زياد الرّحباني خَصبُ الموهبة

Views: 339

الدكتور جورج شبلي

لقد اعتبرَ بعضُ المتطرِّفينَ أنّ الموسيقى هي عَطِيّةٌ غيرُ مُستَحَقَّةٍ أُضيفَت على الحياة. لكن، وبالرَّغمِ من تَمَنّي الصَّمَمِ قُبالةَ كثيرينَ مِمَّن لم يكونوا، في سِجِلِّ الموسيقى، إلّا مرتزَقَةً حَجَرِيّين، وبالرّغمِ من تَبَنّي الإِلحادِ، لو كانتِ الموسيقى إلهاً، تُجاهَ بِدَعِ الهراطقةِ في الأَداء، لا بُدَّ من الإِقرارِ بأنّ عِشرةً حميمةً نشأَت بين الأنغامِ وبين رَشِقي الموهبة، وزياد الرّحباني منهم، هؤلاءِ الذين آخَت مَوجاتُ الموسيقى فيهم الحَواس، وبدونِ وساطة، فتبوَّأوا صدارةَ صُنوفِها، واكتملَت، معهم، مَحاسنُها، فكأنَّهم، برِيادتِهم، آتونَ من هياكلَ حيثُ البَخّورُ تَلحين.

لقد بدأَ زياد الرّحباني يبحثُ عن ذاتِهِ الموسيقيّةِ، وعن معنى موهبتِهِ الفنيّة، وعن ارتباطِهِ باللَّحنِ البَحت، منذُ بدايةِ تَشَكُّلِ وَعْيِه. ويَشهدُ على ذلك، المضمونُ الفنّيُ الذي ظلَّ محورَ اهتمامِهِ، قبلَ أيِّ مضمونٍ آخر، حتى اليوم. ربّما عرفَ زياد، في داخِلِهِ، وهو بَعدُ في الرَّحِم، أنّ حياةَ الموسيقى هي الحياةُ المَدعُوّ إليها…

إنّ جرأةَ الموقفِ عندَ زياد الرّحباني تَمَظهَرَت جرأَةً في إِتقانِ الأَلحان، ويمكنُ لِعَكسِ ذلك أن تكونَ له الغَلَبَة. من هنا، فموهبتُهُ لم توجَدْ لتُلَحِّن، بل ” لِتَفَعَلَ ” في الموسيقى، بمعنى مَنْحِها أن تكونَ طليقةً، حرَّةً، مُجَدَّدَةً، فأَسوَأُ الضَّلالِ قَمعُ الموسيقى في جهالاتِ التّقليد. لذلك، وإِنْ تَخَرَّجَ زياد على أُصولِ الفنِّ الموسيقيّ، بقواعدِهِ، وشروطِهِ، وقوالبِهِ، وهذا مَسرى الدّارسين، غيرَ انّه أَحدثَ خَرقاً، أو انفلاتاً، لكنّه انفلاتٌ فيهِ من الإِجادةِ، والتَّجديد، والمهارة، والذَّوق، ما جعلَه ينمازُ عن أكثرِ المُنقَلبين على الأُصول، والذين اقترفوا العشوائيّةَ السيّئةَ التي أَوقعَتهم في مُنزَلَقاتٍ فَضَحَتهم.

لقد استقلَّ زياد مَتْنَ الموسيقى، فجمعَ بين تَوفيةِ النَّغَماتِ حقَّها في التَّفاعُلِ، والتَدَرّجِ، والإنصهارِ في وحدةٍ مُتراصَّة، رشيقة، وبينَ الإحساسِ السَّلِسِ الذي يتَنَقَّلُ بين أجزاءِ الجُمَلِ يَخلقُ جَوّاً من التَّعاضدِ بين مقاماتِ اللَّحنِ، وبينَ تأثيرِها المُتَسَلِّلِ الى الأَذواق، ما يُبرِزُ جماليّةَ اللَّحنِ المُؤَدّى، ويضعُ السّامعَ في حالةِ تَذَوُّقٍ مُفرَطَةٍ بالإعجابِ والتَّجاوُب. ولعلَّ ذلك عائدٌ الى ما يُسَمّى بالتَوَحُّدِ بين المُلَحِّنِ ولَحنِهِ، أو بالصِّدقِ الفنّي الذي لا يُنتِجُ إلّا إِبداعاً.

في تشكيلاتِ زياد التَّلحينيّةِ محطّاتٌ تنتقلُ من وزنٍ الى وزن، ومن إيقاعٍ الى آخر، يحدِّدُ زياد خيوطَها، ويُشرِكُ مزاجَه في أشكالِها، لتخرجَ لوحةً ساحرةً تَنطقُ إعجازاً. إنّ الطَّوافَ في صندوقةِ زياد الموسيقيّة، يكشفُ رسالتَهُ الحقيقيّةَ، فبِقَدْرِ ما كان مؤلِّفاً يملكُ في الإبداعِ قلباً ويَداً، بِقَدرِ ما كان باحثاً مُفعَماً بالإندفاعِ لكلِّ جديد، لتزدهرَ، معه، حركةٌ تجديديةٌ استثمرَت سُلَّمَ الآلاتِ والأصوات، بحيثُ استطاعَت أَلحانُهُ أن تجعلَ لمقطوعاتِهِ جوّاً تخييليّاً يجعلُ الأُذُنَ تغارُ من العين.

لقد أنكرَ البعضُ على زياد نتائجَ خواطرِهِ في الموسيقى، واعتبروا أنّ ما يأتيهِ هذا ” الثّوريُّ الأَهوَج ” فيهِ من الخطرِ على سِياقِ الموسيقى، أكثرُ مِمّا فيهِ من الإبتكارِ المُجدي. فمذهبُ زياد، بحَسبِ هذا البعض، خارجٌ على المألوف، يستوطنُ الغرابةَ، ويرتدي ثوباً من الهَوَسِ الذي يجعلُ الموسيقى تَلوي عُنُقَها انزعاجاً، وإحباطاً، وقلقاً، وكأنّها صادرةٌ عن واحدٍ بَلَغَ في الشُّربِ حدَّ الإمتلاء، فهو سكرانُ طافِح. لكنّ هذا البعضَ، بالرَّغمِ من إقرارِ الديمقراطيّةِ بحريّتِهِ في التَّعبيرِ عن رأيِه، لم ينتبِهْ الى البُعدِ التَّجاوزيِّ في موسيقى زياد، والذي أحدثَ نهضةً مرموقةً، وقد تركَ هذا البُعدُ في جَعبةِ الموسيقى مجموعاتٍ قالَتها ” كورالات ” وأوركيستراتٌ فوقَ مسارحِ بلادِ النّاس، ولمّا تَزَل.

لم يعتبرْ زياد الرّحباني مسرحَهُ شكلاً مُكَبَّلاً من أشكالِ المَسرَحَةِ بالمفهومِ التّقليديّ، بمعنى أنّه لم يَرضَ أن يكونَ مسرحُهُ مجرَّدَ علامةٍ يمكنُ حصرُها في تعريف، إنّه صورةٌ جوهرُها إبداعٌ، وحريّةٌ، ومعرفةٌ، وموقفٌ، وجرأة. فعندما تتجابهُ الأفكارُ في نَصِّه، وتتجاذبُ المواقفُ أو تتنافر، وتسعى الى أن يحيا بعضُها ببعضِها الآخر، عندئذٍ، يبرزُ الإختبارُ الحقيقيُّ بابتكارٍ ذكيٍّ جاذِب، فيه من الديناميّةِ، وتَكييفِ المشاهدِ مع الواقع، ما يُحدِثُ دهشةً وصدًى، فالمشاهدُ، معه، من لحمٍ ودَم، أو هي العنصرُ الفاعلُ الذي يُحدِثُ خَضَّةً، ودَويّاً فيهِ شَفراتُ حِراب، فسَقفُ المسرحِ المُسَطَّحُ تَحَوَّلَ، مع زياد، مُقَبَّباً بالعِبرةِ، والصّرخة، والحكمة، وحميميّةِ الواقعيّة، والطَّبائع، بحيثُ يدخلُ في دائرةِ عِلمِ الإجتماعِ الواقعي. 

زياد الرّحباني الذي نِتاجُهُ لهيبُ العبقريّة، أَثبَتَ أنّ نَسلَ فيروز وعاصي لا يَبور.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *