التنوير الناقص وتجربة عمانوئيل كانط في تحديد امكانات العقل وقدراته
وفيق غريزي
ثمة تجربة شائعة في تاريخ الفكر الفلسفي في كتاب كانط “نقد العقل”، التي قام بها الفيلسوف الالماني، وهي تجربة فريدة ورائعة حددت امكانات العقل وقدراته، وبينت أنه عاجز بطبيعته عن ادراك حقائق الأشياء أو “الأشياء في ذاتها”، وانه قادر فقط على ادراك ظواهر الأشياء، أو الأشياء كما تبدو لنا، وذلك لأن مقولاته قاصرة فقط على الأشياء المحسوسة المتزمنة المتمكنة، أو من حيث هي في زمان معين، ومكان معين، أو لأن مقولاته على حد تعبير كانط، لا يمكن استخدامها استخداما متعاليا، وعدم ادراك العقل “الشيء في ذاته” لا يعني في رأي كانط انه غير موجود، بل يعني فقط أن العقل لا يستطيع أن يتجاوز المحسوس إلى ما خلفه. وهذه السمة التي يتسم بها العقل هي التي جعلته يذهب إلى القول بأن الله والنفس وحرية الارادة مسلمات ضرورية لإقامة الاخلاق، أي مسلمات العقل العملي، ولا يمكن البرهنة عليها على اساس عقلي بل على اساس خلقي محض.
المفكر محمد المزوغني تناول هذه المسألة في كتابه “عمانوئيل كانط -الدين في حدود العقل”. وفيه يستعرض المحاولات النظرية والعملية التي تجابه الفكر الديني كله، وذهبت الاستنتاجات والتحليلات بالمؤلف الى تبيان وسطية كانط ومنحاه التوفيقي الذي يجمع بين الاتجاه العقلي والاتجاه الديني.
الإشكالات اللاهوتية
إن مجابهة الإشكالات اللاهوتية ومحاورة الفكر الديني، عموما، تتطلبان اساسًا معرفة عميقة ونظرة شاملة، وتفترضان ايضًا قدرًا من الجرأة النظرية والإقدام النقدي، ووعيًا تامًا بالمسؤولية. وعلى حد تعبير المؤلف المزوغني “فإن كان العارف مقتنعا بمبادئه وافكاره وقادرًا على تقديم البراهين العقلية والحجج الدامغة، والردّ على الاعتراضات وتبكيت الخصم، وكان صادقا مع نفسه ومحبًا للحقيقة، فمن واجبه الإفصاح عن آرائه والبوح بأفكاره، ولا ينبغي له كبتها في نفسه كي لا تفنى معه إلى الابد.
ويشير المؤلف إلى أن كانط بعدما تكلّم في العقل ومبادئ الطبيعة وأسس الرياضيات والفيزياء وشروط إمكانيات العلوم، وبعدما أسهب في الفحص عن الأخلاق ومنبعها وأسسها النظرية، وعن ملكة الذوق والجمال، كان مفترضا أن يكون نسقه قد اكتمل ووصل المشروع النقدي إلى حده النهائي. لكن كانط رأى أن فلسفته النقدية لن تكتمل إن لم يفحص فحصًا جديًا عن موضوع الدين ويخضعه لتحليل نقدي صارم، وهذا نابع عن اقتناعه بأن التنوير لا يمكن أن تستكمل أسبابه إن لم يستقّل الانسان برأيه في امور الدين، ذلك لأن القصور في الأمور الدينية هو من بين اكثر انواع القصور ضررا واهانة. والأمر الذي لا شك فيه أن كانط لم يهمل عنصر الايمان في فلسفته، ولم يعر أي اهتمام للعامل الديني في الحياة العقلية للناس، لأن كانط هو اكبر من أن يكون جاحدا للدين أو كافرا بتعاليمه، بل هو مؤمن ايمان الفلاسفة الربوبيين الذين لا ينكرون المعتقدات الشعبية ولكنهم في الوقت نفسه ينظرون إلى دين عقلاني يجاري تعاليمهم الاخلاقية ويلبّي حاجاتهم النظرية. ولقد فهم كانط الدين على هذا النحو، مع العلم أن مواقفه لا تخلو من شيء من الغموض والتذبذب. وهذا الأمر عائد الى قناعات شخصية، إيمانية فلسفية، تربّى عليها فحكمت إنتاجاته النظرية والاخلاقية واللاهوتية.
استخدام العقل
ينظر كانط الى الطبيعة الإنسانية على انها طبيعة موسومة بالشر، وان هذا الشر الجذري مغروس في عمق الانسان ولا يمكن اجتثاثه منه أو تخليصه من قبضته بأي وسيلة من الوسائل، في مقابل التوق إلى التحرر الذاتي باستخدام طاقات العقل بكل حرية ورفض اية وصاية من خارج، فإن فكرة الشر في الطبيعة الانسانية لا تعمل إلا على تبرير الحد من الحرية الفردية وضرورة تدخل سلطة عليا ملزمة ومشرعة بلا قيد أو شرط، ويؤكد المؤلف ضرورة البدء في أن نسجّل أن تحديد مجالات الفكر الحر ثم التمييز في استعمال العقل بين مسموح به وآخر محظور، يعبران في جوهرهما عن إسقاطات ما بعدية ذاتية تعود بنا إلى مرحلة ما قبل التنوير. ولا يمكن أن يرجع هذا الموقف إلى الحيطة أو الى نوع من التقيّة، فأوضاع الحريات العامة في الوقت الذي نشر كانط مقاله، في الشر الجذري، لم تكن بتلك الحدة والاختناق. المغزى الأساسي من أطروحة كانط هو أنه لا ينبغي لنا استخدام عقلنا بحرية في جميع الحالات وعلى النحو الطليق، هناك مجال مسموح فيه للمواطن باستعمال عقله بحرية تامة، وهو مجال الاستخدام العام لعقلنا، أي، كما يعرفه كانط “ذلك الذي يقوم به المرء حينما يكون عالما باتجاه الجمهور الذي يقرأ”. وفي المقابل هناك مجال تحدد فيه الحرية تحديدًا صارمًا، ولا يسمح فيه لأي احد بالإدلاء بآرائه أو نشرها ولا تعليمها للناس، وهذا هو الاستخدام الخاص للعقل، أي ذلك الذي يعطينا الحق في ممارسته من موقع مدني، أو أية وظيفة أنيطت به.
ولقد لاحظ كثير من الباحثين والدارسين أن كانط قلب معاني الألفاظ وعكس دلالاتها،
” فمن وجهة نظر لغوية، بحث العام هو عكس الخاص، واذا وصفنا عملا ما، أو اي نشاط فكري أنه خاص، فهذا يعني أنه لا يشمل المجموعة، ولا كل أفرادها، بل يخص عنصرًا واحدًا بمفرده والعكس صحيح؛ ولكن كانط يقول المؤلف: “سمّى استخداماً عاما للعقل”، ما هو فعلا استخدام خاص، والعكس صحيح.
العقل بين العلم والايمان
لم يكن كانط مفكرًا ماديًا معاديًا للدين أو منكرًا تعاليمه، فقد تربّى في احضان اللاهوت البروتستانتي وتشبّع بمبادئ التديّن التقوي. ويؤكد المؤلف أن كل كتابات كانط منذ مستهل إنتاجاته الفكرية حتى آخرها، مخترقة بألهم الديني، وتعبّر عن شواغل ذات علاقة مباشرة باللاهوت وبقضايا ميتافيزيقية صميمية ومحدودة.
ومع ذلك لم يكن ايضا من المتدينين التقليديين أو المؤمنين الذين يسلمون، دون نقاش أو إعمال العقل في اسس العقائد الدينية وفي ركائزها النظرية وتعاليمها اللاهوتية. كانط كان فيلسوفا بالدرجة الأولى، ملما بأحدث ما توصلت اليه النظريات العلمية، ومطّلعا على السجالات الفلسفية الدائرة في عصره. وقد دخل في معمعة الفكر الفلسفي بكل جدية وحزم وتشبّع بتعاليمه، ويقول المولف : “هو صاحب العقل النقدي الذي لا يركن لما تقدمه اليه الاديان ولا يعبأ بالأفكار المسبقة ولا يعترف بقدسية الآراء والمعتقدات إن لم يضعها اولاً على محك العقل ويخضعها لمحكمة النقد”
معارضة كانط للالحاد تظهر بوضوح في كتابه” نقد العقل المحض”، حيث يشيد بمشروعه النقدي وبأهميته النظرية واستتباعاته الاخلاقية والعملية قائلا: “إن النقد فقط هو وحده القادر على اجتثاث جذور المادية، والقدرية، والالحاد، وكفر المفكرين الاحرار”.
تشظّي الذات الإنسانية
الإنسان في جوهره هو العقل، والعقل هو ملكة التفكير، التي تميّزه عن جميع الكائنات، بل هو ينتمي إلى مملكة الطبيعة من حيث ملكاته الحسية، لكن الخيال والتذكّر والعقل النظري تتخطى المعطيات العينية وتمكّن من اكتشاف قوانين شاملة موضوعية تجعل من استخدام العقل امرًا مشروعا وممكنا. ويرى المؤلف محمد المزوغي أن العقل الإنساني هو وحدة متكاملة. ومن وجهة نظر مادية هناك تواصل بين الطبيعة، أعني دماغ الانسان، وملكاته العليا، الاحساس والخيال والتعقل، ما يكوّن ملكة التفكير ناتج عن بنية المادة المكوّنة للدماغ. لكن كانط لا يذهب هذا المذهب، لأن ملكة التفكير عنده تنقسم إلى قسمين: الاول هو الفاهمة ثم يأتي العقل المحض، ولكل منهما مجاله الخاص. فإذا كانت الفاهمة هي القدرة على توحيد الظاهرات بواسطة قواعد، فإن العقل هو القدرة على توحيد القواعد الفاهمية في مبادئ، هو اذن لا يتصل البتة مباشرة بالتجربة ولا بأي موضوع آخر، بل الفاهمة كي تضفي على متنوع معارفها قبليا، وبمفاهيم، وحدة يمكن أن نسميها وحدة عقلية، وحدة من ضرب مغاير كليا لتلك التي يمكن أن تقدمها الفاهمة.
ويعتقد المؤلف أن المفاهيم العقلية المحض هي مثل متعالية، تفرضها طبيعة العقل، وهي مفارقة، تتخطى حدود كل تجربة، لان المثال من حيث هو مفهوم أقصى لا يمكن أن يعطي قط عيانا على نحو ينطبق فيه المفهوم والموضوع، فالموًمن من تعود اليه قناعاته الايمانية صحيحة وسالمة، وبالإمكان أن يطمئن إلى أن المثل المتعالية تقدم له أسباب العمل الخلقي وتضمن استقامة افعاله، لكن بشرط أن يتنازل عن اعتقاده الراسخ بوجودها أو حتى محاولة البرهنة عليها عقليا. ويشير المزوغني إلى أن المقصد النهائي الذي يودي اليه اعتبار العقلي استعماله المتعالي يخص موضوعات تلاثة: حرية الارادة، خلود النفس، ووجود الله. وبالنظر الى الثلاثة مجتمعة، ليس غرض العقل الاعتباري المحض سوى غرض ضعيف جدا، فالعلم بهذه الامور والتيقن منها، هذا إذا كان بمقدورنا ذلك، لا يمكن أن يكونا لنا بمنزلة مبادئ تفسيرية للظواهر الطبيعية.
هذا ما يقدمه كانط من عزاء في كتابه “نقد العقل المحض” سواء للفيلسوف أو للمؤمن. وبالنسبة الى الفيلسوف أو الى العالم فهو يزيل من امامه اي امكان للإمساك بجوهر الأشياء معرفتها كما هي، اي استحالة معرفة الشيء في ذاته، بسبب أن العقل محكوم في تكوينه الداخلي بقوالب تمنعه من الخروج منها. أما بالنسبة إلى الرجل المؤمن فإن كانط يهدهده ثم يصفعه، فهو لا ينكر الالوهية بل يدعمها ويجعل منها مركز القانون الاخلاقي، ولكنه في الوقت نفسه، ينصحه بأن يترك نهائيا، يقينه بالوجود الخارجي لتلك الكيانات المتعالية، والإعراض التام عن البحث في وجودها أو عدم وجودها. فمن زاوية نظرية بحتة، تلك الكيانات تبقى إلى الأبد بعيدة بعدا سحيقا عن إدراكنا الإنساني.
إن القراءة النقدية للمشروع النقدي الكانطي من المنتظر أن يكون لها صداها في أوساط الدارسين والمؤرخين والمتابعين وذوي الاختصاص، وهذه القراءة المتمثلة في كتاب كانط “الدين في حدود العقل”…