اكْتُب مدينتَكَ

Views: 155

د. جان توما

المدينةُ  مرمى العمرِ ومطارحُ الروح، لذا تأتي كلُّ كتابةٍ عن المدينةِ شيئًا من استعادةِ المفقودِ، وهي محاولةٌ لترجمةِ الأحياءِ، بأحيائِها، وأشيائِها الصغيرةِ إلى أبجديّةِ الإبداع.

لكلٍّ مدينته، دسكرته، قريته، ربعه، خيمته وما صار في قلبه أطلالًا على أطلال. لكلّ مكان هويّته، وكي تبقى المدنُ هويّاتٍ حيّةً، لا هويّات مقتولة أو قاتلة، تأتي كتابةُ سِيَرَةِ المدينةِ شراعًا ينسابُ مع مواكبِ الحياةِ، لترسمَ مجاذيفَ الأيام صورتها الأولى. بداءاتها، عفوياتها، براءتها. تروح كتابة المدن إلى ملامح المدن الطفوليّة، ومفارق العمر الذي راح، كي تبقى الخطوط في راحتيها مقروءة في استشراف للآتيات المتبدّلة والمتحوّلة.

المدينة مدوّنة لمحابر شهدت ألف رواية ورواية، ووقفت على انفعالات وأكفّ منتفخة، وجراح ما زالت الذاكرة تعيشها على حدّ السكين، وجعًا وألمًا ونزفًا. قد تنهج كتابة المدن منهج التأريخ لواقعات، ولكنّه منهج مطرّز بالمشاعر والاضطرابات والقلق والتوتر، إذ غادرتِ المدن مطارحها التي ألفناها وألفتنا، وغادرناها، دخلناها بفرح، وخرجنا منها بفرح، لكنها دخلتنا، ولم تخرج منّا.

يرسم النورس المدينة، أو يكتبها جريان نهر أو ضباب واد. كلّ مدينة، أو دسكرة، أو قرية، نشيد فرح وأغنية وموّال، أو من الإيقاع الطروب قبل

أن تضيع منّا الذكريات والدروب.

***

*الصورة للفنان جاك أرتو

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *