عودة العرب للإسهام في عِلم الفَلَك
د. حسن الشريف*
كان للعرب دَورٌ ملحوظ في تقدُّم عِلم الفَلَك. وكغيرهم من الشعوب، بدأوا بجمْعِ ما عرفته الشعوب السابقة قبلهم ونقْله إلى لغتهم. وبقيت ترجماتهم تُعتبَر المصادر الوحيدة في الحضارة الإنسانيّة لِما كان قبلهم من كُتبٍ واكتشافات، بخاصّة كتاب المجسطي لبطليموس. وبعد ذلك دفعوا عِلم الفَلَك خطواتٍ هائلة إلى الأمام، فرَصدوا الحركات الدقيقة للكواكب، ووضعوا خرائط للسماء، وجداول لنجومها.
وما زال العديد من النجوم يحتفظ بالاسم العربيّ إلى يومنا هذا، مثل “الغول” و”الطير” و”الدبران”، وغيرها كثير. كما قام العرب بتطوير العديد من آلات عِلم الفَلَك التي بقيت تُستعمل إلى حين اكتشاف المرقب مع غاليليو.
وبعد طول غياب، كان من الطبيعي أن تكون هنالك عودةٌ عربيّة للمشاركة في الجهد الإنسانيّ المتجسّد حاليّاً في مهمّات فضائيّة مختلفة.
سبْر أعماق الكون
مثلما يفعل البعض منّا اليوم، كان أسلافُنا يتطلّعون إلى السماء باندهاشٍ وإعجاب، وأحياناً بتقديس أو بلا مبالاة. قلّة منّا مَن يَفهم حقيقةَ الكون ومكوّنات الأجرام السماويّة، وبأنّ هذا الكون يمتدّ لبلايين السنين في الزمان والمكان، وبأنّ الأرض والمجموعة الشمسيّة، ليست سوى جزءٍ ضئيلٍ غير مؤثِّر في هذا الكون العظيم. لهذا كانت المهمّات الفضائيّة تُشكِّل، من ضمن أهدافها، سبْرَ أعماق الكون وأبعاده.
الإمارات أوّل دولة عربيّة في مهمّات فضائيّة
ربّما كانت أهمّ مهمّة فضائيّة عربيّة حديثة هي “مسبار الأمل”، الذي وصلَ إلى المرّيخ في شباط/ فبراير من العام 2021 بإدارة مركز محمّد بن راشد لعلوم الفضاء في الإمارات العربيّة المتّحدة. وقد خُصِّص المسبار لدراسةِ غلاف المرّيخ الجوّي، والمناخ والطقس السائدَيْن على سطح هذا الكوكب، بما في ذلك العواصف الرمليّة، وتنوّع المناخ في أجزاء مختلفة من الكواكب، وتغيّرات هذا المناخ خلال العام، ومع الزمن.
وتَعتبر دولةُ الإمارات أنّ هذا المسبار هو استثمارٌ مهمّ في بناء القدرات البشريّة فيها. وقد حُمِّل المسبار ثلاث رسائل: الأولى هي أنّ الحضارة العربيّة قد لَعبت دَوراً مهمّاً في تطوير عِلم الفَلَك العالَميّ في فتراتٍ تاريخيّة متكرّرة. والرسالة الثانية هي للشعوب العربيّة، لتقول لها إنّه ليس هنالك من مستحيل على العُلماء العرب إذا بذلوا الجهد والاستثمار المطلوب. أمّا الثالثة، فهي للعُلماء الطامحين، بأن ليس هنالك من سقف للطموح، حتّى في الفضاء.
وقَبل ذلك، في شباط/ فبراير من العام 1976 التقى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بثلاثة من روّاد الفضاء. وبدأ بتأثير ذلك اللّقاء برنامجُ الفضاء في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة. وهنالك صورة بالأبيض والأسود لهذا اللّقاء في مركز قيادة القوّة الجويّة في تلك الدولة.
وقد أثّرت هذه الصورة على الأمير الطيّار عزّة المنصوري الذي أصبح أوّل رائد فضاء في دولة الإمارات، وشاركَ في رحلة إلى محطّة الفضاء الدوليّة في أيلول/ سبتمبر من العام 2019.
وهنالك “صخرة من القمر” وُضعت في المتحف الوطنيّ في العَين، في دولة الإمارات، هديّة إلى الشيخ زايد من روّاد الفضاء الذين التقاهم. وإلى جانب تلك الصخرة، ثمّة عَلَمٌ صغير للإمارات حُمل إلى القمر في رحلة أبّولو XVII التي قامت في شهر كانون الأوّل/ ديسمبر 1972.
وقد أَطلقت دولةُ الإمارات مهمّة الفضاء “مسبار الأمل” إلى المرّيخ في العام 2021 في ذكرى مرور 50 سنة على تأسيس الدولة. وقد سُمّيت بقعة على المرّيخ مشابهة لشبه الجزيرة العربيّة بـ “الأرض العربيّة” Arabia Terra في العام 1979.
ويستمرّ “مسبار الأمل” في مداره لمدّة سنة مريخيّة كاملة (687 يوماً). وسيدور حول الكوكب في مدارٍ بيضاويّ مرّة كلّ 55 ساعة، على ارتفاعِ 20 كم عن سطح الكوكب.
السعوديّة والعودة العربيّة إلى عِلم الفَلَك
بعد طول غياب، منذ مهمّة رائد الفضاء سلطان بن سلمان في العام 1985، عادت السعوديّة لتُشارِك بشكلٍ مُلفتٍ في برامج الفضاء الدوليّة؛ فقد أَرسلت إلى محطّة الفضاء الدوليّة (ISS) في 21 أيّار/ مايو الماضي رائدَ الفضاء علي القرني ورائدةَ الفضاء ريّانة برناوي التي أصبحت أوّل امرأة عربيّة تُشارِك في رحلات الفضاء. وبهما كانت المَملكة العربيّة السعوديّة أوّلَ دولةٍ من خارج الشركاء في محطّة الفضاء الدوليّة ترسل روّاداً إلى تلك المحطّة. وقد التقيا هنالك برائد الفضاء سلطان سيف النيادي، من دولة الإمارات العربيّة المتّحدة الذي من المقرّر أن يبقى في المحطّة الدوليّة لمدّة ستّة أشهر. وستكون مدّة سلطان أطول مدّة لرائد فضاء عربيّ في المحطّة الدوليّة. وقد عاد الرائدان سالمَيْن إلى الأرض في 31 أيّار/ مايو.
كانت أوّل رسالة للرائدَيْن قد بُثَّت من المحطّة إلى الأرض باللّغة العربيّة، أرادا بها الوصول إلى قلوب ملايين العرب المُتابعين لرحلتهما.
كانت مهمّة الرائدَيْن المُشارَكة في 20 مهمّة بحثيّة – في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والفنون والرياضيّات STEAM – بما في ذلك 14 تجربة بحثيّة ذات أهداف تربويّة. من ذلك أبحاث حول التوقّعات المبكّرة للإصابة بمرض السرطان وكيفيّة تجنُّب ذلك؛ وكيف يُمكن توليد أمطار اصطناعيّة في مستوطناتٍ مستقبليّة على القمر والمرّيخ.
وفي حين أنّ مواطنين من 263 دولة قد أقاموا في المحطّة، إلّا أنّ السعوديّة كانت بهذه المهمّة واحدة من بين ستّ دول فقط لديها رائدَان في الوقت نفسه في المحطّة الدوليّة.
وكانت السعوديّة قد أَنشأت “الهيئة السعوديّة للفضاء” في أواخر العام 2018، كجزءٍ من برامج تنويع الأنشطة الاقتصاديّة، وإشراك القطاع الخاصّ فيها. وبعد هذه المهمّة، أَعلنت السعوديّة الارتقاءَ بالهيئة لتُصبح “وكالة الفضاء السعوديّة”، حيث من المؤمّل أن تكون لها نشاطات فضائيّة متعدّدة أبعد من المُشارَكة في محطّة الفضاء الدوليّة.
روّاد فضاء عرب
في حزيران/ يونيو من العام 1985، شاركَ الأميرُ السعوديّ سلطان بن سلمان في رحلةٍ من الرحلات الأميركيّة إلى الفضاء، ليكون أوّلَ رائد فضاء عربيّ يُشارِك في مهمّة فضائيّة. وقد أجرى سلطان تمريناتٍ عديدة قبل المُشارَكة في رحلة الفضاء، بما في ذلك إدارة القمر العربيّ على ارتفاع 320 كم فوق سطح الأرض، وكيفيّة استعمال كاميرا فضائيّة لأخذ صور عن التفاصيل الجيولوجيّة لشبه الجزيرة العربيّة.
على الرّغم من أنّه ليس من رائدِ فضاءٍ عربيٍّ حطّت قَدَمُه على سطح القمر، إلّا أنّ الاتّحاد الدوليّ لعِلم الفَلَك IAU سمّى إحدى الفوّهات على القمر (عرضها 65 كم) باسم الجغرافيّ العربيّ أبو الفدى، وهو إسماعيل بن أبو الفدى، الأمير الأيّوبي الذي عاش في سوريا من العام 1273 إلى العام 1331. وهذه الفوّهة هي واحدة من 24 فوّهة على سطح القمر، سُمّيت بأسماء عُلماء عرب، من بينهم عبّاس بن فرناس الأندلسيّ الشهير الذي كان أوّل من حاول الطيران في تاريخ البشريّة في العام 875 ميلاديّة.
محمّد أحمد فارس: رائد فضاء من سوريا، من مواليد العام 1951 في حلب. شارك في رحلة مركبة الفضاء السوفياتيّة سيوز (TM-2) m3 إلى محطّة الفضاء مير في العام 1987، مُشارِكاً رائدَيْ فضاء سوفياتيَّيْن. وهو أوّل من حَمَلَ تراباً من الأرض إلى الفضاء، وكان التراب من منطقة دمشق.
عزّة علي عبدان خلفان المنصوري: وهو أوّل رائد فضاء من الإمارات شارك في العام 2019 في رحلة مركبة الفضاء سيوز MS-15 إلى محطّة الفضاء الدوليّة. وخلال إقامته القصيرة في محطّة الفضاء الدوليّة أجرى 15 تجربة وضعها طلبةُ ثانويّاتٍ من الإمارات، واختارتها MBRSC في مسابقة حول العِلم في الفضاء. كما صوَّرَ أوّلَ جولة بالعربيّة في فضاء المحطّة الدوليّة.
خلاصة الكلام
يمكن القول إنّ هناك عودة عربيّة واعدة إلى عِلم الفَلَك. وإلى جانب ما سبق، أقامتْ دولٌ عربيّة عدّة مراصد وطنيّة متنوّعة القدرات والمَوارِد. كما أَنشأت جامعاتٌ عربيّة عدّة وحداتِ اختصاصٍ في عِلم الفَلَك، يُعطى خرّيجوها من الطالبات والطلبة شهادات بكالوريوس، وبعضها حتّى الدكتوراه، ويُشرف على تعليم هذا الاختصاص نُخبةٌ من أساتذة علم الفَلَك العرب، يقومون بأبحاثهم وأرصادهم.
أخيراً، استُحدثت في عددٍ من الدول العربيّة اتّحاداتٌ وطنيّة للفلكيّين، بعضها لديه عضويّة في “الاتّحاد الدوليّ لعلم الفَلَك” International Astronomy Union (IAU).
وهكذا نتطلّع إلى إسهاماتٍ عربيّة متوالية في علم الفَلَك، يكون لها موقع الصدارة، علميّاً وعملانيّاً، تُعيد للذاكرة الأهميّة التي كانت لهذا العِلم في تاريخنا.
***
*باحث ومُترجِم من لبنان
*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق