“جورج جرداق يقرأ الإمام عليّ”

Views: 984

د. رفيق أبو غوش 

  يحضرُ جورج جرداق بكامل أناقته اللفظية والفكرية – وإن كان قد غادر هذه الفانية منذ سنواتٍ عشر- (1933-2014) في مجمل النقاشات الفكريّة والمذهبيّة التي تعيشها المجموعات المتفدرلة المنقسمة حول جنس الملائكة، وحول قضايا خلافية ضاربة في عمق الوجدان العربيّ. فهذا الشّاعر اللبنانيّ المرجعيونيّ الذي نهل من نداوة السّهل، وعزف الجمالَ على خيوط الرّيح، يخاطب الإنسانية بأبرز تجلّياتها، والمستقبل بأرقى أدوات الخطاب، والتّاريخ في حلّته الجامعة، الرافضة للتفرقة في كتابه الذّائع “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية“، الذي تجاوز من خلاله الزّواريب الضّيقة والأزّقة البائسة، والأصوات الناشزة، فالتّاريخ عنده “شاهدٌ لا قلبَ له”. 

 

مزايا الإمام عليّ وسجاياه

   أُعجبَ الشّاعر بمزايا الإمام عليّ وسجاياه، وعدّهُ من أعظم الشخصيّات العالميّة، التي تركت كبيرَ أثرٍ أخلاقي وتعليمي وفروسي وتربوي للأجيال. وأحاطت أعمالهُ بشتّى القيم الإنسانية التي تُعلي الأفراد والجماعات: كالعدالة، والمساواة، والشّجاعة في قول الحقّ، والتّضحية ونكران الذّات.

   ولم يكن جورج جرداق الوحيد الذي أٌعجبَ بشخصية الإمام، فقبله أحب هذه الشّخصية مفكّرون وشعراء مسيحيون ومسلمون كـ جرجي زيدان في كتاب “17 رمضان”، وجبران، ونعيمة، وبولس سلامة في “عيد الغدير،” وغيرهم، والشّاعر صفيّ الدّين الحلّي في كتاب “الألفين”، وإبن أبي الجديد في كتاب الشّروع، وعبّاس محمود العقّاد في كتابه “عبقريّة الإمام”، والشّيخ محمد عبده في مقدّمة نهج البلاغة، وغيرهم. 

   يمثّل الإمام في هذا الكتاب وحدة الأديان ومحورها، ومصدر الرّسالات السّماوية المنبثقة عن خالقٍ واحد، وهي تتقاطع كلّها في مجرى الدّعوة إلى توحيد الخالق، وتعميم قيم السّلام والتّلاقي على الرّغم من الجزر المذهبية والتّفتيتيّة التي يتمترسُ خلفها تجّار السّياسة والدّين ومروّجو الفِتن. 

 

محاكمة التّاريخ العربي

   يحاكم جورج جرداق التّاريخ العربي المليء بالسّقطات والأحداث المثيرة والمؤمرات، ويظهر له هذا التّاريخ تاريخَ قتلٍ ومناكفات وصراعات، ونكدٍ سلطوي. ويتبنّى نظريّة المؤامرة التي أطاحت معظم الخلفاء والولاة. فعصره كان عصر مؤامرات وتأليبٍ عليه وعلى حكمه، ورغم ذلك استطاع الإمام أن يثبّت دعائم حكمه، وأن يكون مؤثّرًا في مجرى الزّمان وفسحة المكان.

   وينسف جرداق القوميّات والانتماءات الضّيّقة، ولكنّه يعترف بتمايزها من دون أن ينغلق، ويربطها بالسّياق الحضاريّ العام للإنسانيّة. فالعرب، لم يعرفوا القوميّة – وفق رأيه – إلا من خلال الانفتاح والتّلاقح بين الحضارات المختلفة. والشّخصيّة القوميّة ليست محلّيّة محدّدة بمكان أو زمان، إنّما هي الشّخصيّة التي تؤثّر في تطوّر الإنسانية ونمائها وتعزيز قدراتها، وما الإمام إلا تلك الشّخصيّة التي ألهمت مفكّرين وفلاسفة غربيين في النّظرة القوميّة المنفتحة والممتدّة إلى آفاق إنسانيّة رحيبة، فالقوميّة ليست عرقًا ولا دينًا ولا مصالح مشتركة فحسب، بل هي مصالح إنسانيّة مشتركة ومتشابكة وفاعلة لخير البشريّة.

   إنّه قارئ واسع النّظرة، وناقدٌ موسوعيّ الاطّلاع، وعارفٌ بتفاصيل الأحداث التّاريخيّة ومجرياتها. يُسقط سجايا الإمام وصفاته وقيم العدالة والتّشريع وحقوق الإنسان على شرعة حقوق الإنسان العالميّة وميثاق الأمم المتّحدة، ويبيّن مدى التّقاطع والالتقاء بين هذه الشّرعيّة وتعاليم الإسلام.  

   ويتقاطع بيانُهُ وسحر لغته مع سحر لغة الإمام، ويتناولهُ بلغةٍ باذخة في بلاغتها وجمالها. فهذه الدّراسة مُصوغةٌ بلغةٍ أنيقة وبنفحةٍ شعريّة، وبأسلوبٍ شيّق على سلاسةٍ في العبارة ورحابةٍ في الفكرة، وتدفّقٍ في الصّور، ومنهجيّة في المقاربة. وينأى عن الأحكام الاعتباطيّة السّابقة، والتّعميمات النّاقصة، وينهجُ الاستقامة نبراسًا، فيضفي من علمه العميم وفهمه العميق، ويكشفُ العلاقات التي نجحت في تشبيك أواصرها شخصيّة الإمام ومبادئه بعيدًا من الغيبيّات. فهو عالمٌ يتقصّى ويتتبّع، ويقفُ في الوسط من الحقيقة، فلا يزايد، ولا يحابي، بل ينثر آراءه صريحة واضحة لا غرضَ لها سوى تبيان الحقائق، وتصويب النّظرة، والنّأي عن التّحريض المذهبي البغيض. 

 

خمس مجلّدات وملحق

   ويتوزّع الكتاب على مجلّداتٍ خمس وملحق: في المجلّد الأول وعنوانه “علي وحقوق الإنسان” يُبرز الكاتب أهميّة الانسجام بين الحقوق والواجبات، فلا يجوز في مجتمع عليّ أن يجوعَ إنسانٌ ويُتخمُ آخر، وأن يستأثرَ إنسانٌ بالثّروة دون سائر النّاس في حين يبقى آخرون تحت رحمة الفقر.

   في المجلّد الثّاني وعنوانه “عليّ والثّورة الفرنسيّة” يقارن الكاتب بين مبادئ الثّورة الفرنسيّة وحقوق الإنسان، ويبيّن أن مبادئ هذه الثّورة كان لها إرهاصاتٌ و أسسٌ في فكر الإمام.

   في المجلّد الثالث وعنوانه “علي وسقراط” يعدّد الكاتب الفضائل التي يتقاسمها الإمام مع سقراط، ويرى أن غاية كلّ من الإثنين واحدة في إسعاد الفرد، وفي اعلاءِ قيم الحقّ والخير والجمال.  

   وفي المجلّد الرّابع وعنوانه “عليّ وعصره” يُلفت الكاتب إلى دور الإسلام في بعثِ يقظةٍ عربيّة عظيمة، ويعرضُ لطائفةٍ من المؤامرات التي رافقت سِيَرَ الخلفاء الرّاشدين، ويُسفّه آراء باحثين يعدّون شخصيات مضيئة في تاريخ الإسلام مجرّد أشخاص شأنهم شأن النّاس العاديّين.

   وفي المجلّد الخامس وعنوانه “عليّ والقوميّة العربيّة” يكشفُ الكاتب عن ثوريّة الإمام وثورته، وتوجيه السّياسة لمصلحة هذه الشّعوب وقابليّتها للتّطوّر والانتقال من حال البداوة إلى حال الحضارة إلى آفاق الإنسانيّة الشّاملة. فالتّطور حالة مستمرّة، والقوميّة حالةٌ إنساتيّة، وآصرة تجمع الأقوام المتباعدة على طريق الخير والفلاح.

   وهذا كتابٌ جامعٌ في عصر الفرقة والتّناحر، وكتابٌ ناجعٌ في عصر الأمراض المذهبيّة والتّنابذ، وجورج جرداق الكاتب والشّاعر المتميّز، والمسيحيّ المتنوّر يعرفُ من أين يُحيي قيم التّلاقي والجمع في عصر الأنانيّات والتّباغض والضّغينة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *