أبوابُ اليقظة

Views: 62

محمد إقبال حرب

أغمضتُ عينيَّ مُرتحلًا من حيث يزهو عِشقي، إلى حُلمٍ يتجلّى رُغم بُعدِه. امتطيتُ صَهوةَ أيّامي فرسًا خُرافيًا طار بي بعيدًا، بعيدًا، حتى غشِيَني النُعاسُ فأغمضتُ عيني برهةً لأستريحَ بينما ترِفُّ أجنحةُ الحِصانِ محلِّقةً في رحابِ الفضاء. فجأة ألقى بي في غابةٍ تتوسّطُها باحةٌ كبيرةٌ يكسوها ربيعٌ غامرٌ. سقطتُ هناك خائفًا ألّا يكتملَ حُلمي. ما أن تعافيتُ من صدمةِ ارتطامي حتى سِرتُ وحيدًا بين أشجار الغابة متلطّيًا حذِرًا، متشبّثًا بالخوفِ والأمل. فجأة، ومن دون سابقِ إنذار تسلّلَ إلى مَجسّاتي عبقٌ غريبٌ، جذّابٌ، كأنما يُدرك متاهاتِ كينونتي.

أخذتني دهشةُ الفضاءِ الساكِن بلحنِ الطبيعةِ الذي بدا كمِسبارٍ خفي يتغلغلُ في كَياني فشعرتُ أنني وسيمٌ. اخترقني رحيقٌ أنثويٌ نفّاذٌ نثرَ عَبَق حواء في فضائي، فارتعشتُ حدّ البُكاء فرحًا. جلست على الأرض متيقّظًا باحثًا عن مِفتاح أشُقّ به طريقي إلى مصدرِ تلك الأنثى علّها تحمِلُ مفاتيحَ حُلمي المزعوم. فجأة داهمَني ما ليس بالحسبان، موجةُ مشاعرٍ مُتسارعةٍ اقتحمتني كعدوٍ خبيرٍ بأسرارِ دفاعاتي فسقَط مُلكي وحملتني الريحُ على بساط الدهشةِ إلى هناك.

هناك حيث انبلجَ معبدٌ غريبٌ، كانت أزهارُ الأوركيد تُقدّم قرابينَها مع مدٍّ لا ينتهي من أزهارٍ وورودٍ جاءت من أقطار الدنيا حاجَّةً إلى رمزٍ ما، لم أتبيّنه بعد. تجلّى الغُروب بحنينِ البُرودة يُداعبُ أوراقَ الشجرِ فغدا حفيفُها نغماتٍ تتماهى مع خريرِ السواقي التي تحيطُ بمتكئ لم أرَ منه إلا تموّجاتِ غدائرَ كستنائيةٍ تنسدلُ متماوجةً مع عرائشَ الياسمين. تزاحمت العطورُ في فضائي حتى غمرني ضوعُ أُنوثةٍ جارف. (dramarnathansdentalcare.com)

ها هي تغاريدُ العصافيرِ تناجيني، تدعوني أن أقتربَ بابتهالاتي إلى حيثُ هي. سِرتُ ببُطءٍ على بساطِ الشوق وجِلًا حتى بدا جسدُها المتناسقُ يُنير دربي بنورِه. كانت مستلقيةً بِسُكونٍ، تتدثّرُ ببتلاتِ الزهر فبدت تقاطيعُ جسدِها تـموّجاتٌ مغريةٌ تُشيحُ عن مُنحنياتِها كنوزُ أُنثاها. تتراقصُ حولَها أكاليلُ الجوري فيما تظلّلها عناقيدُ الأوركيد في طقوسٍ مقدّسّة تُبارك قدسيّةَ الروح وجمالَ الجسد. توهجَّت فجذبَني مدارُها إلى حيث تتجلّى. شعرتُ بشيء يسبِرُ كِياني، مشاعرٌ تقتحمُني، تغسِل أدراني، تُفكّك سجلَّ عمري بسكونٍ جلَل. تجسّدت أحلامي بأقسى درجاتِ جُنوني حتى أخذني عُنفوان المَدار في رحلةٍ طغت على حقيقتي المُبهَمة فسقطتُ من علياءَ إلى حيث هي. سطع إغراءُ شفتيها الارجوانيّتين بدعوة اللقاءِ فافترّتا عن بسمةٍ ارتعدت لها فرائصي. خدُّها الأسيلُ نورٌ يُضيء جسدَها الحريري بلون الخجل. رمقتني بلحظِها من عينين جمعتا أساطيرَ الدنيا سِحرًا. غُصتُ في بحار عينيها، بينما أقترب من أناملِها، أتمسّكُ بهما خوفًا من سقوطٍ ثانٍ لا أعرف وجهتَه.

هل سأغرق في عينيها؟ أم سأذوب بين شفتيها؟ أم ستأخذُني في لذّة أزليّة في حِضنها ترويني حديثًا عن حبٍ أتعلّمه في لذّة لم أعرِفها بعد؟

رمقتني بنظرةٍ اقتحمتني كسهامِ عدوٍّ شرس بينما تُعدّل من جلستِها. قلت لبّيكِ سيدتي.

قالت: أنت في بلاد النقاء، حيث تسقُط الشهوات.

قلت: لكنك حُلمي الذكوري المُتجسّد.

قالت: ها هنا، أرضٌ مقدّسة، تراتيلُها مزاميرُ الجمال المُطلق.

قلتُ مُستغربًا: متى كان لقاءُ حبيبين قدسيةً تمنعُ لقاءَ الأجساد؟

قالت: الحُبّ الصافي لا يختلفُ في كينونتِه، فمحبّةُ الذكرِ، والأنثى والجمادِ واحدة. حُبّ من أجل الهيولى الكونيّة كي تتشكّل نقاءً إلهيًا. سنندمجُ في كينونَةٍ روحانيّةٍ واحدة لنستشعرَ لحن الوجود.

قلت: لكنني أريد شريكةً وُدّ بشريّة.

قالت: عُد من حيث جئتَ قبل أن تبقى عالقًا في صحراء الوهم.

قلت: لقاءُ الأجسادِ ليس وهمًا، بل هو الحقيقة المُطلقة بين الذكر والأنثى، فمُشاركةُ اللحظةِ قدسيةٌ تذيب كينونةَ العاشقيَن في كِيان أزلي.

قالت: لو كان ما تقولُ حقيقةً لما تفرّق العُشاق وتخاصَم الأزواج. في عالم النقاء تندمِجُ الأرواحُ في عِشق لا تدنّسه شهواتُ الأجسادِ فتنعمُ بالأزليّة.

قلت: كم أنت كاذبة؟ لماذا إذًا تبثّين أنوثتَك في كِياني؟ لماذا تتأوهُ شفتاك إغراء؟ بل لماذا أنتِ عاريةٌ بجسدِك الثائر، صاخبةُ المنحنيات متوهجةُ المشاعر؟

قالت: ليتك تفهم أن كل ما تراه ما هو إلا تجسيدٌ لأحلامِك البعيدةِ عن حقيقتي. ما أنا إلا روحٌ هائمةٌ تحت دوحةٍ قديمةٍ تنتظرُ روحًا نقيّةً تُعانقُ وَحدتي في لقاءٍ أزلي.

لم أستجب لها، بل لم أصدّقها قط. اقتربتُ منها بغريزتي الذكوريّة، فتلاشى المكانُ حتى صمّني الفراغُ القاتلُ في حُلم أُغلِقتْ أبوابُ يقظَتِه.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *