سليمان بختي بين كتابين

Views: 917

زياد كاج

   أهداني صديقي الناشر سليمان بختي كتاباً قيّماً من إعداده وتقديمه في عنوان “منح الصلح:رأس بيروت العصر الذهبي…الجامعة والحي”، 83 صفحة، 2024. جاء هذا الكتاب بعد فترة صوم طويلة فرضها  عامل الوقت. وهو كان  أهداني منذ سنوات كتابه الأول “إشارات النص والإبداع: حوارات في الفكر والأدب والفن”، 307 صفحة، 1995. وكلاهما صادرين عن “دار نلسن”. كتاب فتح يومها أفاقاً وعوالم لم أسمع بها من قبل.

   ماذا كان يفعل صديقي بين 1995 و 2024؟ ولماذا لم يصدر سوى كتابين له؟

   تعود بي الذاكرة الى الأيام الاولى التي شاهدت فيها البختي يمارس لعبة كرة القدم على ملاعب مدرسة “الطليان” في أواسط السبعينات قرب أوتيل “البريستول” في رأس بيروت. ثم عدت  وألتقيته ناظراً في مدرسة خاصة، ثم في مصرف في الحمرا. وكانت  لنا جلسات ثقافية تأسيسية مطولة وعفوية في مكتب المحاسبة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. تكونت شلة “زاويتنا الثقافية” من المعلم سليمان والشاعر والناقد السينمائي خليل حنون وزوار عابرين من العيار الثقيل، أمثال الكاتب والمصرفي يوسف سلامة، والمفكر هشام شرابي، والشاعر قيصر عفيف، ومحمود شريح وكثر غيرهم. كان سليمان بختي “مغناطيس” و “دينامو” ثقافيّاً شغوفاً بالفكر والإنسان والفن والإبداع..ولا يزال. الوقت كان منافسه الأول.

    الفضل في  تورطي وإنغماسي وشغفي  بعالم الثقافة يعود إلى “الرأس بيروتي العتيق” العالق بين كتابين والمسكون ببيروت وأمكنتها الحميمة وذكرياتها وناسها، وبعوالم وتحولات نهضوية علمانية متنورة لا تستسيغ العنف ولا الإيديولوجيا المتصحرة. صاحب نظرة تذهب الى أفق يعرف هو مداه من دون قطع مع ثمرات الماضي.

 

من يعرف البختي عن قرب يكتشف أنه صاحب روح غنية متواضعة، قادرة على مجالسة الفقير والغني، مادياً أو معنوياً. صاحب نكتة حاضرة—يلتقطها ع الطاير—حكيم، حافظ للتراث ومتحفز دوماً لغد أفضل. يمتلك حكمة الاستماع على طريقة الحكمة اليونانية: “تكلم كي أراك”. في ديوانيته الخاصة، “مكتبة الدار” (مفرق مطعم سندويش ونص الى اليسار عكس السير.وهي خريطة تدل على أن المعدة لها أولوية تسبق غذاء الفكر)، يجلس صديقي خلف مكتبه وسط دفء كتبه مستقبلاً ضيوفه من كل الأعمار والميول ببشاشة بيروتية تذكرني بعالم مسلسل “الدنيا هيك” لمحمد شامل.

       من مسيرته الطويلة في الجامعة الأميركية ونشاطه الثقافي وحضوره الفكري في المجتمع،  كان له ولنا، دكتور في الأدب المقارن ودكتورة في علم النفس الوظيفي من أفضل الجامعات البريطانية. صاحب فضل كبير على شعراء وشاعرات وكتاّب وخامات فكريّة شابة (أنا أحدهم) كانت ستبقى في الظل لو لم يدخلها الى دائرة نور الثقافة والذوق العام  من دون المس بالمستوى العام أو خدش المضمون. حين تُلفظ على مسمعه كلمة “بيروت” و “رأس بيروت”، تلمع في رأسه مئات الأفكار ويمتلئ بالأمل والحنين، وتعبر وجهه مسحة حزن يطمرها بنكتة تنقذه والجو من السواد. وهو القائل: “يكاد اليأس أن يكون غير أخلاقي”.

   في كتابه الأول “إشارات النص والإبداع..” مقابلات طويلة مع: العلامة عبد الله العلايلي، يوسف الخال، كمال الصليبي، هشام شرابي، شوقي أبي شقرا، سهيل أدريس، جين مقدسي، حليم بركات، ليلى شرف، وليد غلمية ، ريمون جبارة، بول غيراغوسيان، بدر الحاج ويوسف سلامة. وقد كان لي حظ رفقة سليمان في مقابلته مع المسرحي جبارة في بيته في قرنة شهوان. كان الرجل في حالة مرض، لكن عقله كان حاضراً، فسمعت لأول مرة مثقف حقيقي صنع نفسه بنفسه ولا يعرف الكذب والمسايرة. وأذكر أنه  عبر عن إمتعاضه الشديد حين تذكر يوم دخلت الكلاب البوليسية مكتبه في “تلفزيون لبنان” في شرق بيروت كإجراء أمني وقائي قبل حضور شخصية عسكرية من الطراز الأول.

 

   أما كتابه الأخير “منح الصلح: رأس بيروت..”، فجاء تحية الى منح (1917-2014) في الذكرى العاشرة لرحيله ،وهو يشتمل على نصين كتبهما منح الصلح في مناسبتين مختلفتين. من أقواله: “أنا مسلم بروتستانتي”، “لبنان ثمرة وحدة جبل لبنان وبيروت”، “لا يجوز أن تنتصر الايديلوجية على الحياة”، و “لبنان وطن صعب لكنه غير مستحيل”.

   مرة دعاني صديقي سليمان الى لقاء صباحي في دارة المؤرخ كمال الصليبي. كان الحضور من شلة يوم الأحد  وهم خيرة مثقفي البلد. أعجبني شكل وهدؤ المؤرخ الذي قرأت له “تاريخ لبنان الحديث”. رطب الأجواء الظريف محمود شريح بحضوره.   وفي لقاء ثانٍ مع الدكتور كمال في مكتب “دار نلسن” في شارع الحمرا، تجرأت وسألته: “لماذا لا تكتب في التاريخ الإسلامي؟”

نظر نحوي وقال مبتسماً: “شرط أن تعملي تأمين ع حياتي”.

   هذا بعض من سليمان بختي و “دار نلسن”..شارع الحمرا، مفرق مطعم “سندويش ونص” الى اليسار عكس السير..والباقي تفاصيل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *