جورج قرم وإشكاليّة لبنان الكبير
د. مسعود ضاهر*
باحث متميِّز نَشَرَ عدداً كبيراً من الكُتب والدراسات حول تاريخ لبنان والمشرق العربيّ المُعاصِر؛ عالَجَ فيها التحوّلات التاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والإداريّة وغيرها. يكفي التذكير بعناوين بعض كُتبه منها: “تعدُّد الأديان وأنظمة الحُكم: دراسة سوسيولوجيّة وقانونيّة مُقارِنة”، و”لبنان المُعاصر: تاريخ ومُجتمع”، و”مدخل إلى لبنان واللّبنانيّين: اقتراحات في الإصلاح”، و”الفرصة الضائعة في الإصلاح الماليّ في لبنان”، و”نظرة بديلة إلى مشكلات لبنان السياسيّة والاقتصاديّة”، و”انفجار المَشرق العربي”ّ، والكثير غيرها.
تابعتُ دراساته الصادرة بالعربيّة والفرنسيّة، واستفدتُ كثيراً من رؤيته العلميّة النقديّة لتاريخ لبنان المُعاصِر والحديث. كانت مقولاته الثقافيّة تَطرح رؤية جديدة لتنوير النُّخب الثقافيّة، المحليّة والعربيّة والدوليّة، بحقيقة تاريخ لبنان الكبير، وتقديم حلولٍ وطنيّة لمُشكلاته الطوائفيّة المُزمِنة، وذلك من منظورٍ خارج القيْد الطائفي. لذا كان من الصعب الإحاطة بمقولاته التنويريّة المنشورة في كُتبٍ ودراساتٍ علميّة شكَّلت تيّاراً ثقافيّاً جديداً، وأسَّست لكتابةٍ علميّة رصينة حول تاريخ لبنان المُعاصر.
انطلقَ قرم من خلفيّة تاريخيّة تؤكِّد على أنّ قدامى اللّبنانيّين مارَسوا العَيشَ المُشترَك بحريّة، إبّان مرحلتَيْ الإمارة المَعنيّة والإمارة الشهابيّة، وقدَّموا صورةً متميّزة لشعبٍ مُقاوِم يرفض الخضوع للقوى الخارجيّة من جهة، وينتفض ضدّ المقاطعجيّين بسبب تعسّفهم في جباية الضرائب من جهةٍ أخرى. لكنّ تاريخ لبنان الحديث شهد صداماتٍ طائفيّة بتنظيمٍ من السلطنة العثمانيّة، وسفراء دولٍ أوروبيّة. فشكَّل نظام القائمقاميّتَيْن تنظيماً لحربٍ طائفيّة تركتْ آثاراً سلبيّة خطيرة على اللّبنانيّين. وتأسَّست متصرفيّة جبل لبنان على خلفيّة تلك الأحداث الدمويّة التي أشعلتها التدخّلات الخارجيّة، ونفَّذتها قوىً طائفيّة لبنانيّة، وأدَّت إلى كمٍّ كبيرٍ من القتلى والدمار الاقتصادي.
مع ذلك، وبفضلِ وعي اللّبنانيّين، تمتَّعت متصرفيّة جبل لبنان بنَوعٍ من الاستقلال الإداري تحت إدارة متصرّف عثماني مسيحي مُنتدَب من الباب العالي. وبفضل الاستقرار الاجتماعي، شهدتِ المتصرفيّة ازدهاراً اقتصاديّاً، وتوافَدت مؤسّساتٌ تربويّة أجنبيّة متعدّدة اللّغات والثقافات للعمل في جبل لبنان وبيروت. وشهدت تلك الفترة هجرةً لبنانيّة واسعة، ونقلةً نوعيّة في الاقتصاد اللّبناني، بفضل إنتاج الحرير، وتأسيس الجمعيّات السياسيّة والأدبيّة، والصحف ودور النشر التي أَحدثت نهوضاً بارزاً في أرجاء العالَم العربيّ، وبخاصّة في مصر. وقد أَسَّست لحركةٍ سياسيّة من نَوعٍ جديد دَعت إلى رفْعِ راية استقلال العرب عن السلطنة العثمانيّة، على قاعدة عروبةٍ ثقافيّةٍ جامِعة لا تُفرِّق بين المكوّنات السكّانيّة للعرب، وتتجاوز الدّعوات الدّينيّة والقَبليّة والعرقيّة السائدة.
بالتعاوُن المُشترَك بين النُّخب السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، تبلْوَرت رؤيةٌ لبنانيّة لصيغةِ انتماء لبنان إلى العروبة الثقافيّة الجامِعة، وأثَّرت عميقاً في بلْورة مشروعٍ سياسيٍّ في المشرق العربي، عُرف باسم النهضة العربيّة المبكّرة في القرن التّاسع عشر. وكان من رموزه المعلّم بطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، وجبران خليل جبران، وخير الله خير الله، ونجيب العازوري في كتابه “يقظة الأمّة العربيّة“، وشكري غانم في مسرحيّته “عنترة“، وبولس نجيم الشهير باسم جوبلان في كتابه عن “القضيّة اللّبنانيّة“. لم يحدِّد هؤلاء الروّاد عروبة لبنان، بل عروبة وطنيّة جامعة لكلّ العرب، يتمسّك دُعاتها باللّغة العربيّة ويدعون إلى التضلُّع منها، إلى جانب تضلُّع النّخب اللّبنانيّة والعربيّة من لغاتٍ عالَميّة تُعزِّز تعاونهم مع النّخب الأخرى في العالَم.
بعد انهيار السلطنة العثمانيّة، وإعلان دولة لبنان الكبير بحدودها الرّاهنة، أَعلنت شخصيّاتٌ دينيّة وسياسيّة في لبنان رفْضَها لمقولة “من لبنان الصغير إلى لبنان الكبير”، لأنّها صيغة طائفيّة غير مقبولة. في حين أكّد مؤرّخون طليعيّون من أمثال يوسف يزبك وأدمون ربّاط على أنّ الصيغة الجديدة تأسَّست على مدينة بيروت التي كانت واسطة العقد. فكانت مركزاً لولايةٍ تأسَّست في العام 1887 وارتبطَت بها مناطق في جنوب لبنان وفلسطين، وشماله في سوريا، فاستحقَّت بيروت بجدارة لقبَ عاصمة دولة لبنان الكبير، ولَقَبَ “باريس الشرق”، واستحقَّ لبنان الكبير لَقَبَ “سويسرا الشرق”.
أكَّد جورج قرم على أنّ نُخباً سياسيّة لبنانيّة وازِنة رَفضتْ مقولة الانصهار الاندماجي، من ضمن مجموعة سوريا الكبرى. وشاركت في الإعداد والإعلان عن الدستور اللّبناني، ومن ثمّ الجمهوريّة اللّبنانيّة، وفق معايير سياسيّة وطنيّة غير طائفيّة. ما شكَّل مؤشّراً على بروزِ أُفقٍ يُبشِّر بمستقبلٍ واعدٍ للبنان واللّبنانيّين. كما أنّ إعلان الميثاق الوطني غير المكتوب كان خياراً لبنانيّاً لبناء لبنان المستقلّ عن فرنسا، والمُتمايز عن سوريا، والرّافض لإبدال الانتداب الفرنسي بوصايةٍ بريطانيّة. ورأى أنّ الاستقلال حملَ بشائر حُلمٍ لبناني مُشترَك يربط النُّخب اللّبنانيّة بشعاراتِ الثورة الفرنسيّة عن الحريّة، والمُساواة، والعدالة، والإخاء والمُواطَنة، وحركة التحرُّر الوطني العربيّة، واحترام قرارات الأُمم المتّحدة، وبخاصّة حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وكان للبنان دَوره في صَوْغِ شرعة حقوق الإنسان؛ ما شجَّع النُّخب اللّبنانيّة على رفضِ مبدأ الانعزال، مع الإصرار الدائم على العيش المُشترَك بين جميع مكوّناته السكّانيّة، والتفاعُل الإيجابي مع نضال الشعوب العربيّة لنَيْل الاستقلال، والتضامُن مع النُّخب الجديدة من روّاد العروبة الثقافيّة.
وَصَفَ قرم هذا المَسار بأنّه بَلْوَرَ في لبنان مفهوماً جديداً للوحدة العربيّة كاد يَقترب من مفهوم الوحدة في أوروبا على أُسسٍ قوميّة جامعة. ولعبَ الحوار العربي – الأوروبي دَوراً بارزاً في تداخُل هذَيْن التيّارَيْن في أثناء البحث عن وحدةٍ لبنانيّة جامِعة خارج القيد الطائفي لحماية وحدة اللّبنانيّين على قواعد سياسيّة عصريّة لم تشهد الساحة اللّبنانيّة مثيلاً لها قبل الاستقلال.
وأكَّد قرم على أنّ مُقارَبة اللّبنانيّين لتلك الوحدة كانت بالغة الأهميّة. “ناضلَ اللّبنانيّون لبناءِ مُجتمعٍ جديد يتعارض مع الخيار الإسرائيلي بقدر ما يقترب من النضال الفلسطيني. وهنا تكمن حاليّاً المأساة الحقيقيّة. نضالان من أجل الاختلاف، يلتقيان في مشروع تأسيسِ مُجتمعٍ جديد متعدّد من ضمن الوحدة، يتجاهل كلٌّ منهما الآخر أو يتقاتلان ويقتل بعضهما بعضاً. وخوفي من رؤية الحلم الفلسطيني يتلاشى عندما نَشهد تفكُّك لبنان… لقد أَسهَمَ اللّبنانيّون في صنْعِ النموذج الأوّلي اللّبناني للعالَم العربي بمُجمله كتجربة مثاليّة للعَيش المُشترَك، وذلك بالاتّفاق مع قوى أخرى من داخل العالَم الإسلامي أو من خارجه”.
تعمَّد قرم تكثيفَ الكثير من مقولاته حول مشكلات بناء الدولة والمُجتمع في لبنان، وذلك تعميماً للفائدة. وتضمَّنت مقدّمات كُتبه رؤيةً منهجيّة تناولت جغرافيّة لبنان، وتركيبته السكّانيّة، وتنظيماته السياسيّة والإداريّة، والجذور التاريخيّة لتوزُّع طوائفه الدّينيّة. وفي كتابَيْه “لبنان المُعاصِر: تاريخ ومُجتمع“، و”مدخل إلى لبنان واللّبنانيّين: اقتراحات في الإصلاح“، بَلْوَرَ المزيد من المقولات السياسيّة والثقافيّة الجديدة التي توزَّعت موضوعاتها في إطارِ مراحل ثلاث:
الأولى: مرحلة ما قبل الاستقلال. وهي ترقى في الزمن التاريخي إلى بداية تشكُّل المُجتمع اللّبناني كهويّة سياسيّة، عرفت شيئاً من التمايُز عن المُقاطعات المُجاورة في ظلّ الإمارتَيْن المَعنيّة والشهابيّة.
الثانية: مرحلة الاستقلال المستحيل ما بين 1943 – 1990. وفيها تحليل معمَّق لتاريخ لبنان المُعاصر بعد نَيْله الاستقلال السياسي، وحتّى نهاية حرب أهليّة مدمّرة دامت خمسة عشر عاماً. وبكثيرٍ من الدراية والموضوعيّة، حلَّل ظروف بناء الدولة اللّبنانيّة المستقلّة، والمقولات السياسيّة والاقتصاديّة التي كانت سائدة قبل انفجار الحرب اللّبنانيّة، وما رافقها من بحبوحة اقتصاديّة. وأَفرد مساحةً واسعة لدراسة الإصلاحات الشهابيّة التي كانت تهدف إلى بناء دولةٍ عصريّة تتجاوز سلبيّات المرحلة السابقة.
الثالثة: مرحلة الإنجازات الهزيلة التي تمخَّضت عنها الجمهوريّة الثانية في لبنان منذ قيامها على أساس مقرّرات مؤتمر الطائف لعام 1989. شهدت تلك المرحلة صعودَ بعض قادة الميليشيات إلى مواقع السلطة في لبنان، وهَيْمَنة الرأسمال المالي على مقدّرات الدولة اللّبنانيّة، والتصرُّف بأراضيها، والتحكُّم بمؤسّساتها. فانتشرَ الفساد والإفساد والهَدر المالي والصفقات المشبوهة على نطاقٍ واسع. ومع انهيار مؤسّسات الدولة على أيدي قادة الميليشيات والرأسمال المتوحّش، كَثُرَ الحديث عن الطبقة الوسطى والفقيرة خلال فترة البحبوحة الشمعونيّة والإصلاحات الشهابيّة. فانهارَ التعليمُ الرسمي، وتقلَّص حَجْمُ الطبقات الوسطى بشكلٍ مريع. وعُقدت صفقاتٌ مشبوهة على حساب إفقار اللّبنانيّين، وتشويه صورة لبنان على المستويَيْن العربي والدولي. ولعبَ الفسادُ الإداري والمالي دَوراً أساسيّاً في التحكُّم بالسلطتَيْن التشريعيّة والتنفيذيّة، وتسييس القضاء، وإفقار الطبقة الوسطى، ومُصادَرة أموال المودعين، وفتْح باب الهجرة على مصراعَيْه أمام اللّبنانيّين.
قدَّم جورج قرم تاريخَ لبنان الحديث والمُعاصِر بكثيرٍ من الدقّة التاريخيّة والتحليل الموضوعي. فأسهَم بعُمق في رسْمِ معالِم تاريخ لبنان الحقيقي، غير المؤدلَج أو المتلوِّن بلَونِ الطوائف. كما أسهَم في تعرية بنية المُجتمع اللّبناني من حيث هي بنية فسيفسائيّة، غنيّة ومعقّدة بصورةٍ لا مثيل لها من جهة، لكنّها عرضة للانفعال الشديد، وتَستدرِج تدخُّلاتٍ إقليميّة ودوليّة من جهة أخرى. ويبقى السؤال الأساسي عمّا إذا كان تاريخ هذه الدولة سيبقى “عبئاً” على لبنان واللّبنانيّين، وما إذا كانت ترويكا الحُكم فيها ستستمرّ في منْع قيام دولة ديموقراطيّة مستقلّة وقابلة للحياة في عصر العَوْلَمة والتحوّلات الإقليميّة والدوليّة المُتسارِعة.
ختاماً، لا يزال الصراعُ مُحتدماً في لبنان حول الانتماء الدّيني أو الطائفي، والانتماء الوطني أو العلماني، ولا يزال النظام السياسي فيه، منذ قيام دولة لبنان الكبير، أسيرَ منظومةٍ سياسيّةٍ فاسدة تتحكَّم بجميع مؤسّسات الدولة اللّبنانيّة، التشريعيّة منها والتنفيذيّة، والقضائيّة، والإداريّة. ولا تزال هويّةُ لبنان التاريخيّة أسيرةَ تجاذُباتٍ طائفيّة لا ترقى إلى مرتبة التفاعُل بين ثقافات المُجتعات المتعدّدة السكّان والمتنوّعة الثقافات. وقد أَبدع جورج قرم في مُعالَجة الكثير من القضايا اللّبنانيّة. وطَرَحَ صيغةً مستقبليّة للبنان إنطلاقاً من قناعاتٍ فلسفيّة عامّة. وتُعتبَر دراساته في هذا المجال الأكثر كثافةً وغنىً وتنوّعاً بين أدبيّات تلك المرحلة لأنّها تضمَّنت مقولاتٍ علميّة رصينة تؤكِّد على سِعة اطّلاعِ الباحث، ومَعرفته الدقيقة بتفاصيل المشكلات الداخليّة والتحوّلات الإقليميّة العاصفة التي يشهدها لبنان والمشرق العربي.
***
*مؤرّخ وباحث من لبنان
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق