في ضرورة الجمْع بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدقيقة
د. حمادي المسعودي*
يقرّظ العديدُ من العُلماء والباحثين المُختصّين ورجال السياسة وأهل الصناعات والتكنولوجيا العلومَ الدقيقة، إذ بمثلِ هذه العلوم استطاع الإنسانُ أن يبلغ أقصى مراتب التّقدّم والرّقيّ، وتمكَّن من تلبيةِ حاجاته المادّيّة، فقضى على الفقر بوفرة الإنتاج، وقرَّب المسافات باختراع أسرع وسائل النّقل، وتحوَّل من اكتشافِ ما يوجد على وجه الأرض وفي باطنها إلى الاجتهاد في اكتشاف ما يوجد في الفضاء، فغزاه منذ ستّينيّات القرن الماضي، ومازالت رحلاته متواصلة، ومحاولاته الاستكشافيّة مستمرّة، وتوقه إلى بلوغ “ما وراء العرش” قويّاً.
وما كان لهذا التّقدُّم المُدهش والرّقيّ المُذهل أن يَحدثا لولا تعويل الإنسان على العلوم الدقيقة: فيزياء وكيمياء وهندسة ورياضيّات وتكنولوجيا… فبهذه استطاع أن يجعلَ العالَم قرية صغيرة يتواصل فيها البشر في زمن قصير جدّاً، وبوسائل اتّصال شتّى: وسائل النقل بمُختلف أنواعها (برّيّة وبحريّة وجوّيّة) وبشتّى أنواع الهواتف والتواصل الاجتماعي. وبمثل هذه العلوم تمكَّن الإنسان من السيادة على الطّبيعة ومن القضاء على الجراثيم الفتّاكة والأمراض القاتلة، وأن يُسخِّر كلّ شيء في خدمته، وأن يتّسع الأمل في الحياة مدّة أطول بالتّقدّم الهائل في الطّبّ وبالتنظيم المُحكَم للنظام الغذائي… وها هو يحلم بإمكانات الحياة في أحد الكواكب الأخرى غير الأرض بعدما تحقَّق حلمه بالطّيران وغزو الفضاء.
وبواسطة الصّناعة العلميّة والطّبّيّة، استطاعَ الإنسانُ أن يتصرَّف بمُطلق الحرّيّة في جسده، فيغيِّر لون بشرته، ويقوم بعمليّاتٍ تجميليّة، وأن يتبرَّع ببعض أعضائه إلى غيره، فيَهِبه مدّة حياة أطول وظروفاً للعيش أفضل، وأن تتمكّن المرأة والرّجل العاقران من أن يكون لهما أبناء الأنابيب بعدما كانا يعيشان حالةَ يأسٍ وحرمان من الأبناء “زينة الحياة الدنيا” بحسب العبارة القرآنيّة الشهيرة، و”أزهار المنزل” بحسب عبارة الشاعر الفرنسي فيكتور هيغو (V.Hugo).
في المقابل، اعتقد الكثيرُ من رجال السياسة والمفكّرين في بعض دول العالَم أنّ العلومَ الإنسانيّة بمختلف فروعها غير مفيدة على مستوى الـتّقدُّم والرّقيّ بالشّعوب كون ثمراتها غير ملموسة، إن لم تكُن مُنعدمة، وهي معارف غير دقيقة تنهض على الإمكانات والاحتمالات والظّنّ والشّكّ، والمباحث فيها لا ترقى إلى القاعدة العلميّة أو النظريّة العلميّة العامّة. إنّ العلوم الإنسانيّة في منظور هؤلاء أحلام وتخيّلات ومشاعر، لا ترقى بالأُمم والشعوب إلى أعلى المراتب في التّقدّم والازدهار، بل قد تكون، على العكس من ذلك، من معطّلات التّقدّم والرّقيّ ومن معضلاته المُزمنة. لذلك زهدت فيها كثيرٌ من الدّول في ما يُسمّى بالعالَم الثّالث والدّول النّامية.
وقد نَظَرَ هؤلاء المفكّرون إلى ما حقَّقه العالَم الغربيّ من تقدُّمٍ مذهل في مُختلف المجالات، وما توصَّل إليه من ازدهارٍ ورفاه في أنماط الحياة، ومن اكتشافاتٍ واختراعاتٍ عجيبة. وقد علّلوا ذلك بعناية الغرب بالعلوم الدقيقة وإعطائها الأولويّة المُطلَقة في التمويل والتعليم والتّدريس. فعقدوا لهذه العلوم ملتقياتٍ دوليّة للتّشخيص والدّرس والتّحاوُر في ما يُمكن أن ينهضوا به في سبيل مزيدٍ من التّقدّم بهذه العلوم؛ وخصَّصوا لها ميزانيّاتٍ كبيرة، وتبنَّتها شركاتٌ عظمى أَسهمت في تمويلها.
وقد اقتدتِ الكثيرُ من الدّول العربيّة والإسلاميّة بهذا التّوجّه في سياسة التّعليم والتصنيع، فبالغت في بعْثِ المؤسّسات ذات الاختصاص العلمي الدّقيق: فيزياء وكيمياء وآلات وتكنولوجيا وتقنيّات وهندسة وطبّ ومعامل تصنيع، وزهدت في العلوم الإنسانيّة على اختلاف مناحيها. لكنّها ظلّت، على الرّغم من ذلك، كثيرة الاستيراد من الغرب في جلّ مجالات الحياة تقريباً بما في ذلك الصناعات الخفيفة والثّقيلة. وقد كشفت جائحة كورونا التي ظهرت في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 2019 عن حاجة هذه الدول إلى منتوج العالَم المتقدّم في الكثير من المجالات الضّروريّة.
بيد أنّ ما هو مغيَّب في هذه الرّؤى أنّ الواقع والتّاريخ يؤكّدان أنّ الشّعوب والدّول المتقدّمة والتي بلغت شوطاً كبيراً في الازدهار الحضاري والرّفاه المعيش والاكتفاء الذّاتي في الضّروريات والكماليّات لم يكُن ما بلغته من تقدّم ورقيّ في سائر المجالات مقصوراً على ميادين العلوم الصّحيحة، لأنّ الازدهار المادّي والتّقدّم الصناعي كان يواكبهما تقدّمٌ وازدهارٌ في جميع العلوم الإنسانيّة والفنون: الفنون الجميلة والآداب واللّغات والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والاجتماع… لأنّ الاهتمام والعناية كانا موجَّهَيْن بالمقدار نفسه إلى مُختلف أنواع المعارف والعلوم. فكان التّقدّم في الطّبّ والرياضيّات والفيزياء والكيمياء والتقنيّة والتكنولوجيا… يواكبه تقدّمٌ في الآداب واللّغات والفنون والفلسفة والسّياسة والاقتصاد والاجتماع… لذلك يُخطئ مَن يعتقد أنّ التّقدّمَ في العالَم الغربي مقصور على ما أثمرته العلوم الصحيحة، ويُخطئ أيضاً مَن يقول إنّ العناية نفسها لم تكُن موجَّهة إلى العلوم الإنسانيّة على اختلاف تفريعاتها في هذه البلدان المتقدّمة؛ وما على هؤلاء المُعتقدين إلّا أن ينظروا إلى ما بلغته العلوم الإنسانيّة في نظريّاتها ومناهجها ومفاهيمها من ازدهارٍ وتقدّم ليتأكّدوا من أنّ الإنسانيّة تعجز عن الطيران والتحليق إذا كان أحد جناحَيْها مكسوراً، وأنّ الكائن البشريّ يظلّ متصدّع الكيان، مُنفصم الشخصيّة إذا لم يحدث اعتدال أو اتّزان فيه بين البُعدَيْن المادّي والرّوحيّ، وأنّ غزو الفضاء لم يكُن ليتمّ لو لم يؤمن الإنسان بحرّيته وبمسؤوليّته في نحْتِ كيانه، وبمركزيّته في الكون وبضرورة تغيير الواقع ووعيه أنّه هو وحده المسؤول عن تغييره نحو الأفضل.
والمتأمّل في تاريخ الإنسان العربيّ سيتبيَّن له أنّ هذا الإنسان العربيّ عرف “العصر الذّهبيّ” عندما نزّل العقل المكانة الجديرة به، وجَمَعَ في شخصه الأديبَ والفيلسوفَ وعالِم الدّين والطّبيب والمهندس وعالِم الرّياضيات والفلكيّ من دون صراعٍ أو تنافر. فكان موسوعيّ المعرفة، عقلانيّ التفكير. فابن رشد الأندلسي كان طبيباً وفيلسوفاً وأديباً وقاضياً، وابن طفيل كان فيلسوفاً وأديباً وقاضياً وطبيباً، وكان ابن سينا طبيباً، كَتَبَ في الطّبّ والفلسفة والرّياضيّات والفَلَك والأدب، وكان أبو ريحان محمّد بن أحمد البيروني فلكيّاً كَتَبَ في الهيأة والفَلَك وفي الآلات والعمل بها وفي الأزمنة والأوقات وفي الحساب والهندسة وفي الطّبيعة والأدب وفي الأديان. وكان عُمر الخيّام فيلسوفاً وشاعراً وعالِماً بالفقه واللّغة والتاريخ والقراءات السبع.
وفي العالَم الغربيّ كان أرسطو فيلسوفاً وعالِماً في الطبيعة والفلك والأخلاق والسياسة والخطابة والشعر، وكان بطليموس (PTOLEMY) عالِماً في الفلك والرياضيّات والجغرافيا والفيزياء والتاريخ. وكان جاليليو جاليلي عالِمَ رياضيّات وفلك وطبيعة وفيزياء، وكان نيقولا كوبرنيكوس طبيباً وعالِمَ فَلَك، وكان ديكارت (DESCARTES) فيلسوفاً وعالِمَ رياضيّات وفيزياء وفيزيولوجيا، وكان جان دالمبير (Jean Le Rond Dalembert) عالِم رياضيّات وفيلسوفاً، وله إسهامات في الميكانيكا، وكان إسحاق نيوتن عالِماً في الفيزياء والرياضيّات والفلسفة الطبيعيّة…
ثورة عصر الأنوار
كان القرن الثّامن عشر في أوروبا حافلاً بالإنجازات الفكريّة المُستنيرة، لذلك نُعت بعصر الأنوار، وقد عُدَّ العقل فيه من أهمّ الرّكائز التي نَهض عليها الفكرُ التنويري في أوروبا إلى جانب الحرّيّة والمُساواة بين جميع النّاس.
والتنوير هو حركة فكريّة وعلميّة اعتمدتِ العقلَ سلطاناً يُخرج الإنسان من ظلمات الجهل والفقر والاستبداد والعبوديّة إلى عصر النور والعِلم والمعرفة وإلى التّحرُّر من جميع القيود والسلاسل التي كبَّلت بها مُختلفُ السُّلط الإنسانَ (المؤسّسات السياسيّة والمؤسّسات الدينيّة).
قامَ الفكرُ التنويري على الدّعوة إلى الثّورة على الأوضاع المتردّية في السياسة والدّين والاجتماع والاقتصاد من أجل تأسيس قيَمٍ كونيّة نبيلة. وقد دعا المفكّرون التنويريّون (فولتير، روسّو، مونتسكيو، ديدرو…) إلى بناء عالَمٍ جديد عماده العقل والحريّة والعدل والمُساواة والديمقراطيّة وحماية حقوق الإنسان على المُستويات كافّة.
ومن المعلوم أنّ الفكرَ التنويريّ نشأ في أوساطٍ اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة راكدة ومتحلِّلة من مضامينها الجوهريّة، حيث ساد فيها الاستبدادُ السياسي وهَيْمَنة المؤسّسة الدينيّة، فحَكَمَ رجالُ السياسة الناس باسم الحقّ الإلهي. وكانت محاكم التفتيش تدين كلَّ مَن خالَفَ الكتاب المقدّس وتقاليد الكنيسة، وكلَّ مَن لم يُنفِّذ تعاليمها ومقرّرات مَجامعها.
ولم يكُن النّقد الذي وجّهه الفكر التّنويري إلى المؤسّسات الرسميّة خاصّاً بمُجتمعٍ بعَيْنه، بل كان يشمل جميع المُجتمعات التي يعيش أهلُها الظروفَ نفسها ويعانون المشكلات والقيود ذاتها. ولم تكُن القيَم التي نادى بها فلاسفةُ التنوير مقصورةً على بلدٍ دون آخر أو على شعبٍ دون شعب، وإنّما كانت لفائدة جميع الناس وجميع الشعوب من دون تمييز. وقد استفادت شعوبٌ كثيرة من هذا الفكر طوال القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين: إبطال ظاهرة الرّقّ (العبوديّة)، إقرار حقوق الإنسان، إقرار حريّة الفكر والمُعتقد، المُساواة بين الناس… وقد سعى الفكرُ التنويري إلى إخراج الناس من حال الرّعايا إلى حال المواطنين المُتساوين في الحقوق والواجبات.
وقد انتشرَ الفكرُ التنويريّ في الكثير من البلدان في أوروبا، وبخاصّة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهذا يؤكّد أنّ ذاك التفكير كان فكراً كونيّاً، ولم يكُن تفكيراً محصوراً في بلدٍ معيّن. وكان بعضُ المفكّرين التنويريّين يتنقّلون من بلدهم إلى بلدٍ آخر من بلدان أوروبا إمّا بطريقةٍ تلقائيّة وإمّا هروباً من استبداد المؤسَّستَيْن السياسيّة والدينيّة.
لقد أردنا أن نبيِّن في هذا المقال أنّ العلوم لم تكُن قديما منفصلةً بعضها عن بعض، بل كانت متّصلة، وكان كلّ عِلم يؤدّي خدماتٍ جليلة للبشريّة، وكان العالِم الواحد مُلمّاً باختصاصاتٍ عدّة، فكان متنوّع التّكوين، موسوعيّ المَعرفة، كثير الفائدة، غزير العطاء. وكان ذلك الاتّصال بين العلوم المُختلفة سبباً مهمّا في خلْقِ توازنٍ وانسجامٍ بين أبعاد الإنسان المتنوّعة وفي تلبية حاجاته المُختلفة. يقول المفكّر التونسي هشام جعيّط في هذا الغرض: “قد يُقال إنّا لا نحتاج الآن إلى العلوم الإنسانيّة بقدر ما نحتاج إلى علوم الطبيعة أو إلى التفكير في مصائر العرب والمُسلمين في هذه الفترة المصدومة بالحداثة، ولا نحتاج بالخصوص إلى دراسة أُسس الإسلام من موقعٍ غير إيماني أو قد يبدو تشكيكاً في أمورٍ تقبّلها الوعيُ الجماعيُّ. لكنّ الحقيقة أنّ العِلم واحد وأنّه من أهمّ مُكتسبات الإنسان الحديث وأنّ الهمّة العلميّة سِمَةُ المُجتمعات الحيّة” (هشام جعيّط، تاريخيّة الدعوة المحمديّة في مكّة، 2007).
***
*باحث من تونس
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق