سجلوا عندكم

دراسة في البنى المعرفية لرواية “العرّافة ذات المنقار الأسود” للدكتور محمد إقبال حرب

Views: 199

سليمان جمعة

قد يكون من الصعوبة بمكان أن يندمج القارئ بفضاء رواية رمزية … لكنه قد يبقى خارجًا ومراقبًا أو لنقل “الذي يرى” يؤول الأحداث أو يحاول ذلك. حينئذٍ يكون الاسقاط حاضرًا بقوة فيقلق احتمالية الرواية.

فـ “العرّافة ذات المنقار الأسود” قد نالت عنوانها هذا في المقطع الأخير من الرواية. فهناك عرّافتان، الأولى “ذات المنقار القاني” وقد شغل معظم الرّواية كبنية معرفية تسبح في فلك بنية أخرى. والأخرى “ذات المنقار الأسود” التي سيدعونا الخيال لنذهب فنتصور ماذا ستفعل بتلك الشعوب التي ستدوّم فوق ربوعها أو تنقضّ عليها.

هل عرّافة “محمد إقبال حرب” عي العرّافة المعروفة قديمًا التي كانت تفصل أو تُفتي في المعضلات طبقًا لمنظومة ثقافية عرفية، أو حديثًا فتكون لسانًا محرّفًا للمخابرات تبث الاشاعات أو تمهّد لأحداث ما. أم إنها تخصّ روايته كرمز قد أعطاه مفهومه الخاص متساويًا مع رؤيته وموقفه من الأحداث الجارية؟ ونرى أيضًا أنّه حيث أنتهت الرواية قد أعلنت ابتدائهامن جديد. ولكن تحت ظروف وبنى معرفية مختلفة. انتهى القاني القاتل الناشر للوهم المتآمر ليبدأ الأسود الواعد بالمجهول القاتم تحت شعار الإنقاذ من مشاكل هو واضعها في الشرّ أو العلن.
= لنسأل عندئذٍ ما الرؤية التي أراد أن يبثّها الروائي بعد أن أخبرنا ماذا فعلت الأولى في حياة الرواية المفترض ليتركنا فريسة رحلة جديدة قد نلعن بها أنفسنا ونواري وجوهنا خجلًا من عجزنا وضعفنا أو في حيرةٍ ممّا يريد القدر منّا؟

لأنه إذا ما فسّرنا الرّمز الدَّجاجي فأعطينا أسماء بشرية للشخوص لتداعى إلى من يقرؤها إنها تعني بجغرافيتها لبنان أو سوريا أو العراق أو بالخصوص فلسطين.

إذًا في هذا الفضاء المضطرب في العبث والوفضى والتشظّي والهوان والعجز والتشتت ينبري الكاتب; الروائي والشاعر … وهو شخصية ثقافية منتمية لهذه البيئة الحاضرة والسالفة في وقت واحد… تنبري، تلملم هذا الشعثَ وهذا التشظي… فيرسمهُ على جغرافيته ويقدّم رؤية احتمالية للحوار ، وفك الحصار عن كينونته الأسيرة فيفتح نوافذ ذات بُعدٍ إنساني وروحي يعيد للأمّة سلامها والثّقة بذاتها.

من هنا تكون الكتابة مشروع تغيير ينطلق إلى غده المرتجى من و متوثّبة.

ولكن من يحاور هذا المشروع المقترح وهذه الرؤى وهذه المواقف؟ فالنصّ له رؤيته والقارئ له رؤيته. وهناك الموسوعة المعرفية العليا التي ينتمي إليها الاثنان: النص ككائن حيّ والشخصية القارئة. تلك الموسوعة في نصٍ مقدّس وقيم حضارية جامعة للروح الإنسانية.
من هنا تكون الرواية أو أيُّ عمل فني آخر، حياة مقترحة للفكرة لرؤية كاتبها ومواقفه. تلك الحياة افتراضية متخيلة بالحوار تصبح مرجعيّةً قابلةً للتطبيق والممارسة كواقع جديد.

وهذه الحياة المقترحة تشكل جسمها بنىً معرفيةٌ هي قدر مُشترك بين المتحاورين الثلاثة؛ النص والقارئ والنص الأعلى، لغةً وحركةً ثقافيةً (اجتماعية سياسية واقتصادية وأخلاقية ونظم وعادات وتقاليد).

الشخصيّة القارئة تفكك البنى لأنها من صنيعهم (أي البنى) وأساليبهم. اي نقرأ نصنا العربي بشخصيتنا الثقافية العربية الآنية المعاصرة والعميقة في مداها المعرفي. والقراءة هي توليد للمعرفة لتكون له حياةً جديدةً كالوليد بعد حمل زمني “كما كانت بشارة المسيح” و”إقرأ محمد. فما هي إذًا البنى المعرفية التي شكّلت حركة الفكرة للحياة المقترحة، أي رواية “العرّافة ذات المنقار الأسود”؟

ما هي الفكرة التي اقترح الكاتب حياة لها؟

ما هي الرؤى المبثوثة في روايته؟

الفكرة هي رسم جغرافيا الهوان التي وصل إليه شعبنا وأسبابه كمواقف والرؤية هي رسم خارطة الخروج منه. فاختار مجتمع الدجاج لا النسور وأخذ يشكل حركته مشتقًا له قاموسًا يناسب جسده الدَّجاجي وتواصلهم مع بعضهم البعض كالنق والقرق للكلام والريش للقتل والعرف للأبهة والمنقار والنقر للعراك والتفقيس روزنامة للوقت.

أول هذه البنى المعرفية الكبرى هي بنية “التنوع” أي المزرعة الذهبية الغنيّة بثرواتها والمتعددة الألوان باتجاهاتها وطبقاتها.
فما هي الحركات المكونّة لهويتها؟
هي تحت سيطرة الخرافة والجهل والغيبيات والتعلّق بالسلف (سهم ونقّار) أجدادهم.

تستغل العرّافة ذلك فيستشيرونها فتقدّم لهم المشورة التي هي في الأغلب حفرة يقعون فيها وهي في الأساس ، أي المشاكل من صنيع الجوهرة المكنونة تلك البنية المعرفية التي تسيطر من بعيد على العرّافة وتظهرها كأنها المنقذة. فلقد أوهمتهم أنهم أصيبوا باللعنة فلا يفقس بيضهم ذكورًا فأصوت بترك المكان الغني بالماء والمحصّن بالتلال للإنتقال إلى مكان مكشوف قليل الماء. وأوصت بتقديم القرابين للعرف المقدّس والحجُّ إليه حيث هو في مكان قصيِّ مقدسٍ. أرسلوا قائد عسكرهم ودّان في تلك المهمّة الصعبة آملة أن لا يعود من رحلته.

فها هم بذلك قد فقدوا : وفرة الماء والحماية الطبيعية وقلّة النسل وقيادة قوّتهم.

إذًا، هذه هي هويّة بيئة التنوع وحركتها. قد أصيبت بالعجز بإرشاد العرّافة ذات المنقار القاني. وهي كذلك، أي “المزرعة الذهبية” محاطة بفوضى العشوائيات جاهلة تنشر الخوف والسلب والنهب. هويتها تحاصرها وتدفع بها إلى سلوك سيوقعها في الضعف والهوان.
رحلة ودّان، القائد العسكري ستكون الطريق إلى اكتشاف الوعي وذلك حين يقابل الحكيم الأول والحكيم الأكبر للطيور “زغلول” فيكتسب الحكمة ويعود بها إلى قومه الذين ظنّوا أنه مات.

وإذا ما انتقلنا إلى البنية المعرفية الكبرى الأخرى وهي “العنصرية” عند اللون الأبيض التي تدّعي أنها المختارة من الإله ودستورها موجود في “الكشكول المقدّس” المغاير لما أتى به ” القائد ودّان”. تلك المنظومة المعرفية التي تعلمهم إنهم فوق كل الأجناس وأن المزرعة الذهبية “البنية المتنوعة” هي التي قهرتهم وشرّدتهم واستولت على أوطانهم. فعليهم إذن استرجاع مجدهم وجعل تلك الأمم عبيدًا لهم. فهم يتمتعون بالمعرفة وحسن التدبير والقوة وقد استعملوا ذلك كحركات نحو الآخر لتدميره والاستيلاء على مقدّراته. تلك هي هويّة هذه البنية التي تحاصرها أيضًا وتدعوها إلى فك الحصار عنها بتحقيق أهدافها. فهي قد نشرت الجواسيس في المزرعة “بقناع الجنون” والخبراء لإدارة الثروة والخدّامات لتريبة الأطفال على كراهية بعضهم البعض. وتخريب الأسرة والزراعة بحجة الرفاهية. فالنتيجة سلبت المزرعة قرارها وسيادتها وتركتها عرضة للخوف والجوع. وأرسلوا السّلاح مع الفتن … بذلك استطاعوا أن يحرموا المزرعة أمنها علاوة عما تتمتع به من جهل وسيطرة ذات المنقار القاني الي تمارس القتل بمن تشاء أو يشكّل خطرًا على مشروعها. ولكن بعد أن استفحل أمر الغلاء وفقدان الأمان وفقدان كل شيء أخذ الوعي يتسلل إلى بعض قادتهم مما دعاهم إلى حمل السّلاح والتدرب عليه.. بعد أن غزاهم اللون الأبيض بجيش دجاجي أبيض ضيّق عليهم في كل شيء.

فنرى أن العنصرية انتصرت وسيطرت واحكّمت ونصّبت من تشاء حاكمًا. ولكن بثورة واعية مضادة عاد “التنوع” فانتصر واندمج الجميع في جغرافيا واحدة. أستطاع أحد أبناء الخدّامات “نبلة” من ابن القائد “صفران” بعد أن سعت أمّه رنّة إلى أن يكون حاكمًا فقتلت ذات المنقار القاني وأبو نبّوت رئيس اللون الأبيض الذي ينافسها على الحكم وأنقذت ابنها من معتقله.

رنّة تزوّجت من ابن “ودّان” أيّ التحام بين البنيتين. أنجبا “نبلة حفيدًا لودّان فاكتسب من جدّه الحكمة والمحبة ومن أمّه الدهاء ومن أبيه صفران القوّة.

وتلك بنى تنفي عجز المزرعة الذهبية وتنفي عنصرية اللون الأبيض معًا بعد أن كانتا قد القتا في عمق ظلامي واحد وهو الماضي. ان قتل ذات المنقار القاني يبشّر بعهد جديد. أي تحرير الانتصار من الخرافات والخزعبلات وسيطرة المجهول، أيّ “الجوهرة المكنونة” “المنظّمة السريّة”. من هنا بدأنا نلمس الرؤية التي تريد العرّافة الرواية بثّها بالتحرر من خديعة الخبراء في ادارة الثروة واعادة الزراعة إلى أهلها كي لا يكونوا أمّة استهلاكية، غير منتجة.
إذًا طريق “رنّة” وهي من اللون الأبيض بفعل الحب واتهامها بالخيانة وتهديدها بالقتل لها ولابنها كانهذا الطريق ودّان في الحجّية لتقديم القرابين وأن يكون العرف الذهبي المقدّس في القلب لا في مكان قصيّ بعيد طريقها إلى التدبير. كل ذلك اجتمع في نبلة ابنهم بعد أن قابل حيرة.

فاجتمع لديه عصر جديد وجغرافيا تضم كل الأمم على متنوع أشكالها، فحصّنها بمساعدة من يخلص له ممن شاركه في انتصاره.

وهنا نلمس رؤية أخرى للتنوع حيث تسود الحكمة وحسن التدبير والمحبة. إذن تخلّصت المزرعة الذهبية من دجل العرّافة ومن سطوة “أبو نبّوت” ومن سيطرة عنصرية الكشكول المقدّس. آمنت ببيان “ودّان العائد بالحكمة من رحلته الحجيّة إلى العرف الذهبي.

هذا لم يرضِ الجوهرة المكنونة فحاصرت المزرعة من جديد وعزلتها حتى ضاقت بهم السّبل و وأمسوا على استعداد لقبول المساعدة. فهبطت عليهم “العرّافة ذات المنقار الأسود” مرسلة من الجوهرة المكنونة. أرسلتها كمنقذة، فطردت من يحاصر المزرعة من طيور غريبة. وانتهت الرواية لتبدأ من جديد.

ممما سبق نخلص إلى أن المزرعة الذهبية “اي بنية التنوع” قد تمكّنت من فك حصارها بفعل القوّة الذاتية وبفعل الحب كروح انسانية عامّة وبفعل الحكمة التي تشكل الروح العميقة للأمة فعادت إليها الثقة بالذات وبطاقات أهلها حقّقت حريتها واستعادت قرارها وسدّت الثغرات التي أوصت الحكمة بسدها من خيانات وتبعيات وعاشت السّلام، ولكن هذا لم يدم طويلًا ولم يرق للقوة الخفية، فعادت لتزرع ريح الفوضى بعرّافة جديدة قسرية الحضور في ظروف خلقها- خارجية تقتل ما في الدّاخل من امكانيات جديدة.

ويبدأ الصراع من جديد بوعي جديد.

***

* دراسة قدّمها الأستاذ سليمان جمعة في منتدى الربيع الأدبي -علي النهري خلال ندوة مناقشة الرواية بتاريخ 26 تمّوز 2024.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *