زكي ناصيف والأغنية التي كادت تنافس النشيد الوطني

Views: 704

فارس يواكيم

أنشد زكي ناصيف “راجع يتعمر لبنان” (كلماته ولحنه) في ختام الحرب التي عصفت بلبنان بين 1975 و1990، فَسَرت هذه الأغنية بسرعة في وجدان اللبنانيين وشَدَت بها حناجر الناس، فكادت تنافس النشيد الوطني؛ وطغت على بريق أغانٍ وطنية أخرى من نظمه وتلحينه مثل “لبنان الغالي” لنصري شمس الدين، أو “تسلم يا عسكر لبنان” (صباح) و”وحدك يا عسكر لبنان” (سلوى القطريب) و”مهما يتجرح بلدنا” وهذه أنشدها بصوته متأثّرًا بمجزرة قانا سنة 1996. 

وراجت أغنيته “راجع يتعمّر” بأصوات نجوم، منهم ماجدة الرومي. وفي حفل عيد الاستقلال عام 1991 أنشدها مبدعها يرافقه نجوى كرم ووليد توفيق وغسان صليبا وربيع الخولي، وردّدها جمهور الحاضرين وقد استمعوا إليها وقوفًا، مصفّقين من بدايتها حتى نهايتها. وكانت عوامل عدة سببَ النجاح الكبير الذي عرفته: مضمونها الذي يشحن مَنْ يستمع إليها بالأمل بعد معاناة دامت خمسة عشر عامًا، وإيقاع الدبكة الحماسي، ولمعة “هلا يابا” وما تمثّله من جمالٍ موسيقي، ومن صلة بالتراث الشعبي. 

 

في هذه الأغنية يكمن سرّ صنعة زكي ناصيف في الموسيقى والغناء. الفنان المولود في بلدة مشغرة (لبنان) سنة 1916، اهتمّ بالغناء منذ سنيّ المراهقة، وتشبّع بأنغام الفولكلور من العتابا والميجانا وأبو الزلف والمواويل، وبتطريبات مصرية لسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وسلامة حجازي، ومن الترتيل البيزنطي. وقد أضاف إلى هذه المصادر ما تعلّمه من الموسيقى الكلاسيكية على أيدي مدرّسين روس في معهد الموسيقى بالجامعة الأميركية في بيروت نظريًا، وعمليًا بالعزف على البيانو والتشيللو، وبعد الجامعة على يد الفرنسي برتران روبيار (مدرس الأخوين رحباني أيضًا). كان الموسيقي توفيق الباشا، زميله في الدراسة بالجامعة، وصديق العمر، ورفيقه في “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وبانتمائه إلى فكر أنطون سعادة، قد تعلّق بفلكلور بلاد الشام. 

أعطاني مثالًا على استيعابه للفلكور، قال: “عندما لحّنت (طلّوا حبابنا) تردّدَتْ في ذاكرتي الموسيقية أغنية شعبية غنّيناها ونحن أطفال (قام الدبّ تا يرقص، قَتَّل سبع تْمان تِنْفُس)، ولكي يُبَسّط الشرح ردّدها منَغَّمَة “تا تا تا تيرا را..”.

كان حلمه الأكبر أن يصبح مطربًا رغم موهبته في التلحين

كان أصغر أخوته الذين يعملون، كمعظم أهالي مشغرة آنذاك، في دباغة الجلود وتجارتها. وبدأ العمل معهم سنة 1941، لكن باله كان منشغلًا بالموسيقى. ولاحقًا أخبرني وهو يتندّر ساخرًا: “فشلت في العمل مع أخوتي منظّمًا دفاتر الحسابات. بدلًا من تسجيل الأرقام، دوّنتُ النوطات الموسيقية”! بعد سنوات تفرّغ للموسيقى، واعتُمِد مغنِّيًا وملحّنًا في الإذاعة اللبنانية، وفي إذاعة “الشرق الأدنى”. 

 

كان حلمه الأكبر أن يصبح مطربًا، برغم موهبته الفائقة في التلحين ومعرفته الأكيدة بأصول التأليف الموسيقي. وكان يملك صوتًا جميلًا، طبعًا ليس بقوة أصوات وديع الصافي أو نصري شمس الدين أو جوزف عازار. سجّل العديد من الأغنيات التي كتبها ولحّنها لكي يؤديها. ولدى تسجيل الألحان التي وضعها لغيره، كان يستمتع بالغناء مع الكورس المصاحب للمطرب أو المطربة. تمكنتُ من تمييز صوته، وسيكتشف ذلك أيضًا كلّ مَنْ أصغى السمع جيدًا. 

أنشد العديد من الأغنيات بصوته، وكلها من كلماته وألحانه. وكان ينظم بالعامية اللبنانية وبالعربية الفصحى. ومن أشهر أغانيه: يا عاشقةَ الوردِ، نقّي لك أحلى زهرة، يا عين عاد القمر، هيهات يطلّوا الحلوين، حلوة ويا نيّالها، حبايبنا حوالينا. وسجّل بصوته بعض ألحانه للآخرين منها ما أنشده وديع الصافي (صبحنا وفجر العيد) أو سميرة توفيق (نَدّي النسايم يا هوا) أو جوزف عازار (نزلت تتنقل). وفي الاتجاه المعاكس أعاد مشاهير أهل الطرب أداء أغنياته.

 كان زكي ناصيف في أول مهرجانات بعلبك سنة 1957 (عرس في القرية) مؤلفًا بعض الألحان، منها “طلوا حبابنا”. لم يؤدّها صوت منفرد، بل الكورس. وزكي ناصيف هو أوّل من لحّن أغاني للكورس. لاحقًا جعل صوت وديع الصافي هذه الأغنية على كل حنجرة وصوت، وغنّاها عصام رجي في مسرحية “ميجانا” لروميو لحود، وغنّتها ماجدة الرومي في عدة حفلات، كما غنّت “ليلتنا من ليالي العمر” و”سهرنا سهرنا” و”يا بلادي مهما نسينا” التي غناها من قبل وديع الصافي وصباح، ومنها مقطع “اشتقنا كتير” وقد اشتهر بصوت ماجدة الرومي بأغنية “فرحنا كتير”. أما وديع الصافي فغنّى “لا، لا، لا، عيني” من ألحان زكي ناصيف للكورس في “عرس في القرية”. 

 

كانت قصيدة “كيف أنساك” للشاعر محمد يوسف حمّود أول أغنية لزكي ناصيف من ألحانه. سجّلها في “إذاعة الشرق الأدنى” سنة 1953. وفي السنة التالية لحّن قصيدة “هو وهي” للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان وسجّلها بصوته مع: فيروز! لكن التجربة لم تتكرر. كان عليهما، فيروز وهو، أن ينتظرا سبعًا وعشرين سنة لتصدح فيروز مجددًا بألحانه.

لم تنل أغاني زكي ناصيف شعبية واسعة في العالم العربي 

وقد غنّى الكبار ألحان زكي ناصيف. أضيف إلى الأغاني التي سبق ذكرها في هذه المقالة، على سبيل المثال، ما أنشده وديع الصافي: قفلة “ليلتنا من ليالي العمر” و”رمشة عينك”. وغنّت صباح: “أهلا بها الطلّة”، “يا ضيعتنا” و”من الأول”. ومن ألحانه غنّى نصري شمس الدين: “لأقطف لك وردة حمرا” و”وحياتك يا درب العين”. وبصوت سميرة توفيق: “نسِّم يا هوا شمالي” و”حبيتك يا غزالي”. ولجوزف عازار: “ع الدبكة يا ام الجدايل” و”دورة دورة ع الدورة” و”هلا يا ريم الفلا” (لاحقًا غنّتها سلوى القطريب). أما ماجدة الرومي التي أعادت أداء بعض أغانيه، فقد غنت ألحانًا وضعها زكي ناصيف خصيصًا لها، مثل: “رَفْرِف وأسْعِدْنا” و”ضوّي يا قمر” و”لا، لا ما فيّي” والأخيرة من كلماتها هي. ولسمير يزبك “طلّي طلّي قبالنا” وللمغنّية وداد: “في وردة بين الوردات”. أما مجدلى فغنّت “تركوني أهلي بها الليل” و”طاير طاير بالبشاير”. وأما غسان صليبا فغنّى: “ع الساحة قومي انزلي”. هذا ولزكي ناصيف ألحان اشترك في أدائها عدة أصوات، مثل “رايحة مشاوير بعاد” (أغنية الختام في مسرحية “فرمان”) أنشدها: مجدلى، وجوزف عازار وسمير يزبك وعصام رجّي. 

وتأخّر اعتناق صوت فيروز ألحانَ زكي ناصيف إلى عام 1981. اجتمعا في أنشودة “يا بني أمي” وكلماتها مختارات من كتابات جبران خليل جبران، أضاف إليها لدواعي الربط بين العبارات: جوزف حرب وزكي ناصيف. أنشدتها فيروز بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاة جبران. ولأن كلمات الأغنية من النثر الشعري، وليست كالمعتاد من العمودي الموزون المقفّى، يغدو تلحينها صعبًا. الشعر العمودي منظوم على أحد بحور الشعر العربي، والأشطر متساوية الطول، الأمر الذي يسهّل مهمّة الملحن. وقد نجح زكي ناصيف في تجاوز هذه العقبات، كما نجح الأخوان رحباني عندما لحّنا “المحبة” وزياد الرحباني بلحن “سفينتي في انتظاري” (مختارات من كتابات جبران أيضًا). وبرغم جمال اللحن والكلمات في هذه الأغنيات، لم تلقَ رواجًا كافيًا لدى المستمعين، كمثل الشعبية التي عرفتها أغنية “أعطني الناي وغنِّ” أو “سكن الليل” وكلاهما من قصائد جبران العمودية. وفي اعتقادي أن السبب مردّه إلى صعوبة أداء الأغنيات الثلاث بأصوات العامة، في حين رددوا بسهولة “أعطني الناي” و”سكن الليل”. 

 

وبعد سنوات من إنجاز أغنية “يا بني أمي”، صدرت أسطوانة بها تسجيل هذه الأغنية، وثماني أغنيات من نظم زكي ناصيف (بعضها بالعربية الفصحى وبعضها بالعامية اللبنانية) ومن تلحينه، بشدو فيروز الرائع: “أهواك بلا أمل” و”سحرتنا البسمات” و”فوق هاتيك الربى” (وهذه تحمل عنوان “أناجيك في سرّي” أيضًا) و”ع دروب الهوى” و”من يوم اللي تغرّبنا” و”بناديلك يا حبيبي” و”ع بالي يا قمر” و”أمي الحبيبة”. وقد جرى التعاون بين فيروز وزكي ناصيف في الفترة التي أعقبت الانفصال بينها وبين الأخوين رحباني، وهي المرحلة التي نشط فيها فيلمون وهبي وزياد الرحباني في تقديم الألحان لفيروز. 

وترجع علاقة زكي ناصيف بالأخوين رحباني إلى مطلع خمسينيات القرن الماضي وكان الجميع يتعاون مع إذاعة “الشرق الأدنى”. تشكّلت آنذاك جماعة موسيقية أطلق عليها “عصبة الخمسة” على غرار العصبة الخماسية التي جمعت كبار الموسيقيين الروس. تألفت العصبة اللبنانية من الأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، وتباينت الروايات بشأن العضوين الرابع والخامس وهما من بين ثلاثة أسماء تمّ تداولها: حليم الرومي وفيلمون وهبي وتوفيق سكر. وكان هدف هذه العصبة الإفادة من الفلكلور لتطوير الموسيقى اللبنانية. ومعظم أعضائها تولّى تأليف الموسيقى والأغنيات في افتتاح مهرجانات بعلبك “عرس في القرية”، ثم في الليالي اللبنانية سنة 1959، إذ عُهد بتلحين الفصل الأول إلى الأخوين رحباني، والفصل الثاني إلى زكي ناصيف وتوفيق الباشا. وعاد زكي ناصيف إلى بعلبك سنة 1964 مساهمًا مع توفيق الباشا وفيلمون وهبي وعفيف رضوان وآخرين في ألحان “أرضنا إلى الأبد” (صباح ووديع الصافي). وفي 1970 والسنة التالية شارك في ألحان مهرجانيْ “فرمان” (مجدلى وشوشو) و”مهرجان” (صباح). وفي آخر مهرجان أقيم سنة 1974 قبل توقف مهرجانات بعلبك بسبب اندلاع الحرب في لبنان، وكان بعنوان “وتضلّو بخير” (صباح ووديع الصافي) ساهم في تأليف الألحان ومعه توفيق الباشا، فيلمون وهبي، وديع الصافي، إيلي شويري، وملحم بركات. 

لم يكتفِ زكي ناصيف بتلحين أغان فردية، بل ساهم أحيانًا بتأليف المقدمات الموسيقية، وموسيقى خاصة بلوحات مثل “رقصة المحبة” و”أرض الرجال”، وألحان يؤديها الكورس مثل “هلّي يا سنابل”. 

ولم تقتصر مساهماته على مهرجانات بعلبك، إذ اشترك في مهرجانات أخرى وفي مسرحيات أنتجها روميو لحود، أو تولّت صباح بطولتها. وكان من ملحني فرقة “الأنوار” التي أسسها سعيد فريحة وكان وديع الصافي بطل عروضها. وكان لقائي الأول مع زكي ناصيف لدى تقديم المغناة في الإسكندرية سنة 1961. أقامت الجالية اللبنانية حفلًا تكريميًا لنجوم الفرقة حضره وديع الصافي وزكي ناصيف، وخلاله تبادل أهلي التحيات معه، بسبب الصداقة مع أخيه رفيق ناصيف وأهل زوجته الزحلاوية منى سكاف (خالة الصحافي جورج طرابلسي). وصرت أدّعي صداقته أمام أقراني الشباب، ولم أخبره بمزاعمي هذه عندما توطدت الصداقة بيننا لاحقًا في بيروت أواخر الستينيات، وكان شارع صغير يفصل بيتي عن بيته.

 

***

في بيروت توفي سنة 2004. وكان في السنوات الأخيرة مستاء من تدهور الإنتاج الموسيقي، ومتلاعبًا بالألفاظ سائلًا “عجبتك هالمُسيئة؟”، ومن انحدار أذواق جمهور المطاعم “الذي يسمع بقدميه”.

برغم جمالها لم تنل أغاني زكي ناصيف شعبية واسعة في العالم العربي كالتي عرفتها في بلاد الشام، لأنها بنت هذه البيئة، خصوصًا اللبنانية، بكلماتها وألحانها. وأقول أيضًا إنه ابن الريف أكثر من كونه ابن المدينة. الأنغام فيها جذور الفلكلور، والكلمات تحيل على أجواء الضيع، خصوصًا التقليدية منها. هو ناظم “نحن بعيشتنا رضينا/ وعاداتنا عليها ربينا”. و”رِقّي رِقّي يا عيّوقه/ رقّي وهِلّي ع الصاجِه/ كل لقمة خبزة مرقوقه/ بتسوى خمسين كْماجِه”. ومن الصعب أن يفهم المستمعون العرب: الخبز المهلول، المرقوق، الناضج على الصاج، فتلك مصطلحات ريفية بامتياز، والكْماجه رغيف المدينة المستدير. وقد يجهل كثيرون من أهل المدن اللبنانية هذا المصطلح. 

***

*”العربي الجديد”

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *