الأدب بين الكلمة المطبوعة، والصّورة المرئيّة والمسموعة

Views: 732

مطانيوس قيصر ناعسي

اتّخذ الأدب في التّاريخ أشكالًا عديدة، منها النّصوص الشّعريّة والنّثريّة المرويّة شفويًّا، والمرسومة، والممسرحة… والمكتوبة طبعًا. واليوم، بات لزامًا علينا في اعتقادي، نحن المُتعاطين شأن الكلمة، أن نقدّم أعمالنا الأدبيّة مصحوبة بالصّوت والصّورة المُسجّلين قدر الإمكان، لأنَّ تقنيّاتهما لها وقعها الإيجابيّ على المُتلقّي المُعاصر، وإن احتوت كتابتنا في الشّكل كما في المعنى بعض العوامل التّجديديّة. فالعصر عصر الصّوت والصّورة من دون أدنى شكّ.

أؤمن بتبلور الأدب منذ مطلع القرن العشرين بطرق مُختلفة عن السّابق، من خلال السّينما والرّاديو والتّلفزيون…! وهذا، في الحقيقة، ما يجعلني لا أستغرب بلوغ الكتاب الورقيّ هذا الدَّرْك، وأتوقّع، على الرّغم من أفضليّته المُطلقة عندي، ورغبتي الكبيرة في عدم تحقّق ما أقول، خروجه من المُنافسة أكثر في المدى المنظور من السّنوات، مع كلّ ما يحمل في طيّاته من آداب وعلوم، بخلاف اعتقاد بعضهم، وأن يُستمرّ في طباعته لحفظه فقط، ما لم يطرأ عالميًّا طارئ كبير يعيدنا، ولا سيّما تكنولوجيًّا، زمنًا إلى الوراء. 

فالأدب “المُسَيْنَم”، و”المُرَدْيَو”، و”المُتَلْفَز”، ما انفكّ يطرق أبواب عقولنا لعقود وعقود، ولا يزال يفعل، فضلًا عن الأدب الرّقميّ الّذي يطغى اليوم على السّاحة عبر وسائل التّواصل التّكنولوجيّة المعروفة، حيث صار للصّوت والصّورة المُسجّلين دورهما الكبير في اجتذاب المُتَلَقّي، وفي شدّه إلى المُتابعة.

قبل السّينما والرّاديو والتّلفزيون، كان للكتابة معظم الفضل في نقل الآداب والعلوم، لأنَّ النّقل الشّفويّ، على أهمِّيَّته، كان ويبقى غير مؤهّل لحفظ ذلك كلّه، ثمّ نقله. وأنتهزها هنا سانحة للقول إنَّه لولا الكتابة الكلماتيَّة الّتي هي أدب ذاتيّ تارة، وموضوعيّ طورًا، إذ لا فعل كتابة كلماتيَّة من دون أدب، والّتي تُعَدُّ مدماكًا أساسيًّا في صرحَي العلوم الإنسانيّة والطّبيعيّة، ما كان بالإمكان نقل العلوم الاختباريّة والرّياضيّة وغيرها من الأنواع، عبر الأجيال، لتصل إلى الأجيال الجديدة، ولكان عالمنا اليوم من دون هذه العلوم، أو في أحسن تقدير من دون مُعظمها! وكلامي هذا مُوجَّهٌ إلى دُعاة التّوجّه العلميّ في البيوتات والمدارس والجامعات الّذين يعتقدون بالعلم، وبالعلم فقط، ولا يتردّدون في التّشجيع على الطّلاق من العلوم الإنسانيّة بعامّة، ومن الأدب واللغة بخاصّة، لصالح الأرقام والحسابات والاختبارات الّتي تُطعم خُبزًا، وكأنّي بهؤلاء يستطيعون، على سبيل المثال لا الحصر، التّفاهم بعضهم مع بعضهم الآخَر من خلال المُعادلات الرّياضيّة! مع كامل احترامي وتقديري لأهمّيّة هذا العلم، والعلوم الأخرى جميعها طبعًا، وكامل يقيني أنَّ الأدب والعلم يتكاملان ولا يتعارضان.

تخيّلوا النّاس يتحدّثون بوساطة المعادلات الرّياضيّة بدلًا من الجُمَل!

ماذا نفهم؟! لا شيء!

وننسى في الوقت عينه أنَّه “ليس بالخُبز وحده يحيا الإنسان”!

أعتقد أنَّ المادِّيَّة المُتوحّشة الّتي يُعانيها العالم أجمع، مردُّها إلى الفقر الرّوحيّ الّذي ينتج من عوامل كثيرة أبرزها الابتعاد عن الدّين والفلسفة والأدب، لصالح المال والوظائف والمهن الّتي تؤمّنه، وهذا غير سويّ، أمَّا الدّليل، فهو الانهيارات النّفسيّة والقِيَميّة والأخلاقيَّة والاقتصاديّة والماليّة في مجتمعات عديدة، على غرار ما يجري في المجتمع اللبنانيّ حاليًّا.

يقول المطران “جورج خضر” في مقالته الشّهيرة “إلى شباب بلادي”، المنشورة في كتابه “لبنانيّات” الصّادر عام ١٩٩٧م.: “راعني ما سمعتُهُ من مراهقين لمّا سألتهم عن الفروع الّتي يحبّون أن يدرسوها في الجامعة. بَكَيتُ لمَّا قالوا لي جميعًا: سندرُسُ هذه المادَّة لأنَّها تُدِرُّ لنا مالًا كثيرًا. هذا ما فعلناه قَبْلَكُم وأنتجنا هذا البلد الهزيل.”

أعود من هذا الاستطراد المُتَعَمَّد لأؤكّد أنَّ الكتابة الكلماتيَّة فقدت فرادة دورها منذ بات هناك تسجيل صوت وصورة، إذ لم يعُد نقل الإرث الإنسانيّ وقفًا عليها، وأذهب إلى أكثر من ذلك من خلال التّشديد على أنَّ تسجيل الإنجازات الإنسانيّة صوتًا وصورة، ومن بينها الأدب طبعًا، صار أكثر سهولة من التّدوين، وأكثر سرعةً ووضوحًا وتفهيمًا، وربّما تأثيرًا، وأقول ربّما لأنَّني لا أستطيع الجزم في هذا الشّأن قبل خروجي بنتائج دراستي الّتي أُجريها لنيل الدّكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها حول موضوع “أثر أدب القِيَمِ والأخلاق… المطبوع والمُصوّر في الإنسان المُعاصر…”

عصرنا هذا يُعرِّف نفسه بنفسه، فلم لا نلحق بالرَّكب ونكون مع الرّاكبين، ما دام الأدب بخير ولم يتغيّر سوى في الشّكل؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *