بلال عبد الهادي: التفكير بالمقلوب

Views: 1033

جان توما

“من الصفر” عنوان يسبح عكس التيار. بلال عبد الهادي يرى الصفر أساسًا للبناء، فيما لا يتحدّث الناس اليوم إلّا برقم يضع على يمينه عدّة أصفار. عندهم الأصفار كمالة عدد، وعند بلال عبد الهادي الصفر عدد أوّل وهو بدء العدّ. يبحر المؤلّف في كتابه الجديد في هذا الاتجاه المعاكس، عكس التيار، على الرغم من أنّ موضوع الكتاب هو” مقالات حول قصص النجاح والتنمية الاجتماعيّة ( صفحة التعريف).

يبرّر بلال عبد الهادي سبب كتابته إلى أنّه “تستهويني قراءة سير الناجحين أصحاب الأفكار العمليّة، أي الأفكار التي تتحوّل إلى سلع ماديّة أو غير ماديّة، فيها منفعة للناس”( ص7)، ولكن من يتابع كتابات بلال يعرف علاقته بوالده ومسيرة عمله منذ طفولته إلى نجاحاته في المطبخ الطرابلسيّ، لذا فإنّ المؤلّف وإن أشار إلى أكثر من خمسين شخصيّة من الناجحين، إلّا أنّ والده هو نموذجه في البدء ” من الصفر” إلى النجاح، فإن قرأت الكتاب فأقرأه بعين بنويّة معجبة بأبويّة مكافحة، خاصة وأنّ المؤلف يقول: “على المرء أن لا ينسى دور اللامتوقّع في تغيير طريقة العين في النظر إلى الأشياء، كسر رتابة العينين ينقذ المرء من الحياة الرتيبة”(ص88).

 

يغرف الكتاب من حضارات العالم كلّها، قديمها وجديدها، وإن كانت حضارة الصين تعني له الكثير، خاصة بحكاياتها ومعنى أسماء أهلها بالعربيّة. تنقّل بلال من الصين وحكاياتها (ص9)، إلى لبنان(ص12)، والهند(ص18) وفرنسا(24) وأميركا(ص26)، وروسيا(151)، وغيرها من البلدان التي يستقي منها، بسبب موسوعيّته الثقافيّة واستزادته من المطالعة باللغة العربيّة وباللغتين الفرنسيّة والصينيّة. هذا الخليط ” البلاليّ” يُخرج وصفة من المطبخ الثقافيّ العالمي الذي يمضي فيه المؤلف أغلب أوقاته تمازجًا ما بين مكوّنات حضاريّة متنوّعة، فلا يتأخر من التوغّل في التراث العربيّ الثريّ مع الجاحظ (ص21)، وابن الأثير (ص 32)، وفي شعر المتنبي وعنترة بن شداد( ص43)، وابن سينا (ص56)، وابن الجوزي (ص69) والفراهيدي( ص152) وغيرهم، كما في ذهابه إلى فرانسيس باكون(ص21)، أرسطو(ص56)، وجان بول سارتر (131) ورولان بارت (ص158) وغيرهم، كذلك في تعمّقه في الأدب الصينيّ ومضامين توجّهاته من أجل تقديم نجاحات متنوّعة خارقة في عالم الأعمال.

جان توما

 

لا حدود عمريّة للنجاحات، فقد تبدأ في سن التقاعد، خاصة وأنّ ” الهواية كالقرش الأبيض لليوم الأسود”(ص94)، لذا وجب توفير مجالات التنمية لهذه الهوايات في التقاعد لتصبح نجاحات عمليّة (ص95). من هنا ينطلق المؤلف إلى الوقائع اليوميّة الشعبيّة للناس، فيسعى إلى “تفصيح العامية”، فيورد مفردات تفي بالمعنى وتشي بمعنى المعنى، أي يمارس لعبة الإنزياح البلاغيّ ولكن الإبلاغيّ لينتقل من العمل العقليّ إلى العمل التخييليّ كما في عنوان إحدى مقالاته:” بائع الهواء”(ص118). لذا يرى أنّ” تطلّعات اليوم هي، أغلب الأحيان، يوميّات الغدّ، والمقصود بالتطلّعات أحلام المرء الذاتيّة، تلك التي لا تنكسر أو تيأس، ولا تقول إنّ الظروف لم تسمح لي بتحقيق أحلامي”(ص128). يرى المؤلّف أنّ ” القيمة ليست دائما في ذات الشيء وإنّما في عين الناظر” (ص136)، فماذا مثلًا عن مسوّدات الكتّاب والشعراء والفلاسفة؟ أليست ذات قيمة أكثر ربّما من النصّ النهائيّ الرسميّ؟! لذا دعا إلى التفكير بالمقلوب” فالبنطال الجديد في عين من يفكّر بالمقلوب عتيق، فالبائت طازج، والطازج بائت، والقديم حديث، والحديث قديم، والمدوّر مربّع، والمربّع مدوّر” (ص118)، والطريف ورود عناوين : العصف الذهنيّ بالمقلوب (ص139)، وجرّب أن تفكر بالمقلوب(ص140)، فماذا لو وضع المقدمة مكان الخاتمة بالمقلوب ليستقيم الكتاب؟! كعلم الصليب الأحمر الذي هو علم سويسرا ولكن الألوان بالمقلوب ليستقيم العالم.

ينهي بلال كتابه بوصيّة من خبرته الطويلة:” اقرأ مهنتك بشغف وحبّ تتحوّل بين يديك إلى ما يشبه كرة كريستال بين يدي وعيني عرّاف أو تشبه حبّة فول بين عيني زاهد”(ص158). هذه أبجديّة جديدة يدعو  إليها بلال فراسة وعرافة وزهدًا لكشف مفردات روح العالم؛ ألقًا وإبداعًا وحكمة.

***

*الصورة الرئيسيّة: من اليمين: بلال عبد الهادي وجان توما

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *