سجلوا عندكم

فيروز: حديث البدايات/ هذا الصوت هديَّة لهذا الوطن

Views: 149

سليمان بختي 

كانت نهاد وديع حداد (فيروز) تعيش في بيت متواضع في محلة زقاق البلاط ولا تزال معالم هذا البيت قائمة بانتظار العمل لتحويله إلى متحف تخليدا وتكريما لاسمها. في مقابلة أجرتها نازك باسيلا مع فيروز لمجلة “الأسبوع العربي” عام 1975 تظهر فيروز محبتها لهذا المنزل الذي كانت تحمل الزهور البرية إليه. وقد بلغ ولعها بالأزهار كثيرا فقالت لها أمها :”لك نهاد شايفي إني بدك جوزك جنيناتي”. إستهواها الغناء منذ طفولتها “لم يكن لدينا راديو. وكنت أسترق السمع إلى راديو الجيران وكنت أطيل المكوث في المطبخ ليتسنى لي الإصغاء إلى الأغاني فأحفظها لأن الصوت كان يأتي إلى المطبخ بشكل أفضل”. 

كان والدها، منضد الأحرف في جريدة “لوجور” يريد لابنته أن تصبح موظفة، وكانت هي ترغب أن تكون معلمة. وكم كانت صورتها معلمة مطابقة لحلمها الأول في فيلم “بنت الحارس” تغني للأطفال في الصف “تك تك يا إم سليمان”.. فنرجع معها كلنا أطفالا. 

منزل فيروز في زقاق البلاط

 

ولكن ماذا كان يحدث على الخط الثاني  من القدر؟ عام 1947 أقرت الحكومة اللبنانية عيدا للشجرة في الأحد الأول من كانون الأول من كل عام. وقررت اللجنة المسؤولة أن يكون ليوم الشجرة نشيد خاص لينشده تلاميذ المدارس في الاحتفال ودعت الشعراء للمشاركة في إعداد النشيد والتقدم بقصائدهم إلى اللجنة، وكان من أعضائها: بدر دمشقية والدكتور فؤاد غصن والكولونيل سليمان نوفل. وفازت قصيدة الشاعر محمد يوسف حمود وتم تكليف الأخوين فليفل بإعداد النشيد وتلحينه. جال محمد فليفل على المدارس الرسمية لاختيار التلاميذ الذين سيغنون النشيد. وصل إلى مدرسة الإناث الأولى في منطقة حوض الولاية وقدمت له مديرتها سلمى قربان تلميذة اسمها نهاد حداد. سألها :” هل تحبين الموسيقى والغناء؟” أجابت بخجل :” طبعا ومن لا يحب الأغاني والموسيقى”. قال محمد فليفل :” أرى في صوتك جمالا مميزا، هل تودين متابعة الطريق عبر الكونسرفتوار؟” أجابت :” يا ليت.. لكن يجب أن أستشير والدي”. 

قال :” جربي إقناع والدك… وأنا أتعهدك حتى النهاية”. 

محمد فليفل

 

قصد محمد فليفل بيت وديع حداد في زقاق البلاط وقابله لنيل موافقته على مشاركة ابنته نهاد في الفرقة. وافق الوالد مقابل شرطين: الأول أن لا تغني في المقاهي والملاهي، والثاني أن يرافقها شقيقها جوزف إلى الكونسرفتوار في الذهاب والإياب. قال محمد فليفل “إنها ستغني مع بناتي ومع الفرقة”.

ويتابع سليم محمد فليفل القصة في مقابلة مع جان شاهين :”حتى العام 1951 كانت نهاد حداد كأحد أفراد البيت وكانت صديقة أختنا الكبرى زكية وإذا تأخر الوقت في التدريب تنام عندنا. ومع احتضان أسرتنا لنهاد ضمتها أيضا إلى فرقتها الغنائية بعدما دأب الوالد على تعليمها الإنشاد والسولفيج والتجويد القرآني”.

تبنى محمد فليفل نهاد حداد موسيقيا ويروي:” اتصلت بوديع صبرا مدير الكونسرفتوار وطلبت تسجيلها على نفقتي لكن الأستاذ صبرا، رحمه الله، سجلها من دون مقابل إكراما للخدمات التي أسديتها للمعهد. وصارت تحضر إلى الكونسرفتوار كل ثلاثاء وخميس من كل أسبوع لتتعلم أصول النوتة الموسيقية”. 

 

يقول محمد فليفل بحسب كتاب “اللحن الثائر” لمحمد كريم وجورج حرو: “درست صوتها، كان من الصوت الرنان. وبعد تحليله وجدت أنه لا يزيد في الارتفاع والانحفاض عن التسع درجات وبالمران استطعت أن أرفعه إلى العشرة”.

جنّبها فليفل التفجر الصوتي وأبعدها عن الطبقات المرتفعة ونصحها بالابتعاد عن الحوامض والمكسرات والبهارات ودربها على تأدية الأناشيد التربوية والكلاسيكية المختفلة الأنغام. بعد خمس سنوات من التدريب في الكونسرفتوار وفي منزل آل فليفل، باتت الموهبة على أهبة الانطلاق والتحليق في عالم الفن.

اتصل محمد فليفل بمحطة “الشرق الأدنى” لقبولها كمطربة. استمع إليها رشاد البيبي وأثنى على صوتها وطلب إمهاله بعض الوقت لتحقيق ذلك.

قصد محمد فليفل مدير الإذاعة اللبنانية فايز مكارم وسأله الطلب إلى لجنة امتحان الأصوات المؤلفة من حليم الرومي وخالد ابو النصر وتوفيق الباشا ونقولا المني الاستماع إلى صوت نهاد حداد وتقييمه. عيّن يوم الامتحان وقبل أن تدخل نهاد حداد إلى غرفة الامتحان انفرد محمد فليفل بتلميذته وقال لها:” لا تغني أيًّا من أناشيدي اثناء تأدية الإمتحان، ولا تؤدي أي لحن من ألحان أعضاء اللجنة وقد تثيرين حساسيتهم، وهناك مثل شعبي بيروتي يقول:” ما في شحاد يحب صاحب مخلاية”.

 

غنت نهاد حداد في الامتحان أغنيتين: الأولى ” يا ديرتي ما لك علينا لوم” لأسمهان ومقطعا من أغنية ” يا زهرة في خيالي” لفريد الأطرش. توقف حليم الرومي الذي صاحبها على العود عن العزف مرتين وراح يحدق فيها غير مصدق أن هذا الصوت هو صوت هذه الفتاة النحيلة. وهمس لمحمد فليفل “مطربة كاملة يا حاج”.

ادهشت نهاد حداد اللجنة وأحسوا جميعا أنهم أمام ثروة فنية وطنية. تلقى محمد فليفل التهنئة من مدير الإذاعة واللجنة على هذا النجاح الباهر لتلميذته. كبر قلبه ورد بالقول:” هذا الصوت أقدمه هدية لهذا الوطن الذي له علينا جميعا. إنها أمانة أتركها بين أيديكم فأرجو أن تصونوها”.

سأله فايز مكارم عن الشروط التي يريدها لعمل نهاد في الإذاعة أجاب:”أرجو تقييمها كصوت نادر وتلميذة أكملت دروسها الموسيقية”. واستقر الرأي، بقبولها كمطربة تغني الصوت الأول منفردة ولا مانع أن تصاحبها فرقة الكورس، وأن لا تخضع لدوام رسمي، وأن يكون راتبها الشهري مئة ليرة لبنانية.

لم يدر بخلد نهاد حداد (فيروز) أن ستديو رقم 6 في الإذاعة اللبنانية سيطلق عليه وزير الإعلام اللبناني رمزي جريج عام 2016 اسم ستوديو فيروز. المهم، عندما خرجت نهاد حداد من الغرفة جرى نقاش بين الملحنين بأن صوتها سيكون مجليا في الألحان الشعبية. بينما كان رأي حليم الرومي أن صوتها يتمتع بقدرة أداء جميع الألوان الغنائية. خيرها حليم الرومي بين اسمين فنيين : شهرزاد أو فيروز، فاختارت الاسم الأخير لوجود مطربة في مصر تحمل اسم شهرزاد.

لحن لها حليم الرومي عددا من الأغاني ومنها :”تركت قلبي وطاوعت حبك” و”في الجو سحر وجمال” و” يا حمام يا مروح بلدك” و”أحبك مهما أشوف منك” و”يا ورد يا احمر” وقصيدة “لا تعزليه” ونشيد “يا بلادي” و”حق الهوى يا قلبي إلك” و”يسعد صباحك”. ومن المحاورات الغنائية التي غنتها مع حليم الرومي “عاشقة الوردة” واسكتش ” عنتر وعبلة” و”أحلام الشرق”.

وغنت لخالد أبو النصر من شعر إيليا ابو ماضي ” وطن النجوم أنا هنا” كما غنت لحنين لنقولا المني ” يا ويلك من ربك” و”يا بايع قلبك”.

وغنت من ألحان جورج فرح “رومبا غيوم” و”رومبا يا قمر” و”رومبا الجمال” ثم “سامبا الكروم” مع جورج عازار وتانغو ” أين حبيبي” بمشاركة كلوفيس الحاج، وهي من ألحان جورج ضاهر غنت ” نشيد المهاجرين” وشاركها بالغناء ، وغنت له أيضا ” يا قلب حاج تنوح” ونشيد “نحن البنات اللبنانيات” وغنت مع كورس مؤلف من أربع آنسات بحسب مجلة الإذاعة: ليلى الصعيدي، كروان، فيروز وآمال. 

عاصي الرحباني

 

ويذكر حليم الرومي في مذكراته أن فيروز التقت بتكليف منه بالملحن عاصي الرحباني الذي بدأ ينتج لها منذ 1951 الأغاني والألحان الشعبية. وفي سنة 1953 أنتج أغنية ” عتاب” التي فتحت لها باب الشهرة. وإضافة إلى أغنية ” حبذا يا غروب” التي كتبها الشاعر قبلان مكرزل. في الإذاعة اللبنانية تم التعارف والتعاون بين فيروز وعاصي الرحباني والذي تكلل بالإرتباط والزواج في 23 كانون الثاني 1955.

 

في حديثه إلى مجلة ” أهل الفن” سنة 1955 يقول عاصي الرحباني ” كنت أقوم بإعداد برامج موسيقية غنائية للإذاعة، وفي يوم دعاني حليم الرومي رئيس قسم الموسيقى للاستماع إلى صوت جديد، فرأيت فتاة صغيرة تحمل كتابا ومعها أبوها، وسمعت صوتا وقلت ” لا بأس” إلا أني آمنت أنها تصلح للغناء. وقال أخي منصور أنها لا تصلح إطلاقا للغناء الراقص. وبدأت أعلمها فكانت أحسن من غنى هذا اللون…ومن هنا نعرف مبلغ صدق حكمنا على ألأشياء”. 

هذا اللقاء الذي جعل من إبداعات الأخوين الرحباني فضاءً رحبا وملونا وخلابا في صوت فيروز وطريقا ملكيًّا إلى النجوم. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *