قراءةٌ في روايات قصيرة جدًّا لـ حميد الحريزي
إبراهيم رسول
العلومُ الإنسانيّةُ أو الفنون في حالةٍ سائلةٍ على الدوام، ولمّا كان الأدب من لُبِّ هذه العلوم والفنون فالأدبُ لا توجد فيه حالة صلبة بالمطلقِ، فهو يؤثر تأثيره في الإنسانية وتكمن رسالته في الأثر الذي يتركه وبأيِّ شكلٍ من الأشكالِ، لهذا تجد التطوّر شمل الأدب كلّه. ميزةُ الحياة الجديدة أنّها لا تركن إلى السكون ولا تميل إلى الدِعة، بلْ هي في حركةٍ دؤوبة لا تعرّف الاستقرار مطلقًا، وشأنُ التجديد والتطوير يكون عند المبدع المُبتكر الذي يُجدد، فالإبداعُ هو الأساس الذي يرتكزُ أو يقوم عليه التنظير النقديّ، لأنَّ النقدَ إذا لمْ يجد المادة التطبيقية التي يُطبق رؤاه عليها سيبقى مادة لا حياة فيها ولا فائدة، لهذا نجد أنَّ الإبداعَ هو لُبَّ العمل النقديّ الذي يتأسس وفقها، ومن هنا نرى أنَّ المحاولات مستمرّة في التجديد والابتكار على كافةِ الأجناس، ومنها الرّواية التي نحنُ بصددِ قراءتها لتجربة الروائي العراقي حميد الحريزي وتجربته الجديدة في الرّوايةِ القصيرة جدًّا.
فكرةُ ابتكار أو اجتراح مصطلح جديد تعنّي مغامرة، بلْ مغامرة تحتاج إلى مقوّمات تؤيدها وإلا تبقى مغامرة فاشلة، الذين تلقوا الأدب ومازالوا يتلقونه لا يرغبونَ أنْ تنكسر الطريقة التقليدية المتعارفة، وهذه الأجناس كأنّها أشياء قارّة ضاربة في الذاكرة العقلية والأدبية عند الناس، أباحوا الإبداع والتجديد والابتكار في الشعر أكثر من السردِ كونهم ينظرون إلى الشعرِ على أنّه ربُّ المعاني المُبتكرة والشعرُ هو كلام الكلام ويجب الا يكون مؤلفًا معروفًا، بلْ يجب أنْ تكون فيه المعاني مُجددة أو مُبتكرة وإلا فهو ضربٌ من التكرار الذي يكون مُملًا في أحيان كثيرة، بقيَ السرد لا يُجدد أو لا يريدونَ له أنْ يبدو مُجددًا لأنَّه اشتغالٌ عقليٌ فكريٌ، وطريقة تقديم المادة العقلية غير طريقة المادة التخيّلية الفنّية، هذه المحاولة التي اجترحها الأديب حميد الحريزي إبداعيًا هي محاولة تجديدية بلا شك، لكنها تحتاج إلى تجارب تؤيدها وتقوّمها وتُعطيها صفة المقبوليّة والانتشار.
“الاقتصاد” مكمن الإبداع
أكثر ميزتين أو صفتين في الرّواية القصيرةِ جدًّا هي الاقتصاد والتكثيف وهما مكمن الإبداع وميدان المنافسة بين المبدعين. الاقتصادُ في كلِّ شيءٍ هو صفةُ الحياة الرّاهنة فهي تميلُ إلى الاختصار لتواكب حالة التطوّر السريع والمُذهل، فأنت لا تستطيع أنْ تلحق بهذه الحياة ما لمْ تكن على طريقها سكتها وإلا فقطارها يمرّ سريعًا دونَ أنْ يقف عند حد معين، منها بادرَ الأديب الحريزي إلى النظّر في الرّواية التي أبدعها في ثلاثية طويلة، أيْ أنَّه قدْ مارس إبداع الرّواية الطويلة وأجاد لُعبتها وتقديمها بالصورة الفنّية التي قدمّها في رواية ثلاثية (محطات) الصادرة عن دار الفؤاد المصرية بطبعتها الأولى في سنة 2017، هذه المحاولةُ الجادة مكّنته في أنْ يتناولَ الرّواية القصيرة بعد تجربة إبداعية للرّواية الطويلة!
الاقتصادُ لا يعني قتل المهم والأهم، بلْ على العكس تمامًا إذ يبدو تقديم المهم والأهم والاقتصار عليهما فقط دون غيرهما، فالرّواية الطويلة لن تخلو من حشو زائد وإضافات واستطرادات لا داعيَ لها، لأنَّ الرّوايةَ أشبه بالمعمار الهندسيّ الذي يحتاج إلى مهندسٍ بارعٍ يعرف كلّ شاردة أو واردة تخصّ بنايته المعمارية، ولكن هذه البناية لن تخلو من زوائد تضرّ بهيكلها العام، فجاءتْ محاولة الرّواية القصيرة جدًّا لِتُقلّم هذه الإضافات اللاداعي لها وغير الضروري ذكرها وحشوها في الهيكل البنائيّ العام للرّوايةِ، فهي معنيةٌ بتقديم المادة الجمالية بشكلٍ مختصرٍ مع مراعة الحفاظ على تقديمها كاملة غير منقوصة وإلا أصاب البناء الهندسي الخلل والاضطراب، فالعمليةُ صعبةٌ معقدةٌ تحتاجُ إلى صانعٍ ماهرٍ يُجيد اللعبة بإتقان، وإلا فهي مهمة لا يستطيع على إبداعها كل من تمكن من كتابة الرّواية بشكلٍ عام، لأنَّ الروائيَّ معنيٌ بأنْ يكون على حذرٍ ودرايةٍ ودِربة بألا يترك مادة من مواد البناء الفنّي لعملهِ الجماليّ، هذا البناء يستدعي أنْ يضع نصب عينيه ومخيلته بأنَّه يُقدم مادته مختصرة وليست منقوصة.
التكثيف صفةٌ مهمة و بلْ هي مكمن الصعوبة ومجال الإبداع ونقطة التنافس الإبداعي، إذ كيف لك أنْ تُكثفَ مادتك وتجعل عمارتك تحتوي على كامل العناصر اللازمة لبنائها بناء فنّيًا؟!
سؤال مركزي
جاءتْ روايات حميد الحريزي الخمس التي وضعَ لها العنوان العام الشامل على غلاف المجموعة الكاملة ووضع العنوان الخاصّ بكلِّ رواية، وليكن السؤال الأوّل الذي يبدو لنا بوضوح كسؤال مركزي، وهو هل توفرت كافة العناصر الضرورية الأساسية لبناء الرواية بشكلها المعماري الذي عُرِفت به؟ والجوابُ يتحتم علينا أنْ نقرأَ ونفككَ ما قرأنا وننظر في كلِّ رواية، هل حافظت على ظهور كافة العناصر لبناءِ رواية مكتملة من حيث المواد الخام التي تخص الهيكل الخارجي والعناصر الجمالية التي تُجمل هذا الهيكل وتعطي للرواية الشكل الفنّي الجميل؟
هذه البادرةُ الجريئةُ تحتاج إلى ما يعطيها صفتها الشرعية لتستمرّ ديمومتها والديمومة تتم عبر الممارسة والإبداع وإلا فإن محاولة الأفراد القلائل ستبقى تعاني محاولة الإثبات والاستمرار، فالروائي الحريزي قدْ نظّرَ وطبّق، لكن تنظيره يحتاج إلى عينات كثيرة تعطي للمشروع التجديدي صفة الانتشار والثبات والتجريب والممارسة.
ميزة اسلوبيّة
بعد قراءة الرّوايات الخمس لحميد الحريزي نجد أنَّه استطاع أنْ يبني هيكل عمارته الروائية بتقنياتٍ مختصرةٍ لكنها مكثفة، فالمميزاتُ الخاصّة بأسلوبه تبدو مكتملة من حيث الخطاب العام الذي يبثّه إلى المتلقي، لكن سأعنى بثيمة أو ميزة وردت أو أعدّها مهيمنة من المهيمنات المهمة التي تعتبر علامة مميزة في أدبهِ وهي ثيمة النقد.
والروائيّ في نقدهِ يقدّمُ تساؤلات علة حالة الصلابة والخنوع التي ينقدها بنقدهِ الضمنيّ، فلو تأمّلتَ في ثلاثيتهِ ورواياتهِ القصيرة جدًّا ستجد أنَّه يكثرُ من توظيف الفواعل في أحداث رواياتهِ، هذا التوظيف الذي يجعل من الفواعل تحرّك أحداث العمل الروائيّ له مغزى فكريّ نقديّ يوظفه الأديب التوظيف الذي يحملُ معه صورة النقد المُراد إيصاله، إذ يستطيع أنْ يقدمَ مادته الروائية كاملة بهذا الأسلوب الناقد، فأنت تستطيع أنْ تقرأه كناقدٍ مثلما هو روائيّ! هذه الميزة الأسلوبية في أدب الحريزي، يقول في روايته مذكرات كلب على لسانه: .. أنا الذي كنت أحلم بعظم مكدود وبعظام سمك ترمى لي من قبل أسيادي الفلاحين الفقراء في القرية، كنت أغتسل في ماء النهر الخابط ولا أعرف معنى الصابون نهايك عن الشامبو(روايات قصيرة جدًا: 84)، هذا النّص كلّه صورة من صور النقد الضمني الذي كثيرًا ما يُبدعه الروائيّ في رواياتهِ.
إنَّ محاولةَ الحريزي تنجح في كثرةِ الممارسات الناجحة وأن تخضع هذه الممارسات التجريبية إلى نقدٍ تأصيليٍ يشتغل عليها ويقرأها بعناية وتأمّل طويلين، وإلا فالمحاولةُ هي تجربة وهذه التجربة تبدو أنّها ما زالت في طريق إثبات شرعية وجودها ناهيك عن أثرها وفاعليتها في باقي الأجناس الأدبية، هي محاولة إبداعية وخلّاقة للحريزي أنْ يقفز هذه القفزة الابتكارية ويسعى إلى مواكبة التجديد ويترك بصمة فاعلة في الميدان الإبداعي. إنَّ خيرَ ما فعله أنَّه تناول الفكرة إبداعيًا وليسَ تنظيرًا ! وهذه ميزةٌ تُحسب له وتُضاف إلى مخيلته أنَّه قدّم للنُقاد مادة يُطبقونَ عليها تنظيراتهم بعد أنْ يتناولوا فكرة المصطلح ويقعدوا له قواعد تنظيرية تتفق مع التطلعات التي تروم لها هذه المحاولات الجادّة في تقديم أدب جديد يواكب تطوّر الحياة السريع ويحقق الغايات الجمالية كاملة دون أنْ يترك الفراغ الذي سيبقى فراغًا يشوّه الشكل الجماليّ للنّصِ الأدبي.
تحياتي وشكري وتقديري للروائي والناقد الجميل الزميل ابراهيم رسول لهذه الدراسة الرائعة للرواية القصيرةجدا ، انها قبلة حب وقبول على جبين هذا الوليد الجديد الذي مازال يحبو في فضاء الادب العربي والعالمي ، كلنا ثقة سبشتد عوده وتعلو قامته في فضاء الابداع كنوع جديد من جنس الرواية العراقية والعربية والعالمية ….
كل الشكر والتقدير لموقع Aleph Lam للنشر بهذا الاخراج الرائع الانيق …