“مطعم فيصل مقابل الجامعة الأميركية في بيروت” (ذاكرة مكان) جديد إيمان عبدالله عن دار نلسن

Views: 237

صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “مطعم فيصل مقابل الجامعة الأميركية في بيروت” ذاكرة مكان للكاتبة إيمان عبدالله، قدم له الكاتب سمير عطالله،  تصميم الغلاف: آيه أبو ناضر. في ما يلي تقديم  سمير عطالله والمقدمة بقلم المؤلفة.

 

 

 تقديم

سمير عطاللّه

الذين لم يعرفوا “مَطعَم فيصل” أو تلك الحقبَة الجميلة، يعتقدون أنه من صُنع المُخيّلة. أو أنه وُجد كرمزٍ لمرحلةٍ ما، دون أن يكونَ حقيقةً بالضرورة. ذلك أن سيرة “فيصل” مُسلسلٌ لا ينتهي ومآنسةٌ بلا حُدود. فالطعام لم يكن سوى ذريعةٍ. يلتقي عنده الأساتِذة والطُلّاب من لبنانيّين وعرَب وبذلك يعكِس التعدُّدية الرائعة القائمة قُبالته في الجامِعة. وفي حقيقة الأمر أن “مَطعَم فيصل” تجاوز سُمعة الخِدمة حتى أصبحَ شيئاً يتمنّى الكثيرون الانتساب إليه كأنهُ نادٍ صحافيٍ مُغلق أو كأنهُ جمعيّة أهلُ القلمْ أو أنه مُلتقى الأفكار والتيّارات السياسية التي إما يحملُها العرب من بيروت إلى أوطانهم، أو من أوطانهم إلى بيروت، حيث انفتاح المنابر وسماع الأفكار.

تجب الإشارة أيضاً إلى أن “فيصل” لم يكُن وحده في تلك المرتبة النخبويّة فقط فإن الزمن لا يزال زمن المقهى الصحافي كما في فيينّا أو باريس. غير أن ميزتَه الأُولى والأخيرة كانت التصاقَه بالجامِعة وكأنّه كليّة أُخرى من الكليّات. ومثل النوادي البريطانيّة القديمة نادراً ما كنتَ ترى نساءً في المُلتقى، من دون أن يكون المانِع أخلاقيّاً أو عصبيّاً. ومن شاءَ يومها شيئاً من الرومنسيّة لم يكُن عليه سوى أن يتقدّم بضعَ خطواتٍ إلى مَطعَم الـ “أنكل سام” أو بكلّ بساطة التوجّه نحوَ الحديقة التي تطلُّ على أجمَل بِقاع المتوسّط. تحاول الزميلة إيمان عبدالله أن تستعيدَ “فيصل” وزمن “فيصل” ومقهى”فيصل” وقد أمضَت في هذا العمَل الجميل والصعب بضع سنين، فكيف لي أن أُقدّم لهذا المجهود في بضعة أسطر. شهود وحكايات ولطائف وطرائف ومودّات كثيرة. ذلك هو “فيصل” التاريخيّ. وهذا هو “فيصل” الكِتاب. وقد قدّمت إيمان عبدالله لأُسرة الجامِعة وعالَم رأس بيروت المُتنوّع وبيروت الحقبَة الجميلة ولبنان الذي تراجَع مع أحلامِه وأدوارهِ النهضويّة – قدّمت عملاً بغاية الإتقان والأمانة وأناقة السّرد. وفي اختصار عمل تاريخي أدبي يَكاد يَكون شبيهاً لألف ليلةٍ وليلة.

بيروت، خريف 2023

المقدمة

لستُ أدري ما الذي يجمع بين ساعة الجامِعة الأميركيّة في رأس بيروت، وبين عشير عُمرها “مَطعَم فيصل”… فما أن أقفل [المَطعَم]… أبوابَه حتى بدأت إدارة الجامِعة في إصلاح الساعة. “مَطعَم فيصل”، توقّف في اليوم الأول من تشرين الثاني 1985، وساعة الجامِعة، توقفت في اليوم الأول من تشرين الثاني 1985. (ربيز، 1986، ص. 45) .

مئويّة لبنان، مئويّة تحويل اسم “الكليّة السوريّة الإنجيليّة” إلى “الجامِعة الأميركيّة في بيروت”، لكن مئويّة “مَطعَم” ذلك أمرٌ غريب، لا بدّ من أن يحمِل “مَطعَم فيصل” تاريخًا.

مرّت عُقود على إقفال “مَطعَم فيصل”، مع ذلك لم يغِب عن ذاكِرة الجامِعة وخرّيجيها، ولا عن شارع بلس، ولا عن مثقّفي رأس بيروت والعالم العربي.

 تأسّس “مَطعَم فيصل” بداية القرن العشرين في مِنطقة رأس بيروت، تحديدًا في شارع بلس (Bliss) مُقابل المدخل الرئيسي للجامِعة الأميركيّة في بيروت، هذه الجامِعة التي أضافت تاريخًا إلى رأس بيروت إن لم نقُل صنَعت رأس بيروت، وساهمت في استمرار مَجد “مَطعَم فيصل”، إن لم نقُل صنعَته.

 يحمِل شارع بلس اسم عائلة دانيال بلس، مؤسّـس “الجامِعة الأميركيّة في بيروت” ورئيسها الأول.

“مَطعَم فيصل مُقابل الجامِعة الأميركيّة في بيروت”، كتاب بحثي توثيقي، يروي قصّة مَطعَم دخل تاريخ الشارِع والمِنطقة والجامِعة، والأهمّ الذاكِرة. لم يكُن مُجرّد مَطعَم يُقدّم وَجبات غذائيّة مُمتازة، بل كان ناديًا فِكريًّا وسياسيًّا ومُلتقى، وسُبلَ تلاقٍ، وهنا تكمُن أهميّتُه. قصدَه كِبار المُفكّرين، وقصَده السياسيّون وخرّيجو الجامِعة، ليس لمجرّد تناول الطعام بل لتبادُل النِقاشات السياسيّة والحِوارات الفكريّة.

ساهمت عوامل عدّة في نجاح المَطعَم، من بينها شخصيّة صاحبِه وكرمه، في الدرجة الأولى، من ثم جودة الأطباق وشخصيّة الموظّفين، أي النوادل الذين أقاموا عَلاقات مُميّزة مع روّاد المَطعَم، والأهمّ طبيعة ونوعيّة هؤلاء الروّاد ذوي الاهتمامات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة المتميّزة، والتي أعطت قيمة مُضافة لهذا المَكان، من خلال النِقاشات والحِوارات، فتعدّت وظيفة “فيصل” من مجرّد مَطعَم إلى نادٍ سياسي أو مقهى ثقافي، وأضحى للبعض على غرار “كافيه دي فلور” أو “دو ماغو” لجان بول سارتر أو سيمون دي بوفوار، وقد أعطى طابعًا ثقافيًّا لشارع بلس الذي شبّهه البعض، ومنهم الكاتِب المصري أحمد بهاء الدين، بالحيّ اللاتيني في باريس.

بحُكم موقِعه المُقابل للمدخل الرئيسي للجامِعة الأميركيّة، اعتُبر المَطعَم امتدادًا لها، خُصوصًا من ناحية طبيعة التعليم فيها وجوّها الليبرالي المُنفتح الذي سمح للطُلّاب بإطلاق تيّارات سياسيّة وتنظيم نِقاشات واحتجاجات تبدأ في الجامِعة، غالبًا في الـ “ميلك بار” وتُستكمل في “فيصل”، هكذا، تحوّل إلى مَطعَم ثقافي حافِل بالتاريخ وراسِخ في الذاكِرة، واعتبره البعض، مُمازحًا، مدرسة أو جامِعة.

  كتب المؤرخ الدكتور نقولا زيادة عن هذا المَكان، أكثر من مرّة، وكان من روّاده، وأعرب عن أُمنيته بأن يُبادر أحدُهم إلى كِتابة تاريخ “مَطعَم فيصل”.

في هذا الكِتاب، أُحاول قدر المُستطاع التوثيق لهذا المَكان بطريقتين:

 أولاً: جمع معلومات وذِكريات منشورة في كُتب ومقالات عن “فيصل”، ووضعها في سِياق الأحداث الاجتماعيّة والسياسيّة في تلك الفترة، والمؤثّرة في الجِسم الطُلّابي الجامِعي.

ثانيًا: من خلال مُقابلات أُجريت مع شخصيّات عرفت هذا المَكان وشهدت له.

إذًا، الكِتاب ليسَ رواية وأنا لستُ كاتبة، وليسَ تاريخًا، وأنا لستُ مؤرّخة.

الكتاب هو توثيق لذاكِرة مَكان، ومعلومات منشورة ومجموعة عن “مَطعَم فيصل”. أضفتُ إليها مُقابلات مع أشخاص عاصروا “فيصل”، ومُقابلتين مع حفيدَي المؤسس. أما الذين عملوا كنوادل فقد رحلوا عن هذه الدنيا، وحصلتُ على عنوان ابن النادِل أمين الذي أرسَل لي صورة  لوالِده.

أيضًا، يحتوي الكِتاب على معلومات من مطبوعتي “الكليّة” (تصدر منذ 1910 من قبل خرّيجي الجامِعة)، و”أوتلوك” (Outlook) تصدر منذ 1949 وهي خاصة بالطُلّاب، فضلًا عن معلومات من مراجع أُخرى في الجامِعة.

كل هذه المعلومات التي جمعتُها، خوّلتني تقديم فِكرة واسعة، أو ذاكِرة، إن لم نقُل تاريخًا عن “مَطعَم فيصل” وبالأخصّ علاقة الطُلّاب به.

يتضمّن القسم الأول تعريفًا بـ”مَطعَم فيصل” ومُميّزاته، وأهميّته وعَلاقته بالجامِعة.

من خلال الأبحاث التي أجريتُها لم أعثُر على وثيقة تؤكّد السنة التي تأسّس فيها، لكن تدلّ المُعطيات التي استقيتُها من مُقابلتين مع حفيدَي المؤسّس، ومُقابلة مع الباحِث جان داية أن المَطعَم تأسّس عام 1919، أو على أبعد تقدير عام 1920، أما بالنسبة إلى التسمية، فلا تُنسَب إلى الملك فيصل، كما يُشاع، بل إلى لقَب العائلة.

في القسم الثاني نورد ما أظهرت مُراجعة مطبوعات الجامِعة الأميركيّة في بيروت، لاسيّما “الكليّة” و”أوتلوك” من معلومات عن مَطعَم الجامِعة ومطاعِم الجِوار، بين عشرينيّات القرن العشرين وسبعينيّاته، إذ يُعتبر “مَطعَم فيصل” من ضِمن مطاعِم الجِوار. كذلك نُشير إلى بعض الأرقام عن الطُلّاب وجنسيّاتهم، ونُقارن بين مَطعَم الجامِعة ومطاعِم الجِوار من خلال الإعلانات الواردة عنها.

بطبيعة الحال عندما نتحدّث عن مَطعَم الجامِعة، لا بدّ من الحديث عن الـ “صودا فاونتن أو الـ “ميلك بار”.

ولدى ذِكر “مَطعَم فيصل”، يتبادر تلقائيًّا إلى الذهن “أنكل سامز” (Uncle Sam’s). من بين كلّ مطاعِم الجِوار، صبَغ هذان المَطعَمان الشارِع بهما، غير أن مفهوم “أنكل سامز” كان مُختلفًا، إذ سيطَر الطابع الغربي عليه وعلى نوعيّة الطعام، وكانت الفتيات تتجرأ على دخوله.

يُبرز القسم الثالث أهمية “فيصل” كنادٍ ثقافي أو سياسي بين العشرينيّات والسبعينيّات، وشاهِد على الأحداث السياسيّة  وتأثيرها في الجِسم الطُلّابي وفي تأسيس الحركات القوميّة.

في “فيصل” كُتب نشيد العروة الوثفى، وعلى بابه تجمّع الطُلّاب للمُشاركة في الاحتجاجات في الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات. وعلى طاولاته أعدّ ما عُرف بـ”جماعة مَطعَم فيصل” (بشارة مرهج، ماهر المصري…) ورؤساء المجالس الطُلّابية، المناشير والبيانات الإذاعيّة المُستخدَمة في تحرّكاتهم واحتجاجاتهم ومخطّطاتهم. وقد احتُسب المَطعَم على الناشِطين في الحركات القوميّة العربيّة، فارتاده القوميّون العرَب والبعثيّون.

المفكر مُنح الصُلح، من أبرز روّاد “مَطعَم فيصل”. جعل منه مقرّه اليومي وكان يتحلّق حوله شخصيّات سياسيّة وفكريّة للتداول في شؤون البلد والأُمّة.

في القسم الرابع ترد ذِكريات الطُلّاب ومتخرجي الجامِعة في “مَطعَم فيصل”، المُلتقى الأحبّ عندهم، من خلال ما جاء في مطبوعات الجامِعة والكُتب المنشورة عن رأس بيروت وعن الخرّيجين. ففي مجلّة “أوتلوك” نُشرت قصّة عن أربعة أصدِقاء من جنسيّات مُختلفة تواعدوا لدى تخرّجهم من الجامعة أن يلتقوا في “مَطعَم فيصل” بعد عشر سنوات، وهكذا حصل.

تبقى الذِكريات عن “فيصل”، شهادة حيّة لمَطعَم اعتُبر من أهم معالم شارع بلس. هنا تكمُن أهميّة وفرادة المُقابلات التي أُجريت مع أشخاص يسكُنهم حنينٌ دائم لمَكان عاشوا فيه جمال الحياة وعُمق النضال، وخبروا أهميّة التبادُل الفكري بين الجماعات والتيّارات والشخصيّات من جنسيات وانتماءات مُختلفة.

في الخاتمة تساؤلات حول اهتمامات الطُلّاب في هذا العَصر وطبيعة نشاطاتهم، وما تبقّى من المقهى الثقافي أو السياسي. تساؤلات حول اندثار هكذا مقاهٍ أو اتخاذها أشكالًا أُخرى، أو حول شهادة الأمكنة حين تُروى أجزاءٌ من سيرة الحياة وظِلالها.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *