بينَ الأنا الواعي والأنا الموجوع
الدكتور جورج شبلي
في الكُوَّةِ الباردةِ الأنفاسِ والتي، تُرى من خلالِها، الحقائقُ المتناقِضةُ في العقلِ الواحد، بالرَّغمِ من افتراضِ أَنْ لا وجودَ لهذا التَّناقض، يُثبِت لنا القياسُ عَجزَ انسلاخنا عن الحقيقة، ولَو شُوِّهَت أو حُرِّفَت، لأنّه يستحيلُ الكلامُ على لا شيء:
تحتَ ضُغوطِ الوجع، وخُضوع الإنسان لتعذيبِ الآلام، ربّما يميلُ الى بعضٍ من التَهَوّرِ في مقاربةِ مفهومِ الوجود، انطلاقاً من انفعالاتٍ ذاتيةٍ تنعدمُ، معها، الرّوحُ الموضوعيّةُ الصّرف. ويصبحُ همُّه إقناعَ ما تبقّى له من وَعي، بحجّةٍ مُرَجَّحَة، يعرفُ تماماً أنّها وَهمٌ يعملُ في فراغ، بالرَّغمِ من مكابدته في تزيينِها لتقديمِها بحالةٍ تُسَهِّلُ تَقَبّلَها.
إنّ “الأنا” الموجوعَ، في ذات الإنسان،يجعلُ “الأنا” الواعي يتعثّرُ في إِحكامِ رجاحةِ الفكر، بحيث لايستطيع الواحدُ الوقوفَ حتى على مسافةٍ واحدةٍ منهما، من دونِ إرهاقٍ لأَيٍّ منهما. إنّ العلاقةَ بينهما هي كالعلاقةِ بين الحقيقةِ والمَجاز، أو كالعلاقةِ بين الشّمسِ وقوسِ قُزَح الذي، وإِنْ عكسَ نورَ الشّمسِ ووزَّعَه ألواناً متعدِّدة، غيرَ أنّ الهدفَ الذي يسعى إليه هو فَرضُ سَلخِ الشّمسِ عن المشهد، وكأنها العتمةُ، أو تَجميدُها وكأنّها لم تكن، ليحظى، وحدَه، بالمتعةِ، وفي ذلك قساوةٌ وتَحاملٌ يجعلانِ حَبلَ المقارنةِ رَثّاً.
إنّ “الأنا” الموجوعَ الذي زلَّت به القَدَم، يعقدُ قِرانَه على الشكِّ والرَّفض، ليرى الحياةَ، منذُ كانت، رُكاماً من المُبتذلاتِ المُستَثقَلَة، وكأنّها من ضِلعِ شيطان، مُفعَمَةً بالتّنكيلِ، منحرفةً تضعُ ترسيمةً تُفضي الى مُنحَدَرٍ وَعرٍ يحوِّلُ نارَ الفرحِ رماداً، وشكلَ الأملِ مسخاً، ووعيَ الذِّهنِ تشويشاً… وفي ذلك عنصريّةٌ قبيحةٌ لجهنَّم، وكأنّ الجنَّةَ ليسَت مسقطَ رأسِ الوجود، وليسَت نَسَبَ النّاس.
إنّ “الأنا” الموجوعَ لا يمكنُ أن يكونَ حظُّهُ كحظِّ المَمالِك، يمكنُ للأيامِ أن تُواريَ سلاطينَها ليضمحلَّ نفوذُهم، فهو توّاقٌ الى الإنتفاضةِ، ولكن، لا لِتَفيدَ منها مسيرةُ التَّعافي. وبين الوعي واللّاوعي، وبالرّغم من بعضِ مقاومة الذّاتِ للتشبّثِ بالإيمان، وهو، فيها، طَبعٌ أصيل، إلّا أنَّ نهضةَ الألمِ تفرضُ شيئاً من انحطاطِ عصرِ الإيمان، ما يُفضي بالأنا الموجوعِ الى أن يودِّعَ النُسّاكَ، ويُرغِمَ المتصوّفينَ على الإختفاء، ويُعلِنَ أنّه صار من الخَوارج، علَّهُيَجدُ، عندَهم، قادراً حكيماً ينقذُه من فَتكِ الوجعِ الضّاري، ولو بإعلانِ ردَّتِهِ الى الكِفر.
إنّ “الأنا” الموجوعَ الذي استأثرَ بالشّهرة، نجحَ في تَوحيدِ صاحبِهِ مع الألم ِ ذي الشِّفارٍ التي تُمزِّقُ الكبد، وتواطأَ مع الوقتِ لتَطويعه، ونجح. نعم، نجحَ في تركيبِهِ حالةً تتنقّلُ في الشّرايينِ والعَصَب، حتى يحسَّ الموجوعُ بأنّ اللهَ غيرُ موجود. ويتذكّر، من دون أن يعرفَ كيفَ يتذكّر، ربّما بتوجيهٍ مُغرِضٍ من الألم، بأنّ الوجوديّين يقولون: ” إذا كان اللهُ غيرَ موجودٍ، فكلُّ شيءٍ مباحٌ لي”. ولِمَ لا يكونُ الكِفرُ مُباحاً ليستردَّ هذا الموجوعُ وَمضَ حياةٍ يتوقُ إليه ؟ فمنَ المؤكَّدِ أن مصابيحَ الحياةِ لا تُضاءُ، دائماً، بزَيتِ الإيمان؟؟!!!
إنّ “الأنا” الموجوعَ الذي اطمأنَّ الى وَزنِهِ، وتأثيرِه، فاجأَتْهُ مندوبةُ النّور، فأحسَّ في كيانه اهتزازاً، وكأنّه أُدخِلَ في عمليّةِ خَلقٍ وتكوين، أو إعادةِ أعجوبةِ تجسيدٍ كانَت باقيةً، في ذاتِهِ، في شكلٍ يَعصى على العدم. وهكذا، ربّما بفِعلِ أُعجوبة، تنتقلُ الذّاتُ الى مشاهدةِ اندحارِ “الأنا” الموجوعِ، بعدَ سيطرة، ويتأكّدُ لها أنّ البَرقَ، بعدَ الإدهاشِ، أَشلاء.
وبعد، في فُجاءة، يُخطَفُ، منّا، النَّظر، ويُسدَلُ فوقَ وعيِنا حِجاب، ونُخضَعُ لزَفراتٍ مُكَرَّرِة، ويحتلُّ الألمُ، فينا، مكاناً مرموقاً، ونتنفَّسُ شَوكاً، ونُغصَبُ على إعادةِ مَشهَدَةِ الحياة، زوراً، ونرحلُ في غربةٍ ليس لها تفسير… لكن، لا بدَّ للصّفاءِ من انبلاج، ولو مُرهَقاً، ليركِّبَ إعلاماتٍ تُحقِّقُ وظيفةَ التّوجيهِ للعودةِ الى الأصول، الى واجبِ الوجود، الى الله. ويعودُ خَيطُ النَّبضِ الى فَرَحِه، وينضبُ رِزقُ الشَكّ، وتتنصَّبُ الحياةُ حقيقةً تَعِدُ، وإذا وعدَت وَفَت، وإنّ وعدها عظيم.