مُستقبلها مرهونٌ بالحاضر والماضي: الرواية والاستشراف
د. رفيف رضا صيداوي*
في قواعد الرواية ونَحوِها كجنسٍ أدبيّ، ثمّة مفهوم الاستباق أو السرد الاستشرافيّ، الذي يتمّ بمُقتضاه تجاوُز مدّة معيّنة من زمن القصّة بغية استباق الأحداث واستشراف مستقبلها بالتطلُّع إلى الآتي منها. وهذه واحدة من التقنيّات السرديّة للّعب على تأطير الزّمن الروائيّ. فكما أنّ ثمّة اشتغالاً على زمن القصّ، الذي يتمّ خلاله سَوْقُ الكلام، وزمن الشيء الذي يقصّ عنه القصّ، يتفنّن الراوي أيضاً، بحسب الناقدة يمنى العيد، في سرد ما يحدث: يقدِّم ويؤخِّر فعلاً على فعل، ويلعب وفق ما يراه مُناسباً للمَسار الذي يبني أو لسؤال التشويق الذي يحاول أو للعقدة التي يعقد…إلخ، في عمليّةٍ وَصَفَها سعيد يقطين بـ “تخطيب الزمن”، أي إعطاء زمن القصّة بُعداً متميِّزاً وخاصّاً.
للزمن في الرواية إذاً بنية خاصّة ضمن البناء العامّ لهذه الأخيرة، وعديدة هي الروايات التي ارتكزت على الاستباق أو السرد الاستشرافي في بناءِ خطابٍ متميّز، أو استعارت زمناً مستقبليّاً تتفاوت مُدد بعُده أو قربه عن الزمن الوقائعيّ أو زمن الكتابة. وليس أدلّ على ذلك في الحالة الأخيرة، ما قامَ به الروائي البريطاني جورج أورويل الذي جَعَلَ زمنَ روايتِه “1984” (أو ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين Nineteen Eighty-Four) بعيداً زمنيّاً نحو 35 عاماً عن زمن الكتابة (1949)، أو رواية “مدينة بوهاين” (2011)، للكاتب الإيرلندي كيفن باري التي تدور أحداثها في العام 2053 – 2054 الذي يبعد عن زمن الكتابة نحو 42 عاماً.
من دون أن يُفهم من مَدخلنا هذا أنّ البُعد الاستشرافي لأيّ نصّ روائي عائد إلى اللّعب على تقنيّة الزّمن فقط، لا بدّ من التوضيح أنّ هذا اللّعب ما هو إلّا عنصر من عناصر البنية التكوينيّة لروايةٍ ما، والتي تتألّف من مجموعة عناصر(اللّغة ونظام تركيبها خصوصاً، لجهة تركيب الجُمل والمُفردات والأصوات والإيقاعات والتكرارات، فضلاً عن بنية الزّمان والمكان…إلخ) تربط بينها علاقات تتحرّك داخل هذه البنية العامّة؛ ما يعني أنّ للنصّ الروائي قوانينه الداخليّة التي تُحدِّد، في كليّتها، ومن خلال كيفيّة اشتغال الكاتب الروائي عليها، تميُّزَ خطابٍ روائيٍّ ما وبُعدَه الاستشرافيّ وإبداعَ مؤلِّفه. هذا ما تبدّى مثلاً في روايات عربيّة استشرافيّة، لم يلجأ كتّابها إلى الاستباق أو السرد الاستشرافي كعنصرٍ أساس في بناءِ خطابهم، شأن روايَتَيْ “طواحين بيروت” (1969) للروائي اللّبناني توفيق يوسف عوّاد و“بيروت 75” (1974) للروائيّة السوريّة اللّبنانيّة غادة السمّان، و”ستّة أيّام” (1961) للروائي السوري حليم بركات، مقابل رواياتٍ أخرى استعارَ كُتّابها زمناً مستقبليّاً كاملاً وسكنوا فيه على غرار روايَتَيْ “1984” و”مدينة بوهاين” المذكورتَيْن.
الروائي اللّبناني توفيق يوسف عوّاد استشرفَ في روايته “طواحين بيروت” الحربَ اللّبنانيّة التي اندلعت في العام 1975؛ إذ ربطَ ربطاً فنيّاً بين العادات والتقاليد البالية الرّاسخة من مخلَّفات الماضي من جهة، وبين البنية الاقتصاديّة – الاجتماعيّة الهشّة التي تعتمل بالتناقضات بين الريف والمدينة، بين الدولة الحديثة والدولة الطائفيّة، بين الأغنياء والفقراء، بين الدولة المستقلَّة والاعتداءات الاسرائيليّة المتكرَّرة على جنوب لبنان، بين النظام الاقتصادي اللّبناني الحرّ وثغرات هذا النظام…إلخ. ووازى فنّيّاً بين الحالة النفسيّة لبطلته “تميمة” وبين العاصمة بيروت، حيث إنّ كلتيهما، أي تميمة وأرض الوطن، استُبيح كيانُهُما وجَسدُهُما، ما أَنبأ بانفجارٍ ما، يكاد يكون حتميّاً، لا يزال قائماً إلى الآن.
والكلام نفسهُ يمكن سَوقه بالنسبة إلى رواية غادة السمّان “بيروت 75” التي عرَّت وجهَ بيروت الحقيقي، انطلاقاً من حيوات ركّاب خمسة ينتمون إلى الطبقات الكادحة، جمعتهم سيّارة أجرة استقلّوها مُتّجهين إلى بيروت لتحقيق أحلامهم بقدر ما جمعهم البؤس وتحجُّر التقاليد. فربَطَ الخطابُ الروائي بين زيف العادات والتقاليد وفساد المُمارسة السياسيّة اللّبنانيّة واستغلالِ أصحاب المال والجاه والسلطة غيرهم ممَّن يفتقرون إلى مثل هذه المزايا، ليَنتهي هذا الخطابُ بوضْع اليّد على اهتزازِ العلاقات في المُجتمع اللّبناني، وتسوُّس بنيانه، متِّنبئاً بالحرب التي اندلعت بعد أشهر قليلة تلت زمن كتابة الرواية.
أمّا حليم بركات، فقد ارتقى فنّياً بخطاب رواية “ستّة أيّام” (1961) إلى مستوىً متقدّم جدّاً من تحليل الواقع الفلسطيني، بعيداً عن الأسْطَرة الوطنيّة أو القوميّة. فمِن قرية “دير البحر” الفلسطينيّة، انطلق بركات متخيِّلاً أهل البلدة وهُم بانتظار تهديد العدوّ الإسرائيلي الذي مَنَح السكّان مهلة أسبوع للاستسلام والعيش بسلام أو “مسحهم مسحاً” (ص10). فجاء تقطيع الرواية بحسب الأيّام الستّة، بدءاً من يوم الإثنين وصولاً إلى يوم السبت، تاريخ العدوان الصهيوني على البلدة، قبل انتهاء مهلة الأسبوع المُفترَضة لتنفيذ التهديد.
الشخصيّة الإشكاليّة التي جسّدها “سهيل”، بطل الرواية أو الشخصيّة الرئيسة فيها، حملت خطاب الرواية المُشكِّك بالتعاون الجدّي للقيادات العربيّة على ردّ العدوان الإسرائيلي، ولاسيّما مع غياب التخطيط وسيطرة العادات والتقاليد البالية، لكنْ من دون إغفال التاريخ البطولي للبلدة. فلطالما تساءَل سهيل ماذا يشدّه إلى بلدته؟ “ماذا يشدّه إلى الخوف والجهل والفقر والتناحُر والفوضى والتكالُب؟” (…) و”كيف يواجهون الأعداء؟ بالبندقيّة العتيقة والمسدَّس والخنجر والوهْم الخرافي في الرؤوس والساعة المتوقّفة عن المسير؟”
البطل الإشكالي “سهيل” بدا كوسيلة فنّية لحليم بركات لتوصيف غَدر العدوّ الصهيوني الذي نفَّذ تهديده قَبل انتهاء المهلة، ولتوصيف بَسالة الشباب العربي المُجاهِد، وكذلك لتعرية الخَونة منهم الذي لا يتردّدون لحظة في خيانة رفاقهم وأبناء قومهم ووطنهم وقضيّتهم، لكن من دون السقوط في المُباشرة والإيديولوجيّة الفجّة. إذ سرعان ما شارك “سهيل” عمليّاً في المقاوَمة، لتبدو شخصيّته الإشكاليّة مجرّد وسيلة لتفكيك الواقع الفلسطيني تفكيكاً موضوعيّاً ليس إلّا: لم تنتهِ الرواية بالانتصار المدوّي للمُجاهدين الفلسطينيّين، بل انتهت كما كان العقل والمنطق يفترضان بها أن تنتهي، وليس كما أرادت عواطف المُجاهدين الصادقين؛ فانتهت بسقوط البلدة بأقلّ من نصف ساعة، بسبب أخطاء بنيويّة أشارت إليها الرواية وتعجز بسببها البلدانُ العربيّة عن ردّ الاعتداء الصهيوني. وقد استفاض بركات في استعراض هذه الأخطاء في رواية “عودة الطائر إلى البحر” (1969) التي صدرت بعد هزيمة العام 1967، تلك الهزيمة التي جَعلت من الرواية الأولى، أي “ستّة أيّام” بمنزلة الرؤيا لما حدث على أرض الواقع في العام 1967.
“اختلالات” العالَم من منظورٍ روائيّ
ماذا عن جورج أورويل وروايته الصادرة منذ أكثر من 70 سنة من الآن؟ ماذا عن المُستقبل الأسود المُظلِم لبلادٍ يحكمها زعيم أوحد (الأخ الأكبر)، حيث أعضاء الحزب الحاكِم الذين يشكّلون نسبة 2% من السكّان فقط، يستأثرون بحريّة غالبيّة الشعب ويُصادرون مصيره، ويُمارسون الرقابة على كلّ تفصيلٍ من تفاصيل حياة أفراده، إلى حدّ التقاط كلّ خاطرة أو فكرة أو تخييل من أيّ نوع كان، ويعملون على تزييف وعي الناس إلى حدّ إقناعهم بشعار الحزب الحاكِم وصوابيّته؟ ماذا عن شِعار الحزب القائم على ثلاث ثوابت: ثابتة أنّ “الحرّية هي العبوديّة”/ وأنّ “الحرب هي السلام”/ وأنّ “الجهل هو القوّة”، وعن فلسفة الحزب والعالَم الذي يريدون خلقه، ليغدوَ “النقيض التامّ ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصوّرها المُصلحون الأقدمون (…) لقد زعمت الحضارات الغابرة أنّها قامت على الحبّ والعدالة أمّا حضارتنا فهي قائمة على الكراهيّة، ففي عالَمنا لا مكان للعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذّات، وأيّ شيء خلاف ذلك سندمّره تدميراً”؟
إلى أيّ حدّ يُشبه واقعُ الرواية الذي استشرفَه أورويل واقعَنا الحاليّ القائم على التضليل والتزييف والكراهيّة؟ وماذا عن الوسيلة الأساسيّة لهذا القهر المُتمثّلة بالتكنولوجيا، والمُعبَّر عنها فنيّاً في رواية أورويل بتوزُّع شاشات العرض أو شاشات المُراقبة في مختلف أنحاء البلاد، على مَدار الساعة، من دون تمييز بين الحيّز العامّ أو الخاصّ، مُطاوِلاً الشقق السكنيّة وأماكن العمل أو الأماكن العامّة، فضلاً عن الميكروفونات المزروعة في الأمكنة كلّها؟
أمّا كيفن باري فيَستشرف في “مدينة بوهاين” عالَمَنا الرّاهن ومُستقبله بعد أكثر من عَقدَيْن، فيراه عالَماً فاقِداً كلّ ما يمتّ إلى الحضارة والمدنيّة بصِلة. بدا عالَماً أقرب إلى البدائيّة الأولى، لكنّه يختلف عنها في كونه عرف المدنيّة لكنّه فَقَدَها: فسادٌ يلوِّث هواء المدينة ونهرها/ ميادين صغيرة وعفنة وكريهة جدّاً/ عائلات ومجموعات وعصابات مُتناحرة/ جرائم بالجملة/ سبي نساء يحملْنَ على ظهورهنّ آثار الضرب التي تُخبر عن أَسْرِهنّ/ شراء فتياة صغيرات/ كلاب مسعورة وميّتة وحِقن مخدّرات ولفّافات طعام في بواليع الطرقات/ دماء وشوارع قذرة/ خمّارات ومواخير ومَكاتب مُراهنات/ أكل لحوم بكمّيات كبيرة وشرب بكمّيات كبيرة أيضاً وجنس/ شباب يدخّنون الحشيشة ويتكلّمون على النساء ويتمرّسون في استخدام الخناجر… هكذا تتوالى الأجيال في بوهاين. أمّا رجال السلطة فبدوا “أشخاصاً يائسين يتقاضون أجوراً منخفضة” وقد اهتمّوا “بأن تُحافظ مدينة بوهاين، التي كانت في ما مضى مدينة عظيمة وجامِعة، على مَظهر مدنيّتها القديمة”.
لعلّ الخَيطَ الجامع لهذه الروايات الاستشرافيّة كلّها، على تعدُّد أشكال استخدامها للزمن، قائمٌ أساساً، وقَبل أيّ شيْ آخر، على قراءةٍ مُعمَّقة لزمانها وتخبّطات هذا الزمان. فالمُستقبلُ مرهونٌ بالماضي والحاضر. وإذا ما اكتسَت هذه النصوص الروائيّة سمةَ الخلود، فذلك لأنّها نجحت ببناءِ مجازٍ كلّيّ يتعدّى ثنائيّة الحقيقة والمجاز، مُكتفيةً بخطابها الذّاتي الكاشف عن عورات الماضي والحاضر من أجل بناء مُجتمعاتٍ أفضل، الإنسان فيها هو الأساس والمآل والقيمة العليا. مثل هذه الروايات الخالدة تُحذِّر، من دون الوقوع في فخّ الابتذال الأيديولوجي أو الخروج عن معايير الشعريّة الروائيّة، ممّا يُمكن أن يواجِههُ المُستقبل من تهديداتٍ ومخاطر، سواء أكانت هذه المخاطر تَخصّ مجتمعاً ما أم العالَم بأسره أم الإنسانيّة جمعاء.
***
*مؤسّسة الفكر العربيّ
*نشرة أفق