حلّ المشكلات أو المنهجيّات المتمحورة حول التلميذ، استخدام المواقف التعليميّة والحياتيّة لتنمية مهارات الطفل.
  • الاهتمام بالطفل الرقمي وأنماط تعلُّمه، حيث صارت الأجهزة الذكيّة وسيلةً مهمّةً في تعليم الطفل. ولكي نحقِّق استفادة أطفالنا من هذه الأجهزة واستخدامها بشكلٍ مناسب، والحفاظ على خصوصيّته وسلامته، يجب أن يتعلَّم كيفيّة استعمالها بعقلانيّة وتقنين، فالطفل الذي يمتلك مهارةً في استخدام الأجهزة الذكيّة يكون أكثر قدرة وتطوُّراً في التعامُل مع برمجيّات هذه الأجهزة مستقبلاً، فهي تمكِّن الطفل من تعلُّمها ذاتيّاً.
  • استخدام الأجهزة الذكيّة والبرامج والتطبيقات في تعليم الطفل، وتقديم المادّة بصورة شائقة تقود الطفل خطوة بخطوة نحو إتقان التعلُّم، ويمكن استعمالها داخل الفصل من خلال المعلِّم/ المعلِّمة، بوصفها أداة تعزيز، أو خارج الفصل، بوصفها أداةً للتعلُّم الذاتي.
  • تطوير البيئة التعليميّة المحيطة بالطفل، من خلال الأنشطة المدرسيّة المختلفة لتعلُّم المهارات الحياتيّة كالقدرة على اتّخاذ القرار والثّبات الانفعالي، وتنظيم الوقت وإدارته، والتعاون، والنقد، والإبداع، وغيرها من المهارات.

***

*أستاذ أصول التربية المساعد 

كليّة التربية – جامعة الإسكندريّة

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *