رواية “قناع بلون السماء” الحائزة جائزة البوكر العربية… مشهديّة نابضة بالمشاعر لفلسطين الحبيبة

Views: 87

الأستاذ الدكتور يوسف عيد

“قناع بلون السماء” رواية نالت جائزة البوكر العربية بدورتها 17 ( دار الآداب – بيروت – 2023) المؤلف: باسم خندقجي الفلسطيني الشاعر، السجين، منذ 2004 في الزنازين الإسرائيليّة.

الإشارات السرديّة والشخصيّات:

أتستحقّ الرواية الريادة؟ نعم تستحق. ولكن، علامَ تستحق؟

هي رواية تفيض بالمشاعر الصادقة، تؤرّخ بكلّ مشهديّاتها الإنسانيّة والزمنيّة والمكانيّة لفلسطين الحبيبة. عثر على ورقة جيب معطف قديم، صاحبه اسرائيلي، فارتدى باسم قناع نور وبدأت رحلته ومغامرته السرديّة. راح نور /أور عالِم الآثار يبحث في الأرض والسماء، عن جذوره بين المجدلية واسماعيل. شحن الرواية بمعلومات حاولت اثبات علميته في الآثار، بلغة سلسة، بسيطة، مليئة بالاستعارات والاسترجاعات، والثنائيّات المتعاكسة حيناً المتشكّكة حيناً آخر ( هل سأكتب حقاً هذه الشخصيّة، ص، 61).

نشعر، ونحن نقرأ الرواية، أننا خارج القياس السردي المألوف المفروض كعلم سردي في كل رواية، إنما نحن نقرأ بعين أيركولوجيّة، تجذبنا المخيّلة التي تجعل المشهدية حيّة نابضة مصوّرة بقدرة إبداعيّة خلّاقة. وتأكيدا لذلك جعل “نورا”/أوراً، يتكرّرفي الولادة  لأكثر من مرّة: ولد من أمه، ثمّ من سجنه، ثم من جدّته بالحكايا، ومن زواجه، ثمّ ولد من صمته وصمت والده، وولد من حبره، ولعلّ الكتابة كانت أشهى الولادات لديه، لأنّها تسطّر تاريع بطولة فلسطين وآثارها، وعزيمة أهلها، ثمّ ولد من الألم في حضن الأمل، ولد من أور وأعاد ولادة أور من نور.

هذه الولادات لم تمنع عنه أن يصاب بالخذلان: خذل من أبيه مهدي، ومن رفاقه السجناء ومن أقرب الناس إليه، ولكنه لم يحبط بل راح يعوّض عن ذلك بالاسهاب في التنقل بين المشهديّات والقضايا، من مسألة التصوّف الى التطبيع الى المَثليّة الجنسيّة واتفاقيّة أوسلو، وغيرها قضايا كثيرة تزاحمت عليه بعضها لامس المشهديّة، وبعضها جاء إسقاطاً على الرواية.

نعم، أصيب بخيبة ضمن مشهديّة حقيقيّة، وهي جزء من رباعيّة المرايا. لقد غامر في تجريب صيغ سرديّة جديدة بثلاثيّة الوعي: الذات والآخر والعالم. وهو بين الواقع المعقّد (فلسطين) والواقع المرتجى المأمول ( فلسطين المحرّرة ). كانت دعوته الى التحرّر والصمود تحث النبض الإنساني على البقاء حيّاً.

واجه الانقسام التاريخي بسرد حياة الناس. وفي هذا الخضمّ من المشاهد المتلاحقة أصيب، برأيي، باضطراب سردي حين تطرّق الى مسألة العلاقة بين المسيح والمجدليّة والتي حاول تقفّي أثرها لتحريرها من قبضة (“دون براون” في روايته شيفرة دافنشي ). ولعلّه عن غير قصد قدّم لبني يهود إشارة واهية وهميّة يسعون إليها منذ الصلب، عن علاقة المسيح بالمجدليّة، (ص، 94). هل يعقل يا أخي بسام / نور /أور أن تورّط نفسك وقلمك المضيء بهذه الترّهة؟ المسيح روح الله( بحسب القرآن الكريم )، والمسيح ابن الله بحسب ( المسيحيّة )، فهل يعقل أن روح الله عزّ وجلّ تفتش عن علاقة بامرأة ؟ مع أنك حاولت في (ص 109) أن تنجو باشارتك الى العلاقة الروحيّة بينهما، ولكن هذا لم يكن كافياً. هل المسيح الذي صلب ومات وقبر وقام من بين الأموات على علاقة بتلك القدّيسة  التي غفر لها خطاياها بعد توبة مريرة وقد سكبت على رجليه أغلى العطور ومسحتهما بسكيب دموعها وشعرها؟ كان عليك أيها الأديب أن تجانب الأمر. هل في بحثك عن المجدليّة توصّلت الى حقيقة ؟ هل هي فلسطينيّة أو هي يهوديّة ؟ لم تقل لنا. كان حلم اليهود ولا يزال تشويه هذه الحادثة وجعلها وصمة، لأنّهم يعتقدون أن اجتماعهم في مكان واحد يأتي ب”بمسيحهم ” المخلّص لهم ليقيمهم على الشعوب. فهل في مقاربتك لصورة المجدليّة تبرر لهم هذه النظرية ؟

لا أشكّك مطلقاً في أدبيّة الرواية وسرديّتها ولغتها، ولكن هذا الأيركولوجي باسم /نور/أور الذي كتب نصاً متشابكا ً جذّاباً قد نجح، كما قيل عنه، في تبرير نيله الجائزة، لأنه أعلن بأن الحبّ والصداقة هما هوّية الإنسان فوق كل انتماء. غير أنه لم يوفّق في توضيح الصورة حول أهله أوبنيه، أهم قوم اسماعيل أم اسحق؟. وتبقى الأسئلة برسم التوضيح والإشارات فقط، وليس للتقليل من أهمية السرديّة وموقعيّة الرواية.

باسم / نور / أور يمثّل الشباب الطامح الى العيش بكرامة من دون خوف على المصير. الرواية سفر يشهد على الانعتاق والتحرّر والعزيمة وهذا لا يتحقق من دون الشجاعة. وهذه قناعتنا بأن فلسطين هي للفلسطينيين وليست مجمّعاً يهوديّاً. هذا ما يدور في طوايا النص حين ركّز على طبيعة النفس البشرية فأكثر من الأسئلة، أين أنا ؟ والى أين ؟ ومن أنا؟. وبين القناعة والقناع روابط ووشائج: فالقناع هو إشارة الى الهوية الزرقاء التي عثر عليها باسم المقيم في مخيّم رام الله في جيب معطف صاحبه اسرائيلي، فارتدى نور هذا القناع ليتجوّل فيه بحريّة القلم، إشارة أولى بالوفاء لصاحب الورقة بلون زرقة السماء علم اسرائيل. لماذا؟ هل المقصود أيضا الغطاء الاسرائيلي له ؟ هذه الشيفرة، برأيي، لها دلالتها عكس الصورة الأولى فباسم لم يختر اللون الأزرق لعلم اسرائيل، إنما اختار الأزرق ليمدّ القارئ بإحساس البهجة والهدوء والاندفاع والألق والسمو الفكري والتخطيط المتروّي للمستقبل المأمول. فالمقام ليست بالضجيج وحده، بل بالرويّة والذكاء وحسن التخلّص. وما اللون الأزرق الذي قصده إلا تلك الأوصاف والعبر والغايات. ولعلّه يعاكس ابن خلدون بهذا القناع إذ يدعو المغلوب أن يلبس قناع الغالب.

قناع بلون السماء شفّاف صاف أزرق. غير أن السماء قد تكون ملبّدة ولونها قاتم أحياناً كثيرة، كما هي الحال في فلسطين الحبيبة، بل يميل الى السواد، وفي ذلك غضب وإعصار وثورة ومقاومة واستشهاد. وليس عجباً أن يختار باسم قناعاً بثلاثة أوجه: وجه الوفاء لصاحب الورقة، وجه المسالمة والذكاء والهدوء باللون الأزرق،  ووجه التمرّد والحق والعدالة والاستشهاد والصلابة والغضب والألم. روايته كلّها قائمة على الازدواجيّات المتآلفة حيناً المتنافرة حيناً آخر. يقول في ( ص، 56): أشعر بالخوف والملاحقة. ينتظر معجزة لتحقيق أحلامه. ولا شيء سوى المعجزة تجعله بطل أحلامه. سرديّته جافت التكلّف واغتسلت بلغة مطواعة خالتطها المحكيّة فأنعشت سيرورتها، وفي ذلك براعة السارد.

هل استحقّ عن جدارة الجائزة ؟ نعم ولمَ لا ؟ وهو الذي لم يتوقف عن الولادات، وهذه الجائزة من الولادات المتكرّرة في حياته وكتاباته الإبداعيّة.

                                       

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *