خالد البغدادي: وهبَ قلبَهُ الفيحاء (*)

Views: 206

جان توما

مِنْ المتعارفِ عليه أنْ نردّدَ ما غنّاهُ ملحم بركات “ومشيت بطريقي” ، وما كان يَعنيني من هذه الجماليةِ إلّا عكسُها، “ومشيت الطريق بي”، أو باللهجةِ العامّيّة،” ومشْيِت فيّ الدروب”. وكنت أتساءلُ كيف تمشي الدروبُ بالمرءِ؟ فلما فكّرتُ في مغادرةِ الدكتور خالد البغدادي دروبَ لبنان وقادومياتِه، وكيف سيتأملُ الأفُقَ على شطِّ الإسكندرية، أدركتُ معنى “مشْيِت فيّ الدروب”، إذْ ستجُرُّهُ الدروبُ التي سارَ فيها إلى مطارِحِها، إلى حجارتِها وناسِها وعجقتِها. ندخلُ الدروبَ بحبِّ، ونخرجُ منها، لكنها تدخلُ فينا ولا تخرج، وتصيرُ شرايينُ المودّةِ والأُلفةِ التي لقيناها دروبًا سائرةً في هذا الجسدِ المُنْهَكِ السائر.

من هنا نستذكرُ جوابَ عاصي الرحبانيّ حينَ قيلَ له، وكالعادةِ بعفويّة: جميلٌ لَحْنُكُ لأغنيةِ “يا دارة دوري فينا”، فقال “هذا لحنٌ لفيلمون وهبه”، لعلَّنا نحنُ الطرابلسيينَ، هكذا، وقد دارَتٍ فينا الدوائرُ، إذا سأَلَنا أحدُهُم، كالعادة وبعفويّة، عن ابنِ البلدِ الذي ينشُرُ الصورِ الجميلةِ على الفايسبوك لأحياءِ الفيحاءِ، او لمحيطِ مَعْرِضِها، أو على “البسكلة في الأسكلة “، أَجَبْنَا فورًا، هذه عَدَسَةُ وعينُ البغدادي الذي وَهَبَ قلبَهُ لحبِّ المدينةِ الطرابلسيّةِ، بنهرِها وبحرِها، وأزقتِّها وكورنيشِها.

 

خالدُ البغدادي، الآتي من مصرَ، هبةِ النيل أسهم في إطلاق مفهوم طرابلسَ، هبةِ البحر والنهر، موضحًا أنّها تجمع المالح والحلو في آن، لكأنّها مدينة عالميّة، وأنّه المصريّ، وإن رأى فيها المدينةَ الثانيةَ، بعد القاهرة، بآثارها الملوكيّة، إلّا أنّها مشاطئة لمدينته الاسكندرية، فتُشاركُ أهلَ السواحلِ خبزَها وملحَها، على الرّغم من لَقَبِها مدينةُ أم الفقير.

​من هذا الرافدِ الحضاريِّ جاءنا خالدُ البغدادي باللهجة المصريّة، تتنقلُ بيننا، رشيقةً، مغناجةً، معبّرةً، وكنّا لا نسمَعُها أو نلتقِطُ حلاوتَهَا  إلّا عبرَ الافلامِ الشاشاتيّةِ، إلى جاءَ زمنُ البغداديِّ آتيا من مصرَ على بساطِ ريحِ أبي الهول، فكان هرمُ الصداقةِ والمحبةِ والتعاملِ الواعي من المحيطِ إلى الخليجِ، إذ كلّما دخلَ علينا الخالدُ انسلَّ معه شعراءُ العربِ، وعمالقةُ الطربِ، وأهراماتُ الملحنين، ومِسلاّتُ المبدعينَ، كأنّ التراثَ هنا يناديك، فتردّدُ ما قالَهُ الشاعرُ الأَمويُّ الصمّةُ القشيري، وما غَنَّتْهُ فيروز:” أذكرُ أيّام الحِمَى ثمّ أنثني/ على كَبِدي من خَشْيَةٍ أن تَصَدَّعا”.

خالدُ البغدادي، جاءَ في الكتبِ أنَّ “النبيَّ إيليا”، فيما اختطَفَتْهُ المركبةُ الناريّةُ إلى السماءِ، استطاعَ تلميذُهُ “أليشع” أن يأخذَ منه شالَهُ لعالمِ أفضل. نحنُ سَرَقْنَا منكَ ما أودعتَهُ محبةً في نسانِمِنَا، لتنزلَ في قلوبِنَا بَرْدًا وسلامًا، ولتبقى الذكرياتُ الحلوةُ في الخاطرِ تلتمعُ.

والسلام.

***

*كلمة في حفل بدعوة من “لقاء الأحد” تكريمًا للدكتور خالد البغدادي، نائب رئيس جامعة بيروت العربيّة ومدير فرع طرابلس، مساء الجمعة ٢٥ آب ٢٠٢٣، في مركز مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *