لا قيامةَ لشعبنا ما لم يخرج من هزائمه الأخلاقية!

Views: 284

د. مصطفى الحلوة

كتب حكواتي طرابلس (لبنان)، الممثّل والمخرج المسرحي برّاق صبيح، في صفحته على الفايسبوك (السبت 8 تموز 2023)، منتقدًا ما يعمد إليه المدخّنون في أحد المقاهي الشعبية التي يرتادها، إذْ يرمون أعقاب السجائر أرضًا، فتتشكّل منها يوميًّا كومة كبيرة، فيُبادر إلى كَنسها دون سواه! ويُعقّب على هذه المشهديّة المقزّزة قائلًا: “..الأمر لا يتعلّق بمن هو مسؤول عن النظافة في هذا الحيّز الضيّق، ولا علاقة للأمر ببلديّة أو جهة دولية مانحة لمشروع تنظيف شقفة رصيف. هي، بتجرّد، نظافة العقول المعدمة، والسلوك الجماعي الفاسد والسيّء، إلى حيث أعماق النفوس!”.ويختم: “هذا حيث أنا على الضيّق، فما بالكم بمدينة كطرابلس، لا بل ببلد كلبنان؟!”. ولا ينسى أن يتوقف عند ملاحظة/ مفارَقة، تؤشّر على الانحطاط الأخلاقي والإمعان في الوساخة، عن سابق تصوّر وتصميم، بشقّيها المادي والقيمي، التي تتّسم بها هذه الشريحة من “المواطنين!” المدخّنين: “المنافض موجودة على الطاولات كلّ الوقت!”.

يتحصّل مما أورده الحكواتي صبيح أنّ المسألة لديه لا تتعلّق بتقصير من قِبل البلدية -بيد أنّها مقصّرة في أمور شتّى ولا يُمكن الدفاع عنها- ولا لجهة مانحة، تتبنى مشروعًا لتعميم النظافة لدينا. بل المسألة أبعد بكثير، إذْ ترتبط بِ “وساخة العقول”، المتأصّلة عند شريحة واسعة من مجتمعنا، تتعدّى هذه الفئة من المدخّنين!

..هذه القضية ليست تفصيلًا صغيرًا، كما يتراءى للبعض من قصيري النظر، فيذهبون إلى القول: “شو هالقصّة يا شيخ، بتحرِزْ نحكي عنها، والناس في مكان آخر، يطحنها الوضع المعيشي وتدنّي القيمة الشرائية للعملة الوطنيّة، وتعطُّل المرافق العامة، لا سيما الخدميّة، في ظل الانهيار العام، والهموم اليومية، من همّ الاستشفاء  المرعب، إلى همّ الدواء، إلى همّ الماء والكهرباء، وإلى آخر ما تتضمّنه لائحة القهر، التي نفتح أعيننا عليها كل صباح ونغلقها، ونحن نلهج بها كل مساء!”. لا، يا سادة، مكمن علّتنا هنا، كمجتمع وكشعب وكوطن! القضايا لا يتمّ تعاطيها، من حيث النظر إليها على أنها “صغيرة”، بل من منظور ما تشي به من دلالات ومؤشّرات، ومن خلال النتائج التي تُفضي إليها! من هنا فإن المسألة، موضوع نقاشنا، تطرح واحدة من أخطر القضايا، التي تُشير إلى أنهيار المنظومة الأخلاقية السلوكية، لدى فئات واسعة من مواطنينا، وهي المنظومة التي تُشكّل عامل تحصين للمجتمع. وينبغي أن يُنظر إلى المسألة من مقلبين: الأول، فقدان حسّ النظافة، لدى فئة لم تَرَ “التربية على النظافة” إليها سبيلًا، لا ضمن  النواة المجتمعيّة الأولى، أي العائلة، ولا في المؤسّسة التعليميّة، ولا في مركز العمل، ولا في أيٍّ من الهيئات التي تنضوي إليها (الحزب، النقابة، الجمعية..الخ). ومن مقلب آخر، فهي تُجسّد عدم انتماء الفرد إلى الفضاء العام، الذي يعيش فيه (الشارع أو أي مكان عام، أو خاص غير نطاقه الذاتي الذي يتقوقع فيه). فهذا الفرد، الذي يحرص على نظافة منزله، لا يتورّع عن رمي الأوساخ من شباك المنزل إلى الشارع، مجسّدًا بذلك عدم انتمائه  إلى ما يتعدّى حدود المنزل. أو بمعنى أكثر وضوحًا، هو فاقدٌ الانتماء إلى وطنه!

في توسعة للمسألة، دون الخروج على جوهر الموضوع، لطالما نردّد قولًا شعبيًّا  متداولًا:” يللي بيسرق بيضة بيسرق جَمَل!”. وهذا يعني أنّ العبرة ليست في قيمة الفعل مادّيًا (أي ما يُساوي ماليًّا) بل في فعل السرقة، كتصرّف لا أخلاقي ومحرّم شرعًا. فهذا الفعل يبدأ بالأشياء الصغيرة، ولا ينتهي عند حدّ معيّن! فسارق البيضة، إذا غدا موظّفًا حكوميًّا سيسرق الدولة ومواطنيه، والعامل سارق البيضة سيسطو على أموال المؤسسة التي يعمل فيها، وهلُمّ جرّا..

من هذه القضية، قضية الوساخة وما يماثلها، كفعل لا أخلاقي، نخلص إلى أنّ المواطن اللبناني، غير المنتمي إلى الفضاء العام، بمختلف واجهاته، لا يستطيع أن ينتمي إلى أي قضيّة ذات بُعد نضالي. بمعنى أنّه غير مؤهّل لمجابهة طبقة سياسية فاسدة  ومُفسِدة، أفقرته وجوّعته وشرشحته وشرّدت الأبناء في أربع جهات المعمورة!

إنّ الانتصار على الذات أخلاقيًّا، بل الخروج من هزائمنا الأخلاقية يُمثّل الخطوة الأولى، في مسيرة طويلة، لمواجهة مختلف شؤوننا والشجون، وما أكثرَها! من هنا، من البؤرة الأخلاقية السلوكية نبدأ ، وإلّا الطوفان! وللإعتبار، يجب أن نضع نُصب أعيننا والسمع ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي: “وإنّما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيتْ/ فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهُم ذهبوا”.

***

*من بيادر الفسابكة/قراءة نقديّة في قضيّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *