نيفريت الدالاتي غريغوار… “وجعك” نَقْشٌ في البالِ

Views: 102

د. جان توما

كما تَطْلَعُ داليةُ العنبِ مزهوّةً بعناقيدِهَا في عزِّ آب، تُطْفِىءُ زمنَ العطشِ إلى الكلمةِ الحلوةِ، كذلكَ تأتي “نيفريتُ” كعِطْرِ الليلِ تُعيدُ خربطةَ الحواسِ، ترفَعُ النجومَ على كتفيك، ترسمُ كطفلةٍ القمرَ على جبينِكَ كي تسلكَ في الأمسيّاتِ الحلوةِ قادومياتِ العمرِ، نورًا على نورٍ. هناك تغسلُ وجهَكَ بأمواهِ الينابيعِ الجاريةِ فيكَ، تلملمُ كبوشَ التوتِ من حفافي السهولِ، ترفَعُ براعمَ الياسمينِ عن أسوارِ البيوتِ القديمةِ، فلا البيوتُ تَمْنَعُ يدَكَ، ولا السورُ يسألُكَ عن هويّتِكَ، هكذا أبجديّةً “نيفريت” مَشَاعٌ للراغبينَ في تهجئةَ القولِ الجميلِ والعبارةِ الأكاديميّةِ والتحليلِ النفسيِّ ببراءةِ العابرينَ ليشربوا من جَرَّة ِماءٍ، أو إبريقٍ منسيٍّ عَنْ قَصْدٍ أمامَ عَتَبَاتِ البيوتِ في مِشْيَتِكِ على دروبِ العمرِ.

“نيفريت” الطالعةُ من أزقةِ طرابلسَ التاريخيّةِ إلى باريسَ في عِزِّهَا، لم تنسَ أنْ تَضَعَ في قلبِهَا مِنْدِيلَ سفرٍ طرابلسيٍّ، زَيَّنَتْهُ بألوانِ لوحاتِ أبيها، وَصَخَبِ أمواجِ مينائِهَا، ونسائمِ الفيحاءِ يومَ فاَحتْ. “نيفريت” لملَمَتْ ذكرياتِها هنا، وأَوْدَعَتْهَا الشرايينَ لكي يتوافَقَ نَبْضُهَا مع الزمنِ الباريسيِّ لتخفّفَ من وجعِ الغربةِ. لا أعرفُ إذا لوَّحَتْ “نيفريت” بهذا الِمنديلِ لسفينةِ ما مَضَى مودِّعَةً، فإذا قرأتَ ما كَتَبَتْ تعرفُ أنّ تلويحَها بالمِنديلِ المطرَّزِ بالذكرياتِ ما بَكَى، بل سَقَى ما كانته، وأنَّ السفنَ ما رَحَلَتْ، بل على الرصيفِ الآمنِ بَقِيَتْ تنتظرُ من يُفْرِغُ حمولَتَهَا، ولما حانَ مِلُء زمانِ كتابَتِها، أَفْرَغَتِ الحمولةَ على الورقِ حبرًا من حبرٍ، ضياءً على ضياءِ.

 

إنَّ حبَّ “نيفريت” لطرابلسَ أَشْعَلَتْهُ محابرُ طرابلسيَّة ٌراحَتْ إلى تلكَ المدينةِ الحضاريّةِ، في شهادةٍ لمؤسستينٍ رائدتينٍ أعادَتَا للبلدِ ما فَقَدَتْهُ، وهما مؤسسةُ شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة، ومنتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ، إلى جانبِ أقلامٍ أزَاحَتْ الغبارَ عما لَحِقَ المدينةَ من ظُلْمٍ إعلاميٍّ طغَى وبغَى وتكبَّرَ وتجبَّرَ. تعرفُ “نيفريت” أنَّ ما أصابَ المدينةَ كانَ جُرحًا وَرَقْصًا على صفيحٍ ساخنٍ، وإيقاعًا على حدِّ السكينِ، وهي ما عَرَفَتْ طرابلسَ إلّا في تألُفٍ وتعاضُدٍ وتكافُلٍ وَوَحْدَةِ َحال، ولا تريدُ أنْ تَعْرِفَهَا أو تَلِجَهَا إلّا مِنْ هذه المودِّةِ، ومن بواباتِ القِيَمِ التي عاشَتْهَا هنا، وكانَتْ لها مسرى حياةٍ في غُرْبَتِها. 

كلُّ كتابةٍ لـ “نيفريت” نَقْشُ في البالِ الذي لا يرحلُ بعيدًا، يرافِقُكَ كَظِلِّكَ، تراهُ حينًا ويطلعُ إليك أحيانًا، وكما يقولُ محمود درويش” في البالِ أغنيةُ يا أختِ عن بلدي، نامي لأكتبها”. تذكّركَ كتاباتُ “نيفريت” العائدةً من سَفَرِ السنينَ، بالراجعِ من غيبةٍ أو انتظارٍ في محطةِ القطارِ، يأتي أو لا يأتي ، تغني له ” تعا ولا تجي” لكنّها، على إيمانٍ لم تُفْرِغْ حقيبةَ سَفَرِهَا، كانَتْ لوحدِهَا تنتظرُ مجيئَه ، عارفةً أنَّ القطارَ سيأتي، ولو طالَتِ الأيامُ، وها هي بيننا على الرُّغمِ من أنّها تَمْتَمَتْ في سِرِّهَا مع الرحابنة:” كنا تودّعنا وصوتك غاب/ وناداني العمر الخالي/ ولما عا حالي سكرت الباب/ لاقيتك بيني وبين حالي”.

 

“نيفريت” أنتِ تطلعينَ الآنَ من البالِ إلى الحالِ، هنا باريسُ عُمْرِكِ الذي أحببتِ، هنا تعودُ طفولتُكِ تكرجُ في الشوارع المقدّسة، فَمَنْ كان هنا ما زال يعرفُ أنَّ طرابلسَ، ولو قَسَتْ عليها الأيامُ، باقيةٌ ببهائِها في الذاكرةِ والآتي، لعلّها إذا سكنت القلبَ عاد النَبْضُ إلى معارجِها الضيّقةِ، فقد صارَتْ بكِ، وبالمحبينَ لها، على مدى العالمِ، وصارت أحياؤُها، بأحيائِها العاشقينَ، خارطةَ العالمِ، ومدينةَ المدن، وقصيدةَ القصائد، والحبَّ الذي كان وما يزال.

أنتِ في كتاباتِك لم تحلّلي، ولم تدرسي، ولم تستنتجي، بل كنتِ للكتّاب إلهامًا ودفعًا ليكتبوا عن طرابلسَ أكثر. لقد فَعَلْتِ من غربتِكِ ما عَجِزَ عنه كثيرونَ في الوطنَ، كُنْتِ كبساطِ ريحٍ وافَى الكتَّابَ هنا، وأنا منهم، لرَسْمِ ما فاتَنا من جمالاتِ طرابلسَ والميناءِ، وأعدْتِهِ إلى الحاضرِ من ذاكرةٍ أطلقْتِها من قارورةِ الخاطرِ، فكنْتِ أبجديّةً متجدّدةً لأقلامٍ أرادّتْ أنْ تقولَ كلمةً فقالَتْهَا ولم تقُلْهَا بعدُ، لكنّ نقدّكِ ويراعَكِ أضافا الكثير إلى ما جرى من حبرٍ على متونِ الورقِ.  “نيفريت”، شكرا لك باسم كثيرين، وإنْ كنتِ ما سعيتِ إلى مجدٍ، ولا إلى معرفةٍ، بل كانَ وَجَعُكِ أنَّ طرابلسَ إنْ لم نَصُرْهَا في الكلمةِ والموقفِ، فخسارتُنا مدوّيةٌ وموجعةٌ. والسلام.

***

*أُلقيت في حفل توقيع كتاب “عندما يستيقظ الوجع” لنيفريت الدالاتي غريغوار في جناح مندى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ- السبت 27 نيسان 2024 ضمن معرض الكتاب السنوي الخمسين في الرابطة الثقافية-طرابلس. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *